رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فى الصميم

تهويد التاريخ المصرى.. المؤامرة والمقاومة «2»

من أين يبدأ التاريخ المصرى القديم؟ ولم؟ ومتى؟ وأين؟... «سؤال الأسئلة» التى يطرحها مؤلف كتاب «تهويد التاريخ: إعادة ترتيب القوائم الزمنية للتاريخ القديم»، أ. «رضا الطويل»، الذى قدمنا له فى المقال الفائت.

يستعرض الكاتب فى القسم الأول من الكتاب، والمُعنون بـ«حدود وطبيعة المعرفة التاريخية فى الزمن القديم»، جهود المؤرخين العرب والمسلمين: «ابن إياس، والمسعودى، والتيفاشى، وابن الحكم، وابن عباس»... وغيرهم، لكتابة التاريخ المصرى، غير أن محاولاتهم لكتابة تاريخ مصر القديم، ولصياغة «روزنامة» زمنية متصورة لمراحل تطور مصر والمصريين، هذه الكتابات، كما يرصد المؤلف، «استندت إلى الموروث الشعبى المتناقل من قصص وأساطير وخرافات» متأثرة فى ذلك بـ«الرواية التوراتية» الذائعة، ولا يبدو هذا الأمر غريبًا فى غياب القدرة على فك طلاسم اللغة الهيروغليفية من جهة، والاعتماد على الروايات الشفاهية، والتأثر بالسرديات العبرانية، والتى «اخترعت» تاريخًا لا يستند إلى أساس مادى أو ركيزة موضوعية، استطاعت أن تروج له، وتنشره باعتباره الحقيقة الدامغة، ومنها أكذوبة بنائهم الأهرامات، وهى أكذوبة يملك الإسرائيليون المحدثون الجرأة، أو لنقُل الصفاقة أو الوقاحة لترديدها، والكتابة عنها، وتسويقها عالميًا من خلال الهيمنة على أجهزة الإعلام، والسينما، ووسائط الميديا الحديثة، وانتهاز كل فرصة سانحة لتثبيت ونشر هذه الأكاذيب باعتبارها حقيقة مؤكدة، على نحو ما فعل «مناحم بيجن» رئيس الوزراء الصهيونى الأسبق، فى المؤتمر الصحفى الذى عُقد بمنتجع «كامب ديفيد»، يوم ١٧ سبتمبر ١٩٧٨ لإعلان نتيجة المحادثات المصرية- الإسرائيلية برعاية الولايات المتحدة، حين تحدّث مادحًا الرئيس الأمريكى: «يجب تسمية مؤتمر كامب ديفيد مؤتمر جيمى كارتر. أعتقد أنك (موجهًا الحديث لكارتر)، بذلت جهدًا فاق الجهد الذى بذله أجدادنا فى بناء الأهرام»!. 

والغريب أن «أنور السادات» و«بيجن» و«كارتر» انفجروا فى الضحك والتصفيق، دون أى رد على هذا السطو العلنى على رمز حضارة المصريين وتجسيد عبقريتهم!... كما صرّح «بيجن» لدى زيارته مصر فى العام التالى، ودون رد أيضًا، بأنه: «سعيدٌ لزيارة مصر ومُشاهدة الأهرام التى بناها أجداده من اليهود»!.

ويورد المؤلف مقارنة موحية، طريفة وذات دلالة، بين بناء «هيكل سليمان» والأهرامات المصرية، مستقاة من المعلومات المذكورة فى كتاب «ليوتاكسل»: «التوراة كتاب مقدس أم جمع من الأساطير؟»، فيذكر أن بناء «الهيكل» احتاج، حسب مصادرهم، إلى جهد سبعين ألفًا يحملون أحمالًا، وثمانين ألفًا يقطعون الصخور فى الجبل، وثلاثة آلاف وثلاثمائة رئيس ووكيل، وكل هذه الجحافل البالغة ١٨٣٫٣٠٠ عامل، فضلًا عن عُمّال المعاونة والخدمات، من أجل تشييد بيت طوله ٣١ مترًا، وعرضه ١٠.٥ متر، وارتفاعه ١٥.٥ متر، مؤلف من ثلاث غرف لا غير، ويشغل مساحة لا تزيد عن ٣٢٥ مترًا مربعًا، احتاجوا إلى عمل جهيد لمدة سبع سنوات متواصلة!

وبهذا المقياس فإن عملية بناء الهرم المصرى، البالغ ١٦٣ مرة ضعف مساحة الهيكل، تقتضى جهد ٢٩٫٨٧٧٫٩٠٠ عامل، يكدّون لمدة سبع سنوات لتشييد هذا الصرح البالغ ارتفاعه عشرة أضعاف ارتفاع «بيت الرب» المزعوم الذى فى أورشليم!، وهو ما يعنى الاحتياج إلى ١١٤١ عامًا لبناء الهرم الأكبر بنفس عدد عمال بناء الهيكل!!

وقد أرجعت الدراسات الموضوعية الغربية، وكثير منها كتبها علماء ومؤرخون يهود، اعتماد الكثير من سرديات «العهد القديم» على الميثولوجيا المصرية والبابلية، التى اقتنصها كُتّاب وأحبار اليهود، ودمجوها فى متون مقدساتهم وغيبياتهم المبجلة، وجاعلينها وحيًا من السماء لا يعلوه وحى، وهو ما وصفه «موريس بوكاى» ببلاغة: «لقد خلق شعب إسرائيل الأسطورة وصدّقها»!! 

واقتضى الترويج لهذا التاريخ المزعوم التهويل فى شأن وعطاء العبرانيين، وعلى حساب الجهد المصرى الأسطورى المحقق والثابت على أرض الواقع، وهو أمر لم تؤثر فيه كثيرًا الصياغة التى قدمها «هيرودوت» لتاريخ مصر والمصريين، فنظرًا لافتقاده المعرفة العميقة باللغة الهيروغليفية، وعجزه- كأجنبى- عن الاطلاع على الوثائق التاريخية التى كانت تحت إمرة كهنة المعابد، ومحظورٌ اطلاع «الأجانب» عليها باعتبارها من «الأسرار الكبرى»، فقد اعتمد «هيرودوت» على روايات العوام والمتواتر من الأقاصيص وشائع القول، حتى قُيض لمصر رجل مخلص من بنيها، يملك المقومات الضرورية التى تؤهله لكتابة أول سِفر مصرى يستهدف التأريخ للمجتمع المصرى وأطوار حكمه، ويحمل حس الانتماء لـ«كيميت» المقدسة، ويستند إلى مصادر أصيلة من المحفوظات السرّية المتوارثة عبر التاريخ المعاش لقرون عديدة تيسر له الاطلاع على مكنوناتها باعتباره أحد الكهنة الكبار المعتمدين، والمتفقهين فى علوم اللغة الهيروغليفية، والكتابتين: الديموطيقية والهيراطيقية، ومن أكبر العالمين بأسرارها، فضلًا عن إتقان اللغات الإغريقية والمقدونية والشرقية، ومعرفته العميقة بعلوم الفلك، وبما أهَّله لكى يحوز وصف: «أعلم أهل زمانه» بتاريخ مصر وعلومها!

وتضمّن تاريخ «مانيتون» ما اعتُبر فى زمنه «أدق المراجع التى حدّدت التاريخ الزمنى لمصر»، بدءًا بمرحلته الأولى: «الخلق والتكوين»، وهى مرحلة «ما قبل الأُسرات»، التى افتُتحت بعهد أنصاف الآلهة من الكهنة المبجلين، يتبعها أربعة عهود: «عهد حُكّام الدلتا»، وبعده «عهد الوحدة الأولى»، ثم «عهد الانفصال»، وأخيرًا «عهد أتباع تحوتى من حُكّام الجنوب».

وهذه العهود كانت ذروتها توحيد «نعرمر» للقطرين مؤسِّسًا لـ«الأسرة الأولى»، ومُبتدئًا مرحلة التاريخ المصرى الثانية التى رتّبها «مانيتون» فى «أُسرات» عددها ثلاثون أُسرة، بدايتها مع «نعرمر» ونهايتها بعهد «نختابو الثانى» (٣٥٩ - ٣٤١ ق.م)، آخر ملوك الأسرة الثلاثين والبالغ عددهم أربعمائة وخمسين ملكًا حكموا البلاد على امتداد ٥٣١٨ عامًا. وقد أثبتت الدراسات التاريخية والمكتشفات الحديثة دقّة ما تضمنته قائمة ملوك مصر، التى أدرجها «مانيتون» فى تأريخه، وصحة محتوياتها.

ولعل أهم ما تضمنه التأريخ المصرى حسب اجتهاد «مانيتون» وصفحاته المكتوبة، هو تعزيز الشعور بالانتماء إلى أرض وحضارة مصر الزاهرة، خلال العصر البطلمى، والحرص على تعظيم وعيها بذاتها، فى وقت كان التهديد اليهودى قد بلغ مداه، حيث زحفت أعداد غفيرة منهم إلى أرض الوادى، بفعل الهجرات المستمرة وطوابير الأسرى من اليهود الذين سِيقوا إلى البلاد بفعل الفتوحات المصرية فى فلسطين ومحيطها الجغرافى. ومن هنا فقد عبَّرَ توجُّه «مانيتون» كما يذكر المؤلف عن «التيار الثقافى الوطنى، فى مواجهة التيارين السائدين فى ذلك الحين: تيار الثقافة الإغريقية، والتيار الصاعد الذى يمثل اليهود وثقافتهم، بعد أن هيأت لهم الظروف التواجد بأعداد كبيرة فى مصر». 

وقد عزّز من أهمية هذا التوجه «المانيتونى»، الكاشف فى ظل توسُّع النفوذ اليهودى فى البلاد، واقع ما يذكره الكتاب كحقيقة مُهمة ودالة: «لم يحظ المصريون عن جدارة بثقة الإغريق لنزعتهم الوطنية الواضحة فى أى من فترات حُكم البطالمة، الذين أبعدوهم عن المناصب الرئيسية فى الحكومة، كما تحاشوا أن يُشركوهم كجنود فى الجيش، أو يستخدموهم كرجال أمن، واستعاضوا عنهم بالمُرتزقة من المُتوطنين والأسرى قبل عتقهم، وكان من بينهم اليهود، وتمتُّع هؤلاء بالامتيازات التى أغدقها الإغريق بسعة على رجالات الجيش»!

معركة ممتدة عمرها آلاف السنين، ومخاطر قائمة من أيامها حتى العصر الراهن. (يتبع).