كيف يمكن لـ«صانع الصفقات» إحلال السلام فى أوكرانيا؟
خلال حملته الانتخابية، وعد الرئيس المنتخب، دونالد ترامب، كواحد من أول مهام عمله، بإنهاء الحرب فى أوكرانيا، وتعهد خلال مناظرته الوحيدة مع نائبة الرئيس، كامالا هاريس، «سأقوم بتسوية ذلك وبسرعة»، مضيفًا: «إذا كنت رئيسًا منتخبًا، فسأنجز ذلك قبل أن أصبح رئيسًا».. لكن ترامب لم يحدد أبدًا خطة لتحقيق هذا الهدف الطموح، والآن يواجه التحدى المتمثل فى الوفاء بوعده.. وإذا كان ترامب جادًا فى إنجاز صفقة تؤدى إلى سلام دائم بدلًا من فترة انقطاع قصيرة عن الحرب، قبل تحقيق النصر الروسى النهائى فعليه اتباع نصيحته الخاصة، فى كتابه «فن الصفقة»، الذى كتب فيه أن «أفضل شىء يمكنك القيام به هو التعامل من منطلق القوة، والرافعة المالية هى أكبر قوة لديك».
لكن، المشكلة بالنسبة لترامب فى هذا المنعطف، كما يرى ماكس بوت، فى Washington Post، هى أن الولايات المتحدة لديها الكثير من النفوذ على أوكرانيا ولكن ليس على روسيا.. يمكن لترامب أن يحاول إجبار أوكرانيا على التوصل إلى تسوية ببساطة، عن طريق قطع تدفق الأسلحة الأمريكية التى تحتاج إليها أوكرانيا فى حربها وهى خطوة ستحظى بلا شك بشعبية لدى قاعدة MAGA، لكن إدارة الرئيس جو بايدن تحاول دعم كييف قبل قطع محتمل للمساعدات الأمريكية، عن طريق الإسراع فى نقل الذخائر والأسلحة إلى أوكرانيا قبل يوم التنصيب.. وسيكون الوقت مناسبًا الآن أيضًا للولايات المتحدة وأوروبا، لمنح أوكرانيا ما يقرب من مائتين وثمانين مليار دولار من الأموال الروسية المُجمدة فى الغرب، بموجب الاتفاق الذى تم توقيعه الشهر الماضى، لتزويد كييف بقرض بقيمة خمسين مليار دولار، يتم سداده باستخدام الفائدة من الأموال المجمدة، لكن ذلك ليس كافيًا.
ولكن مهما حدث من الآن وحتى العشرين من يناير المقبل، سيكون من الصعب على أوكرانيا مواصلة القتال العام المقبل، دون تدفق مستمر للمساعدات العسكرية الأمريكية.. أوروبا ببساطة لا تنتج ما يكفى من ذخيرة المدفعية عيار 155 ملم، أو غيرها من الإمدادات الحيوية لتلبية متطلبات أوكرانيا.. لذا فإن قطع المساعدات الأمريكية يمكن أن يُجبر أوكرانيا على السعى لتحقيق السلام بأى شروط تقريبًا، حتى التخلى عن جزء من أراضيها، وهو أمر لم تكن على استعداد للقيام به.
لكن ماذا عن روسيا؟.. كيف يمكن لترامب إقناع الرئيس الروسى، فلاديمير بوتين، بوقف القتال؟
تتقدم القوات الروسية فى دونيتسك بأسرع معدل لها منذ بداية الحرب فى 2022.. ويتجمع نحو خمسين ألف جندى روسى وكورى شمالى، فى محاولة لطرد القوات الأوكرانية من منطقة كورسك الروسية.. الطائرات الروسية بدون طيار تُرهب كييف كل ليلة تقريبًا.. ما هو الحافز الذى لدى بوتين للتوقف عن التقدم الآن، خصوصًا عندما ادعى دونالد ترامب علنًا، أن الرئيس الأوكرانى، فولوديمير زيلينسكى، سيفقد قريبًا «بدلته»؟.. لماذا يجب على بوتين أن يرضى بعرض سلام، من شأنه أن يمنحه السيطرة على منطقة دونباس الشرقية فقط، بينما لا يزال بإمكانه الزحف على كييف والاستيلاء على البلاد بأكملها؟
للحصول على موافقة بوتين، يمكن أن يعرض ترامب رفع العقوبات الأمريكية، ويُهدد بجعلها أكثر قسوة إذا رفض بوتين.. لكن روسيا لا تزال على قيد الحياة فى ظل نظام العقوبات الحالى، وليس من الواضح ما إذا كان بإمكان الغرب زيادة الضغط بشكل هادف، فى غياب المزيد من التعاون من الصين، التى أصبحت الوجهة الأولى للنفط والغاز الروسى.. ليس لدى بكين حافز يذكر لإجبار روسيا على صنع السلام.. يمكن أن يُهدد ترامب بزيادة التعريفات الجمركية على الصين، ولكن إذا فعل ذلك، فسوف يتخلى عن نفوذه لتحقيق صفقة تجارية مواتية مع بكين، والتى من شبه المؤكد أنها أولوية أكبر بالنسبة له من صنع السلام فى أوكرانيا.
أفضل طريقة للتوصل إلى اتفاق سلام: تحذير بوتين من أنه إذا لم يُنه الحرب الآن، فإن الولايات المتحدة ستكثف شحنات الأسلحة، وتمنح أوكرانيا الإذن بإطلاق صواريخ ATACMS وغيرها من الصواريخ الأمريكية الصنع على روسيا.. بعبارة أخرى، يمكن أن يحاول ترامب التوصل إلى اتفاق من خلال أن يكون أكثر صرامة من بايدن، الذى أثار غضب الأوكرانيين، من خلال الحد من استخدام المعدات العسكرية التى توفرها الولايات المتحدة.. وبحسب ما ورد، هدد ترامب بوتين بالفعل فى أول مكالمة هاتفية بينهما بعد الانتخابات، مُحذرًا الرئيس الروسى من التصعيد فى أوكرانيا.. ولإقناع بوتين بوقف القتال، سيحتاج ترامب إلى إطلاق تهديدات ذات مصداقية، وقد اقترح مستشاره للأمن القومى الُمعين حديثًا، النائب مايكل والتز، القيام بذلك بالضبط.. أى التهديد «بتوفير المزيد من الأسلحة لأوكرانيا مع قيود أقل على استخدامها».. هذا هو إلى حد ما، نفس النموذج التصعيد إلى خفض التصعيد الذى جربه ترامب مع كوريا الشمالية وإيران خلال فترة ولايته الأولى.. وفى حالة كوريا الشمالية، أطلق خطاب «النار والغضب» وهدد بتوجيه ضربة وقائية، قبل أن ينتقل إلى عقد قمة مع كيم جونج أون.. ومع إيران، انسحب من الاتفاق النووى الذى أبرمه الرئيس باراك أوباما، وفرض حملة عقوبات «أقصى قدر من الضغط»، والتى من المرجح الآن أن يعيدها، فى محاولة للحصول على صفقة أكثر صرامة.. ولم ينجح أى من النهجين، لأن بيونج يانج وطهران تعتبران بوضوح أن برامجهما النووية ضامنان أساسيان لبقاء النظام.
لكن بوتين يمكن أن ينجو من نهاية الحرب فى أوكرانيا، خصوصًا إذا انتهت بسيطرته على 20% من الأراضى الأوكرانية.. ولديه حافز لوقف القتال، لأن الحرب تُلحق خسائر فادحة بروسيا.. وقال رئيس أركان الدفاع البريطانى مؤخرًا، إن شهر أكتوبر الماضى كان أكثر شهور الصراع دموية فى روسيا، وإن روسيا تكبدت سبعمائة ألف قتيل أو جريح منذ بدء القتال.. يستمر الاقتصاد الروسى فى العمل، ولكنه لا يستطيع الحفاظ على حالة حرب إلى أجل غير مسمى.. قد يميل بوتين إلى التوقف عن التقدم، إذا اعتقد أن ترامب سيزيد من دعمه لأوكرانيا.. ولكن إذا كان بوتين مقتنعًا بأن ترامب سيتخلى عن أوكرانيا، فلديه كل الأسباب للاستمرار.
وأيًا كان الاتفاق مع روسيا، فإن مشكلة التنفيذ ستظل قائمة، إذ كيف يمكن منع روسيا من استئناف عدوانها بعد الموافقة على وقف إطلاق النار؟.. هذا ما فعلته بعد توقيع اتفاقية «مينسك» للسلام مع أوكرانيا عام 2015.. ومن المحتمل أن يتطلب تطبيق اتفاق جديد وجود قوات غربية، ويفضل أن تكون أمريكية، على خطوط وقف إطلاق النار، إلى جانب ضمانات أمنية لأوكرانيا، ويفضل أن تكون من حلف شمال الأطلسى، ولكن فى حالة فشل ذلك، ستكون من دول الناتو الفردية.. فهل سيسعى ترامب إلى هذا الحل؟.. إنه بالتأكيد يتعارض مع غرائزه الانعزالية، ولكن كما كتب فى كتابه «فن الصفقة»: «أنا أيضًا أحمى صفقاتى من خلال التحلى بالمرونة.. أنا لا أتعلق أبدًا بصفقة واحدة أو نهج واحد».
إذا كان ترامب عازمًا حقًا على تحقيق اتفاق سلام دائم بدلًا من السعى، كما فعل هنرى كيسنجر وريتشارد نيكسون فى فيتنام، إلى «فترة زمنية مناسبة» قبل سقوط حليف للولايات المتحدة فسوف يحتاج إلى أن يكون صارمًا مع بوتين.. وهذا يتعارض مع تعزيزه الطويل الأمد للرئيس الروسى وشكوكه فى أوكرانيا.. البعض ليس متفائلًا بأن ترامب سيغير مساره، لكن لديه كل الحوافز للقيام بذلك، إذا كان لا يريد أن يبدو وكأنه «صانع صفقات» فاشل.. يجب أن يدرك ترامب أنه إذا خسرت أوكرانيا الحرب واستقلالها أثناء وجوده فى منصبه، فسيكون ذلك وصمة عار على رئاسته.. تمامًا كما كان الانسحاب الفاشل من أفغانستان وصمة عار على رئاسة بايدن، والتى لم تتعاف منها شعبية بايدن أبدًا.. ومن ناحية أخرى، إذا أنهى ترامب الحرب فى أوكرانيا بشروط يمكن للأوكرانيين التعايش معها، فسيكون قادرًا على التباهى بتحقيق شىء، لم يستطع بايدن تحقيقه.
●●●
فى نفس الوقت، عكفت أوكرانيا على بناء «خطة للنصر»، أعدتها لإدارة دونالد ترامب القادمة، تستخدم فيها الجزرة والعصا.. فأما الجزرة، فتسلط الضوء على الصفقات التجارية المُحتملة، والوصول إلى المواد الخام ونشر القوات الأوكرانية فى أوروبا، فى محاولة للتأثير على الرئيس الأمريكى المنتخب، الشهير بالصفقات التجارية، كما تقول Financial Times، إذ قال مسئولون أوكرانيون وأوروبيون إن حلفاء أوكرانيا فى أوروبا والولايات المتحدة، بما فى ذلك كبار الجمهوريين، قدموا المشورة بشأن أفضل السبل لصياغة المقترحات التى تُحفز التعاون الوثيق مع كييف، بدلًا من قطع المساعدات العسكرية الحيوية عنها.. وتنبع المقترحات من مخاوف هؤلاء المسئولين، من أن ترامب قد يتحرك بسرعة لإبرام اتفاق سلام مع روسيا، ما قد يؤدى إلى نسف الدعم الغربى لأوكرانيا.. وقال أشخاص شاركوا فى صياغة «خطة النصر» التى اقترحها زيلينسكى، إن فكرتين من بين الأفكار المطروحة، كانتا موجهتين إلى ترامب على وجه التحديد.. وقد عُرضت المقترحات على ترامب فى وقت لاحق، عندما التقى به رئيس أوكرانيا فى نيويورك فى سبتمبر الماضى.. ومن بين الأفكار المطروحة، استبدال بعض القوات الأمريكية المتمركزة فى أوروبا بقوات أوكرانية بعد الحرب.. والخطة الأخرى التى ابتكرها لأول مرة، السيناتور الجمهورى ليندسى جراهام، حليف ترامب، وفقًا لأشخاص شاركوا فى تصميم «خطة النصر» لزيلينسكى تقترح تقاسم الموارد الطبيعية الحيوية لأوكرانيا مع الشركاء الغربيين.. وقال شخص مطلع على الاجتماع، إن ترامب كان «مهتمًا» بالنقطتين.
وعلى نحو منفصل، يتحدث قادة الأعمال فى أوكرانيا أيضًا مع الحكومة، بشأن منح ترامب سلطات «فحص الاستثمارات»، ما يسمح له بشكل أساسى، باختيار من يمكنه ممارسة الأعمال التجارية فى البلاد.. ووصف أحد المشاركين فى التخطيط الفكرة بأنها «أى شىء باستثناء الصين»، وهو ما قد يلقى استحسان ترامب بشكل خاص.. ووفقًا للشخص المعنى، فإن الصناعات الأوكرانية التى تعتمد على التكنولوجيا والمواد الصينية، مثل الاتصالات السلكية واللاسلكية، قد تتحول إلى الموردين الأمريكيين، وتجتذب المزيد من الاستثمارات الغربية.. والفكرة فى مراحلها المبكرة، لكن بعض قادة الأعمال الُمقربين من مكتب الرئيس يعتقدون أنها قد تلقى استحسان ترامب.. وقال زيلينسكى إنه أجرى مكالمة هاتفية «رائعة» مع ترامب بعد إعادة انتخابه.. لكن المسئولين قالوا إن كييف وحلفاءها يخشون أن تُخفض الولايات المتحدة دعمها العسكرى، بعد تولى الرئيس الجمهورى منصبه فى يناير المقبل، كما يشعرون بالقلق من أن الرئيس الروسى، فلاديمير بوتين، مدعومًا بتفوق روسيا فى ساحة المعركة، قد يضغط على الولايات المتحدة، لقبول تسوية سلمية تنهى الحرب بشروط مواتية لموسكو.. وقال أحد المشاركين فى صياغة عرض أوكرانيا لترامب: «أول من يرمش يخسر هذه اللعبة.. يعتقد بوتين أنه على المسار الصحيح الآن، ويمكنه الحصول على كل ما يريده».
إلا أن أوليكساندر ميريزكو، رئيس لجنة الشئون الخارجية فى البرلمان الأوكرانى، وصف العرض المقدم إلى الرئيس الأمريكى المنتخب، بأنه «خطوة حكيمة لإظهار أن أوكرانيا ليست عبئًا على الغرب.. فى وقت يريد فيه ترامب أن يكون فائزًا وليس خاسرًا.. ولكى يصبح فائزًا، يتعين عليه أن يُظهر لبوتين مكانته».. بينما أوضحت أليونا جيتمانشوك، مديرة مركز أوروبا الجديدة للأبحاث ومقره كييف، أن زيلينسكى سيحتاج أيضًا إلى إظهار استعداده لحضور محادثات السلام مع روسيا، رغم أن الزعيم الأوكرانى «مُقيد» بالمصالح الوطنية لبلاده و«توقعات المجتمع الأوكرانى»، إلا أن زيلينسكى «يمكن أن يمنح ترامب فرصة، أن يكون أعظم صانع سلام فى كل العصور».
●●●
أما العصا التى يمكن أن تلوح بها كييف فى وجه ترامب، ومعه بوتين، فمردها إلى القلق فى كييف بشأن الكيفية التى قد يسحب بها ترامب الولايات المتحدة من معركتها.. ونتيجة لهذا، سوف يضطر الأوكرانيون فى الأسابيع والأشهر المقبلة إلى البحث عن حلول تتجاوز دعم واشنطن، والتفكير فى حل نووى محتمل، لم يُلمَح إليه من قبل.
ففى الشهر الماضى، وبدون ضجة كبيرة، أوضح الرئيس الأوكرانى، فولوديمير زيلينسكى، مخاطر الحرب الدائرة فى أوكرانيا بأكبر قدر ممكن من الوضوح.. ومع تقدم القوات الروسية نحو شرق أوكرانيا، واستمرار تراجع الدعم الغربى، أوضح زيلينسكى النتائج المحتملة للحرب، وقال: «إما أن تمتلك أوكرانيا أسلحة نووية وسيكون ذلك لحمايتنا، أو يجب أن يكون لدينا نوع من التحالف».. كانت هذه هى المرة الأولى التى يكشف فيها الرئيس الأوكرانى عن نتيجة، أصبحت، بالنسبة لمراقبى الحرب، حتمية بشكل متزايد.. فى هذه الحرب من أجل بقاء أوكرانيا، حيث تواجه كييف تناقصًا فى الرجال والمواد، فإن الطريقة الوحيدة المؤكدة لمنع تدمير أوكرانيا المستمر، هى عضوية حلف شمال الأطلسى، وهى حقيقة اكتسبت المزيد من المؤيدين منذ بداية الحرب، ولكنها لا تزال بعيدة سنوات.. وفى غياب مثل هذه النتيجة، كما أوضح زيلينسكى، لا يبقى سوى خيار واحد: تطوير ترسانة أوكرانيا النووية، وإعادتها إلى دور القوة النووية التى تخلت عنها قبل حوالى ثلاثة عقود.
بالنسبة للمحاورين الغربيين، ربما كان كشف زيلينسكى بمثابة صدمة.. ولكن بالنسبة لأى شخص ينتبه إلى مخططات الرئيس الروسى فلاديمير بوتين المتسارعة، فإن الكشف عن أن كييف قد تسعى إلى امتلاك ترسانتها النووية الخاصة ليس بالأمر الهين.. فبوتين، بعد كل شىء، أصبح أكثر تعصبًا فى جهوده داخل أوكرانيا.. لقد أفسحت المخططات السابقة لإسقاط كييف المجال لجهود صريحة «لتدمير الدولة الأوكرانية»، وخصوصًا بعد احتلال أوكرانيا الناجح لمنطقة كورسك الروسية، كما ذكرت صحيفة موسكو تايمز مؤخرًا.. ومع تعرض الدولة الأوكرانية وحتى الهوية الأوكرانية، بالنظر إلى جهود الإبادة التى تبذلها روسيا للخطر، فمن المفهوم أن تسعى أى دولة إلى أى خيار متاحٍ للبقاء.
ولعل الأهم من ذلك أن زيلينسكى يعيد إلى الأذهان جزءًا مهمًا من التاريخ الأوكرانى، ويبدو أن كثيرين فى الغرب نسوه، ولكن الغرب يتحمل مسئولية كبيرة عنه.. ففى أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتى، برزت أوكرانيا كواحدة من حفنة من الدول التى ادعت امتلاكها لجزء من الترسانة النووية السوفيتية.. وعلى الفور تقريبًا، قادت الولايات المتحدة وروسيا جهودًا مشتركة لتجريد أوكرانيا من أسلحتها الجديدة، ونجحت فى ذلك عام 1994، من خلال مذكرة بودابست.. وكانت هذه الخطوة سببًا فى ذلك الوقت، فى إثارة جولات من التهانى الذاتية المتعالية فى واشنطن، والتى مهدت الطريق فى الوقت المناسب لغزو روسيا لأوكرانيا فى وقت لاحق.. والآن، كما أوضح زيلينسكى، حان موعد سداد هذه الفاتورة، ويواجه الغرب الآن خيار الترحيب أخيرًا بأوكرانيا فى صفوف حلف شمال الأطلسى أو المخاطرة بتحولها إلى قوة نووية مرة أخرى.
●●●
عندما انهار الاتحاد السوفيتى عام 1991.. تم تقسيم الترسانة النووية السوفيتية بين عدد من الدول الجديدة، بما فى ذلك أوكرانيا.. وعلى الفور، قرر المسئولون الأمريكيون أن كييف لا يمكن، ولا ينبغى، أن نثق بها فى الحفاظ على ترسانتها النووية.. كما يقول كيسى ميشيل، رئيس برنامج مكافحة الكليبتوقراطية التابع لمؤسسة حقوق الإنسان ومؤلف كتاب «الكليبتوقراطية الأمريكية: كيف أنشأت الولايات المتحدة أعظم مخطط لغسيل الأموال فى التاريخ».. لقد أصبحت هذه الحقيقة واضحة بشكل مذهل، من خلال العمل الأرشيفى الأخير لعدد من الباحثين، الذين قاموا بفحص وثائق أمريكية وأوكرانية تم تجاهلها.. والتى كشفت، ليس فقط عن غطرسة المسئولين الأمريكيين، الذين أعطوا الأولوية للعلاقات مع موسكو على حساب كل شىء آخر، ولكن أيضًا عن الذعر الواضح والتحذيرات الواضحة للمسئولين فى أوكرانيا، الذين أدركوا أهمية ما كانوا يتخلون عنه.
فى كل من إدارة جورج بوش الأب وبيل كلينتون، ركز المسئولون الأمريكيون باستمرار على طمأنة روسيا، بأن موسكو يمكن أن تتمتع بالتفوق الإقليمى، وأن الولايات المتحدة لم تكن تحاول الاستفادة من فراغ القوة الناشئ بين أنقاض الاتحاد السوفيتى.. وكان جزء من ذلك، هو الاستسلام لمطالب موسكو بإعادة جميع الأسلحة النووية السوفيتية إلى روسيا.. أى أنه فى حين يُسمح لروسيا بالاحتفاظ بمكانتها كقوة نووية، فإن دولًا مثل بيلاروسيا وكازاخستان وأوكرانيا ستضطر إلى التخلى عن ترسانتها النووية.
كان هذا واقعًا بدا أن قِلة من الناس فى واشنطن يشككون فيه.. وفى وقت لاحق، قال ستيفن بايفر، السفير الأمريكى السابق فى أوكرانيا، «لا تستطيع أوكرانيا الاحتفاظ بالأسلحة النووية».. ولم يشكك أحد فى حكومة الولايات المتحدة فى هذا الواقع.. وهذا ليس دقيقًا تمامًا؛ فقد دافعت أصوات معارضة، مثل وزير الدفاع السابق ديك تشينى، ضد إجبار أوكرانيا على التخلى عن أسلحتها النووية، وحتى هنرى كيسنجر أشار إلى أن أماكن مثل أوكرانيا «حائرة بسبب شغف الولايات المتحدة»، بإجبار كييف على التخلى عن أسلحتها النووية.. لكن مثل هذه المخاوف انهارت، فى مواجهة الود المفترض الناشئ بين واشنطن وموسكو، واستعداد الولايات المتحدة المتزايد لإعطاء فرصة لروسيا، مرارًا وتكرارًا.
كانت الضغوط الأمريكية لحمل أوكرانيا على التخلى عن ترسانتها النووية مثارًا للحيرة، نظرًا لأن القيادة الروسية كانت حتى منتصف تسعينيات القرن العشرين، تُظهِر علامات واضحة على ذلك النوع من النزعة الانتقامية، التى ترسخت لاحقًا.. ففى حين كانت الولايات المتحدة تضغط على أوكرانيا للتخلى عن أسلحتها النووية، كان الجيش الروسى لا يزال يدعم الانفصاليين الموالين لروسيا فى مولدوفا، وكان قد أطلق بالفعل برنامجًا للتدخل المسلح فى شمال جورجيا.. فضلًا عن وضع خطط نهائية لغزو الشيشان، بعد أن تجرأت على التصويت لصالح الاستقلال عن موسكو.. وعلاوة على ذلك، كان الرئيس الروسى، بوريس يلتسن، قد «هدد بالفعل أوكرانيا وكازاخستان بمراجعة الحدود.. إذا أصرتا على الاستقلال»، كما أشار المؤرخ سيرهى بلوخى، حيث أشار مكتب يلتسن على وجه التحديد، إلى منطقتى شبه جزيرة القرم ودونباس فى أوكرانيا، كمناطق «مراجعة» محتملة.. وفى الوقت نفسه، كانت شخصية مرموقة، مثل ألكسندر سولجنيتسين، يدعو روسيا علنًا إلى استعادة مساحات واسعة من شرق أوكرانيا، وهى الدعوات التى وجدت قبولًا واسع النطاق فى مختلف أنحاء روسيا.. ولكن يبدو أن كل هذا لم يكن يشكل أهمية بالنسبة للمسئولين الأمريكيين.. فعندما أثار نظراؤهم الأوكرانيون مخاوفهم بشأن الانتقام الروسى مع شركاء الولايات المتحدة، كان يُنظَر إليهم باعتبارهم «متذمرين»، وفقًا لعضو سابق فى مجلس الأمن القومى فى البيت الأبيض.
فى نهاية المطاف، نجح الأمريكيون فى تحقيق مرادهم، فتغلبوا على مخاوف كييف بشأن الإمبراطورية الروسية.. وتعهدت مذكرة بودابست الناتجة، بتقديم «ضمانات أمنية» غامضة لكييف، مع إعلان الكرملين عن أنه لن يدفع بأى «تهديد أو استخدام للقوة» ضد أوكرانيا.. وفى المقابل، تخلت كييف عن ترسانتها النووية المتبقية.. وهى الخطوة التى لا ينظر إليها العديد من الأوكرانيين الآن على أنها خطأ واضح فحسب، بل إنها تركت مرارة مستمرة فى أفواه المسئولين الأوكرانيين، بشأن دور أمريكا فى المنطقة، وحتى الثقة فيها كشريك.. إذ قال الرئيس الأوكرانى آنذاك، ليونيد كرافتشوك: «أتفهم وقاحة روسيا.. لكن الأمريكيين أسوأ.. فهم لا يستمعون إلى حججنا».. وبعد عقود من الزمان، أصبح إصرار أمريكا على أن تتخلى أوكرانيا عن أسلحتها النووية وتسلمها كلها لروسيا يُنظَر إليه الآن باعتباره خطأً فادحًا من أبعاد تاريخية.. وحتى الرئيس الأمريكى، بيل كلينتون نفسه، أعرب عن أسفه إزاء هذه الخطوة.. والآن، ومع مقتل مئات الآلاف من الأوكرانيين وزعزعة استقرار أوروبا إلى حد أعظم مما شهدناه منذ عقود، أصبح ثمن مساعى واشنطن لتجريد أوكرانيا من وضعها النووى واضحًا.
●●●
هذا يعيدنا إلى إعادة انتخاب ترامب وتعليقات زيلينسكى الأخيرة.. ففى الكشف عن أن كييف قد تسعى للحصول على أسلحة نووية، إذا لم تنضم إلى حلف شمال الأطلسى، فإن الرئيس الأوكرانى يقول ببساطة، الجزء الصامت بصوت عالٍ، وخصوصًا الآن، بعد أن سيحل ترامب محل بايدن.. بعد كل شىء، ليس الأمر وكأن أوكرانيا ليس لديها التاريخ، أو المعرفة التقنية، لتطوير ترسانتها النووية الخاصة.. إذا كانت دولة مثل كوريا الشمالية التى تشارك الآن فى غزو روسيا لأوكرانيا قادرة على تطوير أنظمتها النووية الخاصة، فإن دولة مثل أوكرانيا يجب أن يكون لديها مسار أسهل بكثير للمضى قدمًا.. لن يحدث هذا بين عشية وضحاها، ولكن إذا استمر حلف شمال الأطلسى فى إغلاق الباب أمام عضوية أوكرانيا والمظلة النووية الأمريكية فإن كييف النووية ستكون النتيجة المنطقية الوحيدة المتبقية.. فأوكرانيا لم تعد تتمتع برفاهية الانتظار للحصول على عضوية حلف شمال الأطلسى.. ومع مرور كل يوم، وخصوصًا مع إعادة انتخاب ترامب، يتبين على نحو متزايد، أن ضمان الدولة الأوكرانية يستلزم ترحيب الغرب بأوكرانيا فى حلف شمال الأطلسى، أو يتعين عليه أن يبدأ فى الاستعداد لإعادة انضمامها إلى نفس النادى النووى، الذى كانت جزءًا منه ذات يوم، قبل كل تلك السنوات.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.