"الملاذ الآمن".. هاربات من جحيم الحرب: بلادنا دُمرت.. ووجدنا الحماية فى مصر
نعاملهم كضيوف، هذا هو منهج مصر فى التعامل مع أشقائها الذين لاذوا بها من قسوة الحرب والاضطرابات والصراعات فى بلدانهم، وقد يخفف هذا بعض ما عانوه من قسوة وضياع وتشرد، لكن القلب يظل ممتلئًا بألم يصعب تسكينه.
اللاجئات الفلسطينيات والسودانيات يعشن ألمًا من نوع خاص، فقد غادرن بلادهن والنيران فوق رءوسهن، يركضن ويتساقط أبناؤهن وأهلهن من حولهن فى كل لحظة، ولا نبالغ لو قلنا إن لكل منهن قصة تشيب لها الوِلدان عند سماعها.
«الدستور» تحدثت مع عدد من هؤلاء النسوة المنكسرات اللواتى جئن إلى مصر، ليتقوين بأهلها ويبحثن عن فرص أخرى للحياة لحين استقرار الأوضاع فى بلادهن التى تعانى الإبادة والتمزق.
فلسطينية: رأيت الموت عدة مرات.. والمصريون ساندونى
قبيل ٥ أشهر تقريبًا، كانت السيدة الفلسطينية «ش.م» تعد عدتها وتجهز الضرورى من لوازمها هى وأسرتها، لتغادر بحقيبة سفر أو اثنتين حملتهما مع زوجها وابنتها فى رحلتهم من قطاع غزة إلى مصر التى درست فيها حتى عام ٢٠١٧.
قبل رحلة الفرار هذه، تعرض منزل تلك السيدة فى منطقة تل الهوى للقصف، وأدى ذلك إلى إصابتها بجروح خطيرة فقدت بسببها جنينها، وعند نقلها إلى المستشفى لم يكن توجد به إلا الإسعافات الأولية المحدودة.
ورغم بقائها شهورًا فى القطاع تتنقل من مكان إلى آخر، على أمل أن تنتهى الحرب، قررت تحت وطأة المعاناة الهروب بعد استشهاد عدد من أفراد عائلتها، والدها وأختها وبنتها وزوجها وخالتها وعمها وأبنائه.
وتحركت السيدة إلى مصر فى رحلة قاسية، وفى ظروف بيئية متقلبة زادت من مشقة الرحلة مع حالتها النفسية الصعبة، وفقدت الكثير من وزنها وتعرضت لسوء تغذية، خاصة بعد الإجهاض، ورأت الموت بعينها عدة مرات.
تحكى قائلة: «استمرت المعاناة حتى وصلنا معبر رفح، حيث انتظرنا شهرًا كاملًا لتنسيق الأوراق والدخول بشكل رسمى، لأدخل إلى مصر وأرى مساندة أهلها لى وحبهم الكبير».
وتكمل: «هذا الشعور بالدفء والدعم أثّر فى نفسيتى وصحتى بشكل إيجابى، وشعرت كأننى بين أهلى، وبعد استقرارى فى القاهرة، بدأت أفكر فى كيفية توفير فرصة عمل، فكرت فى تنفيذ مشروع لتحضير الوجبات السريعة المنزلية، وأنشأت صفحة على مواقع التواصل الاجتماعى، وتلقيت دعمًا كبيرًا، والآن أصبحت معروفة فى المنطقة، وهذا الدعم الذى ألقاه من الجميع يشعرنى بالأمان والراحة».
سودانية: الحرب حطمت بيتى.. وطفلى مات بضربة شمس أمام عينى
فى صباح أحد أيام أبريل الماضى، استيقظت «ع. م»، من الخرطوم، على كارثة، حيث اندلعت الحرب وسيطر الخوف والقلق على قلوب الجميع، وتعالت أصوات الرصاص فى كل مكان.
مع تصاعد التوترات، لم يكن أمامها سوى الهروب مع أبنائها الأربعة وأخت زوجها وأبنائها ووالدتها، تركت خلفها كل شىء، ذكرياتها ومنزلها وكل ما تحبه، وهربت من المجهول إلى مصر حيث الأمن والأمان.
وعند وصولها القاهرة، واجهتها صعوبات جديدة، فقد قرر زوجها السفر إلى السعودية بحثًا عن عمل تاركًا إياها فى وضع صعب، تستيقظ كل صباح محاطة بالهموم تبحث عن طريقة لتوفير الطعام والشراب لأبنائها، ويسيطر عليها الحزن كل لحظة.
وبعد مرور شهرين، قررت العودة إلى الخرطوم على أمل أن تجد منزلها كما كان، ولكنها فوجئت بأن منزلها أصبح مهجورًا نهبته الحرب، فقررت التوجه مع عائلتها إلى شرق السودان، حيث يسيطر الجيش السودانى على الأوضاع، علها تجد الأمان هناك أو تحصل على فرصة عمل أو تقيم مشروعًا لتوفير طعام وشراب أبنائها.
واستغرقت الرحلة ثلاثة أيام، ومع كل خطوة كانت آمالها تتلاشى، وعند وصولها صدمت من الوضع هناك، الذى كان أكثر سوءًا فى كل شىء، خاصة فى غلاء الأسعار؛ بسبب تدفق النازحين الذى جعل الحياة هناك مستحيلة، وفى اليوم السادس قررت العودة مرة أخرى إلى مصر وهى تحمل فى قلبها أثقال الحرب وآلام الفراق.
لكن طريق العودة كان أكثر شقاء، فكان الأطفال على طول الطريق يصرخون من التعب، وبعضهم كان مبتور الذراع والقدم، وعانت هى من دوار شديد، واكتشفت أن المياه التى حملوها معهم نفدت، فبدأت تشرب من المياه المختلطة بالبنزين، وهى تعلم تمامًا أنها قد تكون سُمًا، وأصيبت بمغص شديد وقىء مستمر.
ومع تقدمهم فى الطريق، تفاقم الوضع أكثر مع الطقس الحار، وأصيب ابنها البالغ من العمر ١١ عامًا بضربة شمس وصار يصرخ طوال الطريق، وعندما وصلوا المستشفى فى أسوان كان قد فارق الحياة.
تقول: «كانت صدمتى أكبر من أن تُحتمل، فقد فقدت جزءًا من قلبى، كما توفى عدد كبير من أبناء النساء اللاتى كن بصحبتى فى هذا الطريق الشاق».
الأمم المتحدة: %52 من المسجلين بالمفوضية نساء
قالت كريستين بشاى، المتحدثة باسم مفوضية الأمم المتحدة لشئون اللاجئين فى مصر، إن الواقع الذى عاشته اللاجئات صعب، والمفوضية لا تمتلك إحصائيات دقيقة عن عدد النساء اللواتى فقدن حياتهن أو تعرضن لإصابات قاسية خلال رحلتهن القهرية.
وأوضحت «بشاى» أن النساء اللاتى يفارقن الحياة فى الطريق أو يعانين أمراضًا، غالبًا لا تصل حالاتهن إلى المفوضية بسبب عدم وصولهن أو عدم طلبهن المساعدة، ما يجعل توثيق الحالات أمرًا صعبًا، إذ تعتمد المفوضية على بلاغات تصلها لتسجيل مثل هذه الحوادث، أما الحالات التى لم تطلب فيها النساء المساعدة، فتبقى فى طى النسيان، كأحداث لا يعرف أحد عنها شيئًا.
وأضافت: «الأرقام الحالية تشير إلى تسجيل نحو ٥١ ألف سودانى فى المفوضية، منهم ٥٢٪ من النساء، لكن هذه الأعداد ليست سوى جزء من القصة؛ فتسجيل الأعداد الفعلية ليس دقيقًا إلا إذا تجرأت النساء وطلبن المساعدة، وبينما تظل نسبة كبيرة منهن فى الظل، تعمل المفوضية بجهود مضنية لتقديم خدمات تشمل الرعاية الطبية والدعم النفسى، وتوفير الحماية القانونية لهؤلاء النساء، خاصة من تعرضن للعنف بكل أشكاله بما فى ذلك العنف الجنسى، ولم تنس المفوضية الأطفال، أيضًا، إذ تقدم لهم خدمات تعليمية، كما توفر للأسر المحتاجة دعمًا ماليًا يخفف عنها قسوة الظروف الجديدة».
وتتزايد المأساة فى السودان، إذ أصدرت هيئة الأمم المتحدة للمرأة تقريرًا يشير إلى أن النساء والفتيات هن من أكثر الفئات تأثرًا بالصراع الدائر فى ظل النزاع المستمر هناك، وانقطاع الغذاء والإمدادات الضرورية أصبح سمة حياة النساء السودانيات، ويضطررن لترك ديارهن فى ظروف مأساوية.
ويشير التقرير إلى أن الأزمة أدت إلى ارتفاع ملحوظ فى عدد المحتاجين إلى خدمات الدعم النفسى والاجتماعى المتعلق بالعنف القائم على النوع الاجتماعى، كما زادت حاجة النساء لخدمات متعلقة بالعنف القائم على النوع الاجتماعى بنسبة ١٠٠٪ منذ اندلاع الأزمة، إذ أصبح المواطنون- ومعظمهم نساء وفتيات- فى حاجة ماسة لهذه الخدمات بعد أن تضاعفت الحالات بشكل كبير منذ اندلاع الأزمة، التى تعد واحدة من أكبر موجات النزوح الداخلى فى العالم، إذ تواجه نحو ٥.٨ مليون امرأة وفتاة سودانية الخطر اليومى، ويظل العديد من الحالات دون إبلاغ بسبب خوف النساء من الوصمة الاجتماعية والانتقام، فهن يجدن أنفسهن عالقات فى دائرة مغلقة، ويظل جزء كبير من قصصهن مجهولًا.
أما النساء الفلسطينيات فهن جزء من مأساة أخرى، فلا يسجلن كلاجئات لدى المفوضية، ما يعنى أنه لا توجد إحصائيات خاصة بهن. ومع ذلك، تشير تقارير وزارة الصحة الفلسطينية إلى تزايد حالات العنف ضدهن، إذ يعانين بشكل متزايد من العنف، خصوصًا فى ظل الظروف الجوية المتقلبة التى تزيد من قسوة الحياة عليهن، فالحرارة المرتفعة والبرد الشديد يثقلان كواهلهن بمزيد من الأعباء الصحية والنفسية.
إنصاف عبدالله الفرار من القتل العشوائى بالسودان إلى حفاوة المصريين
تركت إنصاف عبدالله الخرطوم فى مايو ٢٠٢٣، بعدما اجتاحتها أصوات الحرب كرياح عاتية لا تترك خلفها سوى الدمار.. كانت تعيش مع بناتها الثلاث وأختها وزوج أختها وأطفالهما فى سلام، وكان الجميع ينتظر عيد الفطر بفرح؛ اشتروا الملابس الجديدة للأطفال، وكان المنزل مليئًا بالضحكات الصغيرة والأحلام البسيطة، ولكن كل شىء تغير فجأة.
فى اليوم الرابع والعشرين من رمضان، استيقظت إنصاف وبناتها على أصوات الرصاص، كأنه مطر من الحديد يهطل من السماء، كل شىء فى الخارج كان يضج بالفوضى والخوف، حتى إن الصلاة التى كانت ملاذًا للفرح أصبحت تختلط بأصوات الانفجارات وإطلاق النار، فى لحظة واحدة تحول ذلك الأمان الهش إلى رعب يحيط بكل مكان.
لم تتردد إنصاف فى اتخاذ قرار الرحيل، كان الخوف على بناتها يقودها، فالقصص التى سمعتها عن نساء وأطفال تعرضوا للاعتداء والاغتصاب جعلت الخوف يسيطر عليها، ورغم أن الرحيل لم يكن خيارًا سهلًا، لكنه أصبح ضرورة حتمية، ولو كان ثمنه الفراق والألم، خاصة أن بناتها كن فى حالة ذعر، وأعينهن لا تعرف النوم، وكل صوت آت من الخارج يزيدهن خوفًا.
كانت إنصاف تأمل فى أن تكون الحرب مجرد عاصفة عابرة، وأن تهدأ الأوضاع بعد أيام قليلة، لكن الأيام مرت وأصبحت الحرب واقعًا يلتهم كل أمل، ومع الإعلان عن هدنة استمرت سبعة أيام، شعرت بأن الفرصة قد حانت للهروب هى وعائلتها.. جمّعوا ما تبقى من متاعهم وبدأوا رحلتهم الطويلة والمحفوفة بالمخاطر.
الطريق كانت قاسية، ليس فقط بسبب الحرب، ولكن بسبب الطبيعة نفسها؛ فالطقس كان مخيفًا، وحرارة الشمس تضرب الأجساد المنهكة دون رحمة.. النساء والأطفال كانوا يعانون، والأمهات يهرعن لحماية أطفالهن من الجفاف والتعب، والبعض منهن فقد الحياة على الطريق، بعدما استسلمت أجسادهن بسبب الحر والعطش، بينما ظلت إنصاف تقاتل من أجل النجاة.. كل خطوة كانت تغرس فى قلبها شعورًا بأن الموت يقترب، لكن الأمل ظل يدفعها للأمام.
عندما وصلت معبر أرقين على الحدود المصرية- السودانية، رأت مشاهد لا تُنسى، كان هناك آلاف الأشخاص من النساء والأطفال والرجال، كلهم يحملون قصصًا عن الألم والفقد، وكلهم يبحثون عن الأمان. بعض الرجال كانوا يساعدون عائلاتهم فى عبور الحدود ثم يعودون إلى السودان ليواجهوا المصير المجهول وأعينهم كلها مليئة بالرجاء والخوف معًا.
عندما عبروا الحدود ووصلوا مصر، استقبلهم الشعب المصرى والحكومة بحفاوة لم تكن متوقعة، وكانت «الهلال الأحمر» المصرى فى انتظارهم، تقدم لهم الأدوية والمياه والطعام، وشعرت إنصاف بشىء من الراحة والأمان.
النساء اللواتى كن فى حالة صحية سيئة نقلن إلى المستشفيات، والأطفال حصلوا على الرعاية التى يحتاجونها، وكان الجو مختلفًا تمامًا عما تركته خلفها، وكأنها خرجت من كابوس طويل لتجد نفسها فى حضن دافئ يرحب بها. ومع كل ذلك، كانت إنصاف تعلم أن الطريق لم تنته بعد، لكن تلك اللحظة كانت بداية جديدة، بداية لاستعادة الأمل الذى ظنته قد ضاع إلى الأبد.
أطباء:النساء الأكثر تأثرًا بسوء التغذية.. ويحتجن دعمًا صحيًا ونفسيًا عاجلًا لمواجهة حالة فقد الأمل والاكتئاب
قالت الدكتورة عبير الباز، إخصائية التغذية العلاجية، إن النساء اللاجئات عادة ما يكن قد تعرضن لسوء التغذية، بسبب افتقادهن المواد الضرورية لفترات طويلة، وهو ما يزيد أثره عند الحوامل منهن، القادمات من مناطق الحرب والاضطرابات، الأمر الذى يستدعى تدخلات سريعة للتعامل مع حالاتهن.
وأضافت: «يؤدى نقص العناصر الغذائية إلى زيادة معدلات الولادة المبكرة، ما يعرض صحة الأم والطفل للخطر، كما تزيد التغيرات المناخية التى يتعرضن لها لانتقالهن عادة من بلاد إلى أخرى، وتعرضهن لظروف متقلبة، لزيادة مستويات التوتر والقلق».
وأكدت أن الدعم النفسى والغذائى لأولئك النساء، أمر ضرورى لتخفيف معاناتهن وتحسين جودة حياتهن، خاصة أن العبء الأكبر يقع على عاتقهن، سواء أمهات أو معيلات، فى حماية أسرهن.
الأمر نفسه أكده الدكتور حاتم سعد، أستاذ أمراض النساء والتوليد وعلاج العقم بجامعة عين شمس، بقوله إن التغيرات المناخية تؤثر بشكل خاص على القادمات من مناطق النزاعات والاضطرابات والحروب، ويكون لها تأثير أكبر على النساء الحوامل منهن، اللاتى يتعرضن لتقلبات درجات الحرارة، مع الافتقار للرعاية الصحية، الأمر الذى يؤدى إلى تأثيرات شديدة على صحة الأم والجنين.
وأضاف: «بعض النساء القادمات من مناطق النزاع يفتقدن فى كثير من الأحيان فرصة الحصول على مياه الشرب والنظافة الكافية، ما يعرضهن لخطر الجفاف، ويفاقم من تأثير المخاطر الصحية عليهن وعلى أجنتهن».
وحول ذلك، قال الدكتور جمال فرويز، استشارى الطب النفسى، إن معظم اللاجئات يعانين اضطرابات نفسية وحزنًا متراكمًا، خاصة أنهن يكن قد مررن بمشاهد للحروب أو الدمار، وتكون أصوات الاضطرابات والقصف أو الخراب لا تزال تلاحقهن، فى الوقت الذى تعانى فيه كل واحدة منهن لاستعادة شىء من الاستقرار المفقود، حتى وإن كن يعاملن بكرم واستضافة جيدة، كما يحدث لهن فى مصر مثلًا.
وأضاف: «بعض الحالات من النساء القادمات إلى مصر تعرضن لظروف قاسية، ما جعل بعضهن يفقدن الأمل ويصبن بالاكتئاب، وأولئك النساء يحتجن إلى دعم نفسى واجتماعى حقيقى، حتى يتمكن من التعامل مع مشكلاتهن اليومية، وسط حالة صعبة من الحنين للأوطان وفقدان الأحبة وصعوبات التأقلم مع الحياة الجديدة.
وتابع: «لا تتوقف معاناة أولئك النساء عند المسائل النفسية والعاطفية فقط؛ بل تمتد لكل شىء فى حياتهن اليومية، حتى إنهن يتأثرن بشكل سيئ بتقلبات المناخ، التى مررن بها منذ غادرن أوطانهن، وسط انقطاع عن موارد الحياة الأساسية، مثل الماء والغذاء والرعاية الصحية، الأمر الذى يثقل كاهلهن ويزيد من قسوة الحياة عليهن».
وطالب الاستشارى النفسى بتعزيز الوعى بقضايا اللاجئات، لرفع المعاناة عنهن وتقديم الدعم المناسب لهن، ومساعدتهن فى التأقلم مع الظروف التى مررن بها، واستعادة استقرارهن النفسى والاجتماعى.