رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

كيف تموت الأمم.. وهل بدأت أمريكا فى السقوط؟

فى مُقَدَمة ابن خلدون ذكر مؤسس علم الاجتماع عبدالرحمن بن خلدون عدة أسباب لسقوط الدول والممالك العظمى، ومنها قوله إن الظلم مؤذن بخراب العمران، أما أشهر المؤرخين فى القرن العشرين البريطانى أرنولد جوزف توينبى، فقد ذكر فى كتابه الشهير «مختصر دراسة التاريخ»، أن الحضارات تتعرض للفناء والاندثار، مثلها مثل الأفراد والتنظيمات والدول، فليس من أحد محصن ضد الزوال، ويصل توينبى فى إحصاءاته إلى نحو 600 مجتمع بدائى ولدت منها 32 حضارة اندثر معظمها، وأضاف أوسفالد شبينجلر، الفيلسوف الألمانى الشهير، والذى عُرف بكتابه «انحدار الغرب» نظرية عن سقوط وازدهار الحضارات والأمم وأن ذلك يتم بشكل دورى، ويغطى كل تاريخ العالم وقدم نظرية جديدة جعل فيها عمر الحضارات محدودًا وأن مصيرها إلى الأفول، ولعله تأثر بما كتبه ابن خلدون فى هذا المجال، أما المفكر المغربى حسن أوريد، صاحب كتاب «أفول الغرب»، والذى بسببه أثارت صورة متداولة لشيخ الأزهر الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب وبجانبه نسخة الكتاب على الطائرة خلال عودته من رحلة علاجية فى أوروبا جدلًا واسعًا على مواقع التواصل الاجتماعى وهو الكتاب الذى يُعد قراءة نقدية لقوة تغرب شمسها ويقصد بها قوة الغرب، وكل هؤلاء المؤرخين والفلاسفة يؤكدون أن الممالك والقوى العظمى فى التاريخ الإنسانى قد يكون مصيرها إلى الموت والانهيار والزوال لأسباب متعددة منها جنون العظمة الذى يصيب حكام الإمبراطوريات العظمى وهو ما يدفعهم إلى ارتكاب المظالم الفادحة فى حق الإنسانية، وقد يؤدى هذا إلى تصارع أبنائها على السلطة وخروج الصراع بين السلطات والشعب عن إطاره الديمقراطى المتفق عليه، فتسود سلطة الفكر الواحد والفرد الواحد دون الرجوع إلى مؤسسات الدولة. وهذه الخلفية التاريخية ومعها آراء الفلاسفة والمؤرخين والمحللين يمكن تطبيقها على منهج وأسلوب إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، ولعلنا نتذكر اقتحام الكابيتول قبل أربع سنوات بعد رفض ترامب نتائج الانتخابات الرئاسية التى خسرها وقتها لصالح الرئيس بايدن. وهو اليوم الذى يمثل حلقة مظلمة فى التاريخ الأمريكى الحديث عندما اقتحم فيه أنصار الرئيس دونالد ترامب مبنى الكابيتول وعطلوا جلسة مشتركة للكونجرس لفرز الأصوات الانتخابية، وهو ما كان يهدد الولايات المتحدة الأمريكية بحرب أهلية تُنتج صراعًا بين أبناء الوطن الواحد على السلطة وكرسى الحكم وتصيب الديمقراطية فى مقتل، ومع عودة ترامب إلى البيت الأبيض فى فترة رئاسته الحالية، فإن أنصاره مازالوا متمسكين بمعتقداتهم أكثر من أى وقت مضى، خاصة بعدما أصدر ترامب عفوًا عن 1500 وخفف أحكام 14 من أنصاره فيما يتعلق بأحداث اقتحام الكونجرس فى 6 يناير 2021، وهو ما وعد به فى حملته الانتخابية، وهذا القرار يجسد لفلسفة ترامب فى بناء جيش شعبى ضاغط من أنصاره يلقى به دائما كلما أراد فى قلب الأحداث داخل أمريكا مثل كرة اللهب المشتعلة، وهو الفكر الذى تعتنقه وتحترفه الجماعات المتطرفة والمصنفة على قوائم الإرهاب مثلما كانت مسيرة وأفعال تنظيم الإخوان المسلمين فى مصر منذ قيام ثورة يوليو 1952 وحتى الوصول إلى أوج مخططاتها ضد الوطن فى العقد الأخير فى مصر، ثم إن ترامب يمارس الآن السبب الأهم الذى يهدد أمريكا بالسقوط والانهيار وهو الظلم المؤذن بخراب العمران، كما ذكر ابن خلدون، فهو يمارس الآن أشد أنواع الظلم بمخططه لتهجير الفلسطينيين من أراضيهم ووطنهم، ثم إطلاق أحلامه الواهمة الظالمة بالاستحواذ على غزة وتسويتها بالأرض لاستغلال الأرض فى مشروع استثمارى استعمارى يعود بنا إلى تاريخ الظلم والظلام الاستعمارى القديم، وهذا الظلم لم يمارسه ترامب فقط ضد غزة بل استخدم استراتيجية عدائية ضد المكسيك وكندا وبريطانيا والدنمارك وكولومبيا وروسيا والصين وإيران وبنما، فى محاولة منه لإجبار تلك الدول على تنفيذ أوامره الفردية فى قضايا التجارة والهجرة غير النظامية والنزاعات الجيوسياسية، بالإضافة إلى تعزيز هيمنة الدولار عالميًا، ورأيناه يهدد المكسيك وكندا بفرض رسوم جمركية بنسبة 25% على الدولتين ما لم تتصديا للهجرة غير النظامية ووقف تدفق عقار الفنتانيل، كما هدد كولومبيا بفرض رسوم جمركية وعقوبات مما دفعها للموافقة على استقبال المهاجرين المرحّلين من الولايات المتحدة، وهدد الصين بفرض رسوم جمركية بنسبة 10% على جميع الواردات، ثم هدد روسيا بفرض الضرائب والتعريفات الجمركية والعقوبات ما لم تنه الحرب فى أوكرانيا، أما الدنمارك فقد هددها بفلسفة الطغاة المستعمرين بفرض رسوم جمركية ما لم تتنازل عن سيطرتها على جرينلاند لصالح الولايات المتحدة، كما هدد بفرض تعريفات جمركية بنسبة 100% على دول مجموعة البريكس، ولا ننسى تهديده بمحو إيران من الوجود إذا حاولت اغتياله، ثم أراد الاستحواذ على قناة بنما، وبعد ذلك وقع ترامب فى حفرة السبب الثالث من الأسباب المؤدية لانهيار وزوال الدول الكبرى، فقد ذكرت صحيفة نيويورك تايمز أن إعلان دونالد ترامب مقترحه بأن تمتلك الولايات المتحدة قطاع غزة قد أصاب كبار مسئوليه بالبيت الأبيض وبالحكومة بالصدمة وأن إدارته لم تقم حتى بالتخطيط الأساسى لفحص الفكرة، وفقا لأربعة من فريقه الرئاسى المطلعين على المناقشات، والذين رفضوا الكشف عن هوياتهم لأنهم غير مخولين بالحديث علنًا، وهذا يعكس أن ترامب يتخذ قرارات بعيدة عن مؤسسات الأمن القومى الأمريكى،
كل ما سبق وبالتحليل الدقيق يؤكد أن ترامب قد ارتكب الأسباب التاريخية التى قد تؤدى إلى انهيار أمريكا فى المستقبل، فهو يوطن بسياساته إلى احتمالية إشعال حرب أهلية فى أمريكا عند أى صدام له مع القوة المعارضة الأكبر فى الولايات المتحدة وأقصد هنا الحزب الديمقراطى، ثم إنه يأخذ خطوات ثابتة فى وحل الظلم الذى يؤذن بخراب العمران، ثم إنه ينفرد بقراراته بعيدا عن مؤسسات الدولة العميقة فى أمريكا وجميعها أسباب قد تصنع رأى عام خارجيا وعالميا ضد أمريكا، ورأى عام داخليًا ضد دونالد ترامب نفسه، وهنا ينبغى أن نتذكر نظرية شبينجلر الذى يؤكد أن الأمم قد لا تسقط فجأة، لكنها بفعل وقوعها فى أسباب الزوال، ومنها الأسباب الثلاثة التى أوضحتها فقد تتخشب وتتيبس مفاصلها، ثم تكون هشيمًا تذروه الرياح. وهى مرحلة على حد قوله تؤدى إلى موت لا راد له، وأن هذا يحدث فى عقود، ووقتها يكون للسقوط دوى عظيم، لذلك ألتفت باحترام وتقدير إلى تصريح الرئيس عبدالفتاح السيسى الذى قال فيه إن الرأى العام المصرى والعربى والعالمى يرى أن هناك ظلمًا تاريخيًا وقع على الشعب الفلسطينى طوال 70 عامًا وأن مصر لن تشارك فيه، هذه كلمات قائد محنك يقرأ التاريخ جيدًا، وقرر ألا يربط وطنه بمصير أمم تأخذ خطواتها نحو السقوط.