هل كلنا وطنيون حقًا؟!
«١»
«إحنا كلنا وطنيين وبنحب بلدنا بس.... كل الناس وطنية وبتحب بلدها بس...» اكتشفتُ أننى قرأت هذه العبارة فى الأشهر الأخيرة آلاف المرات، حتى سمعتها أخيرًا فى مناقشة مباشرة. قرأتها فى مئات التعليقات المصرية على أحداث عامة ملتهبة شائكة، ولفتت نظرى هذه الكلمة المصرية الدارجة البسيطة «بس»، التى أصبحت لا تكتفى بفتح باب الشيطان، بل أصبحت وكأنى أراها تتراقص كالمرأة العاهرة أمام كل الشياطين الجالسين فى حانة سكارى شبيهة بحانات الأفلام العربى القديمة! تحولت الكلمة إلى عاهرة مبتذلة رخيصة جدًا حين تتبع هذه العبارة! هذه الفكرة أو هذه العبارات التى تتردد، وكأنها من المسلمات البديهية تدفعنا دفعًا إلى إعادة النظر فى مدى حقيقتها.
تدفعنا إلى التساؤل.. هل حقًا نحن كلنا وطنيون؟! وما هو معنى الوطنية؟ هل الوطنية أن نلتف أمام الشاشات أوقات مباريات المنتخب المصرى؟ أو أن نحمل أعلام مصر ونملأ المدرجات؟ أزعم أننا كلنا كمصريين – ولا أستثنى أحدًا حتى كاتب هذه الكلمات – فى حاجة إلى مراجعة مفهمونا لكلمة وطنية.
«٢»
فى الأيام القليلة الماضية أول ما نشرت شائعة مساعدة مصر للكيان بالأسلحة كانت مواقع صحفية يديرها صحفيون مصريون حصلوا على خبر من موقع معاد للدولة المصرية ثم أعادوا نشره، مطالبين أجهزة الدولة المصرية بالرد. قبل الرد وجب أن نتعجب من نقطتين، الأولى عدم إدراك ثوابت قوة مصر الصلبة والسقوط فى فخ مكشوف تمامًا بسهولة مثيرة للرثاء والحزن. والنقطة الثانية الضعف المهنى المذرى الذى كان يوجب عليهم قبل الانزلاق فى نشر الشائعة المشينة أن يتحققوا من الخبر بدوافع مهنية بحتة.
والذى كان من المفترض أن يجعلهم ملمين بمفردات قانونية مهنية تفرق بين التزام مصر القانونى الدولى فى إدارة ممر ملاحى دولى وبين أن تشارك مصر فى دعم الكيان.
ثم كانت الطامة الأكبر بعد الرد الرسمى من مؤسسة - من الجنون الكامل التشكيك بها – حيث لم يصمت هؤلاء بل استمر بعضهم فى محاولة زرع بذور التشكيك الخبيثة فى العقل المصرى الجمعى!.
فى أوقات الحروب تكون الجبهة الداخلية الإعلامية أحد أهم أسلحة الدولة فى مواجهة الشائعات، وتصبح الأذرع الإعلامية المحلية مهما تعددت اتجاهاتها قاطرة توجيه الرأى المحلى وجهة صحيحة. ومن المعلوم أن مصر تخوض منذ سنوات معركة مصيرية للدفاع عن أرضها وسيادتها واستقلالها، فكيف يتطوع صحفيون مصريون للقيام بدور الذراع الإعلامية المعادية؟ ثم كيف يعتقد هؤلاء - وكما ورد حين نشروا الشائعة - أنهم وطنيون يحبون بلادهم ثم يشكون فى عقيدتها الراسخة ويدفعون شعبهم - عبر النشر - للسقوط فى فخ التشكك؟ لو كان القيام بهذا الدور المشبوه وطنية فكيف تكون الخيانة؟ أتساءل ولا أتهم!.
«٣»
منذ عدة أيام صدمنا الفنان المحبوب حسين فهمى بصفته مسئولًا عن مهرجان القاهرة السينمائى بتصريح غريب، بأن إدارة المهرجان قررت رفض عروض الرعاية من أى شركة على قائمة المقاطعة! تصريح لا يصح أن يمر هكذا. فهذا المهرجان هو من مفردات قوة مصر الناعمة. وحين يصدر تصريح عن رئيسه لابد وأن يكون مراجعًا ومتفقًا مع شخصية وثوابت مصر، ومعبرًا عن حقائق، لا مداعبًا لمشاعر غير منضبطة. لابد أن يجيب الفنان عن مجموعة أسئلة.. من وضع هذه القائمة؟ وهل هى شركات مصرية أم أجنبية؟ وهل حقًا هى شركات متواطئة مع الكيان، أم أنها شركات وطنية يعمل بها مصريون وتمثل جزءًا من مجمل اقتصاد مصر؟ وما هو مدى الضرر الواقع على اقتصاد مصر جراء هذا التصريح من المسئول رسميًا عن مهرجان مصرى على أرض مصرية؟، وما هى النقطة التى يجب أن نتوقف عندها عن محاولة إرضاء الأصوات المزايدة على موقف مصر بما لا يضر باقتصادها وكرامتها الوطنية؟ لم يجمع المصريون على صواب فكرة المقاطعة، كما لم يجمعوا على أن شركات بعينها يمكن تصنيفها أنها تقوم بنشاط اقتصادى مساند للكيان، لكن ما أجمع عليه المصريون أن هذه شركات مصرية برءوس أموال مصرية.
حين يصدر مثل هذا التصريح فى أوقات عادية ربما لن نلتفت إليه، لكن حين يصدر فى وقتٍ عصيب اقتصاديًا على مصر فيجب أن تكون هناك مراجعة وربما محاسبة. لأن الفنان تم تعيينه فى موقعه هذا من مؤسسة مصرية وطنية، والمهرجان نفسه هو فعالية مصرية يجب أن يصب هدفها الأشمل لصالح مصر أولًا وأخيرًا. للفنان كما لغيره أن يتبنى ما يراه من رؤى سياسية حين يتحدث بصفته الشخصية، لكن حين يتحدث بصفته ممثلًا عن جزء من كيان الدولة المصرية فعليه أن يتسق فى تصريحاته ومواقفه مع هذه الدولة أو أن يتنحى عن موقعه! فهل جاء تصريحه مساندًا للفكرة الوطنية أم مضادًا لها؟.
«٤»
أصوات كثيرة فى الأسابيع القليلة الماضية ركضت ركضًا فى اتجاه تشكيك المصريين فى أنفسهم وقيمهم وثوابتهم الأخلاقية. كانت البداية عند لاعب كرة القدم المدان بتهم تمويل الجماعة الإرهابية، والذى لا يجرؤ على مجرد نطق كلمة تدين وجود قواعد عسكرية تنطلق منها المساعدات العسكرية للكيان على بعد خطواتٍ من مقر إقامته.
ثم تشعبت وتكاثرت اللقطات والمشاهد التى تصب كلها فى نفس الفكرة الخبيثة.. أن يشعر المصريون بالعار من انتمائهم لمصر! انساق كالعادة كثيرون ولم تخلُ عبارات أى أحد منهم من تلك العبارة «كلنا بنحب بلدنا بس موقف مصر خلانا نشعر بالعار إننا مصريون!» بتتبع الصفحات والمواقع ثبت أنها جميعًا توجه حملة شرسة ضد مصر منذ أن رفضت قيادتها التفريط فى حدودها. كلما فشلت محاولة أهداهم شيطانهم فكرة خبيثة جديدة حتى كانت المحاولة الأخيرة الأكثر انحطاطًا وخسة.
طبيبة فجأة ظهرت فى أبشع ما يمكن أن تكون عليه صورة الأطباء.. لغة متدنية.. اتهامات منحطة لشعبٍ كامل فى شرفه وعفته. خلتها لأول وهلة أنها ساذجة ثم بدأت الحقائق تتكشف حين كشف الأرشيف عن الشخصية كاملة. هز ثقة المصريين فى ثوابتهم الاجتماعية والأخلاقية وهى طريقة معروفة لضرب الروح القومية لأى شعب ونشر الدونية بين أفراده. كسر الروح وتفكيك قوة التماسك الوطنية. الغريب هو سقوط متعلمين ومثقفين فى الفخ والاستماتة فى الدفاع عن الشيطان! فحيح العبارات ينتشر.. «كنا كويسين بس خلاص المجتمع انهار وسقط» هذا هو هدفهم، والتكليف الجديد الذى صدرت لهم الأوامر به! بعد أن ظلوا لأكثر من عام يشككون المصريين فى شرف دولتهم السياسى قرروا أن ينتقلوا إلى أحط درجات السلم بتشكيك المصريين أنفسهم فى شرفهم الأخلاقى! بعد الفشل فى هزيمة الدولة وتركيعها قرروا أن يحاولوا هزيمة الشعب ذاته! فأين الوطنية فى دفاع متعلمين أو مثقفين عن جنود الشيطان؟!
«٥»
فى الأعوام العشرة الماضية مرت مصر بجولات مواجهة شرسة، اقتصادية ودينية وعسكرية. وكل الذين اختاروا الانضمام للمعسكر المعادى زعموا أنهم وطنيون يغارون على مصر ويحبونها! فى معركة الاقتصاد والعملة الصعبة والتى بلغت ذروتها منذ عدة سنوات تاجر مصريون كثر بمصر وآخرون قرروا تخزين الدولار والتواطؤ مع مافيا الاتجار فى الدولار من ضيوف مصر من الدولة العربية الآسيوية. وكان هؤلاء المصريون يمارسون نشاطهم ولا يشعرون إطلاقًا بأنهم يقترفون إثمًا وطنيًا. اعتقدوا أنهم يمارسون حقًا مشروعًا! كانت الدولة تخوض حربًا عسكرية وتشترى جزءًا من ذخائرها وأسلحتها بالعملة الصعبة وتنفق كل شهر فى هذه المعركة ما يفوق تسعين مليون دولار لمدة عدة سنوات، بينما يختزن مصريون الدولارات ولا يكفون عن الطنطنة الوطنية، وربما صرخوا فرحًا بهدف فى مبارة كرة قدم للمنتخب المصرى! وربما لاموا الدولة على عدم الإسراع فى حسم «معركتها» العسكرية حتى يتفرغوا لمفردات حياتهم بأريحية! فهل حين فعلنا ذلك كنا وطنيين نحب بلادنا أم كنا نشارك فى الحرب ضدها؟!.
«٦»
فى ذروة المزايدة على مواقف مصر منذ كارثة السابع من أكتوبر العام الماضى، وفى ذروة كبش القيادة المصرية للجمر الملتهب بأيديها وهى تواجه ضغوطًا استعمارية متبجحة لفتح حدودها، خرجت علينا قيادات دينية بإلقاء أطواق نجاة للمزايدين على مصر وغلفت أطواقها بشعارات دينية براقة تداعب بها وتدغدغ مشاعر العامة الذين لم يكن غالبيتهم يدرك ما تتعرض له قيادات بلادهم السياسية! فهل التزمت تلك القيادات الدينية وقتها بتعاليم الديانة التى توجب طاعة ولى الأمر حين تواجه الدولة أخطارًا خارجية؟! وهل كانت هذه القيادات وقت قيامها بذلك وطنية أم أنها طعنت معانى الوطنية فى ظهرها حين وضعتها وجهًا لوجه فى خصومة مفتعلة مع تعاليم وقيم الديانة؟.
الذين حاولوا من تلك القيادات دهس مشاعر أهالى شهدائنا بغسل أثواب من استباحوا دماء هؤلاء الشهداء بمساحيق البطولة الدينية الزائفة، هل كانوا حين فعلوا ذلك وطنيين؟
إننى فقط أتساءل ولا أتهم!
«٧»
القيادات التنفيذية المحلية فى ربوع مصر وفى السنوات المعاصرة والتالية للفوضى السياسية فى مصر والتى تقاعست عن النزول للشارع لكبح جماح وأطماع التجار وتركت عموم المصريين فريسة لتلك الأطماع، هل هذه القيادات وطنية وتحب بلادها؟ الذين أثروا من وجع مصر من تجار وأفراد، مستغلين حالة ميوعة الدولة وقت مهاجمة الميليشيات المسلحة هل هم وطنيون حقًا؟.
الذين تحولوا فى قرى صعيد مصر إلى تجار سلاح ومخدرات.. الذين انتهزوا تلك الحالة وأجبروا مصر- عبر الاعتصامات الفئوية- على الرضوخ لإرهاق الجهاز البيروقراطى بأكثر من مليون موظف هل هم وطنيون؟.
الذين هللوا فرحًا للعصابات التى ضربت اقتصاد مصر فى قناة السويس، هل هم وطنيون؟
الذين كونوا عصابات للحصول على أموال المصريين بالخارج لحرمان الدولة المصرية منها هل هم وطنيون؟.
أعتقد أن الوطنية فعل وليست صراخًا زاعقًا فى غير موضعه. وعلينا جميعا كمصريين أن نراجع أنفسنا وما قمنا به فى السنوات الماضية والآن تجاه بلادنا، وهل أتى أحدنا فعلًا أو أكثر كان من شأنه إضافة مزيد من الوجع لهذه البلاد وقت محنتها. وعلينا ألا نسقط فى فخ الاستسلام لهذه العبارة الشيطانية أننا كلنا وطنيون ونحب بلادنا!.
فلا وطنية فى الاصطفاف فى خندق معادٍ مهما كان اسمه وصفته وأئمته وبريقه الزائف!
ولا وطنية فى التشكيك فى شرف مصر السياسى الذى لا يمر يوم دون أن تنصفه الأقدار بكشف مواقف وأفعال الآخرين دولًا وأشخاصًا!.
فقد يقترف أحدنا فعل الخيانة مهما كان موقعه أو مهنته، وكلٌ منا أدرى بما اقترفت يداه! فقد يقترف هذا الفعل مسئول تخلى أو تكاسل فى لحظة مصيرية، أو مواطن استباح لنفسه ما ليس له من مقدرات أو ثروات أو ثغور هذا الوطن!
ولا وطنية لمن يقضى يومه متنقلًا بين الصفحات المعادية لبلاده يطرب لكل من يقذفها بحجر! علينا أن نرد على هذه العبارة الشيطانية بإسقاط أقنعة من يتفوهون بها فى غير موضعها!.