GOLDA.. سيرة امرأة هزمتها المفاجأة!
منذ يوم السادس من أكتوبر الحالى، وأنا أريد الكتابة عن فيلم GOLDA، لكن تسارع الأحداث فى قطاع غزة، وما يجرى فى لبنان، وانتظارنا للرد الإسرائيلى على ضربة إيران، الذى وقع مؤخرًا، فى ليل السبت الماضى على طهران، ومدينتين أخريين، جعلتنى، جميعها، أؤجل ذلك إلى اليوم، قبل أن ينتهى الشهر الذى شهد أعظم انتصار عسكرى مصرى على إسرائيل، منذ واحد وخمسين عامًا من الآن.. إذ يُصور هذا الفيلم- الذى عُرض أول مرة فى مهرجان برلين السينمائى الدولى 2023، قبل أن يُعرض فى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وأيرلندا فى السادس من أكتوبر من نفس العام- سيرة رئيسة وزراء إسرائيل الراحلة، جولدا مائير، خلال حرب ما أسموه هم؛ «حرب يوم الغفران»، من بطولة هيلين ميرين وكاميل كوتين وليف شرايبر، من إخراج جاى ناتيف وكتبه نيكولاس مارتن.
فى أكتوبر 1973، تلقى الموساد الإسرائيلى معلومات استخباراتية، تشير إلى أن مصر وسوريا تستعدان لبدء حملة عسكرية ضد إسرائيل، والتى نقلها على الفور إلى رئيسة الوزراء، جولدا مائير، التى ترفض المعلومات الاستخباراتية، مشيرة إلى عدم قدرتها على بدء خطة مضادة دون دعم وزير دفاعها، موشيه دايان، الذى اعتبر أيضًا المعلومات أنها تكهنات بنفس القدر.. وفى السادس من أكتوبر، يوم عيد الغفران عند تل أبيب، أبلغت الدائرة الداخلية لجولدا، بأن مصر قد حشدت قوة كبيرة مقابل قناة السويس، وخلصت إلى أن الأعمال العدائية ستبدأ بحلول غروب الشمس.. على الرغم من إدراكها تأخرها فى الاستعداد بشكل كاف، ترفض جولدا اتخاذ خطوة وقائية، تكلف البلاد كثيرًا، إذ سبق وأن تمت التعبئة أكثر من مرة، بناءً على معلومات استخباراتية ثبت خطؤها، وقت أن كان الرئيس الراحل، أنور السادات، يمارس الخداع الاستراتيجى مع إسرائيل.. وبدلًا من ذلك، تأمر بتعبئة جزئية لمواجهة التهديد.. إلا أن هجوم الجيش المصرى يبدأ مبكرًا، عند الساعة الثانية ظهرًا، مما يفاجئها.. وفى مكان آخر، يشعر موشى ديان، وزير الدفاع، الذى أرسل لتفقد مرتفعات الجولان، بالرعب عندما يكتشف أن سوريا شنت هجومًا شاملًا ضد القوات الإسرائيلية غير المستعدة بشكل جيد.. فى حالة ذهول، يحاول الاستقالة، لكن جولدا تُثنيه عن قراره، مع أنها فقدت ثقتها به.
بين يومى السابع والثامن من أكتوبر، مع تحقيق مصر وسوريا تقدمًا على إسرائيل، اقترح رئيس أركان الجيش الإسرائيلى، اللفتنانت جنرال ديفيد أليعازر، تخفيف الضغط على قواتهم فى شبه جزيرة سيناء، باستخدام الفرقة 162، بقيادة اللواء أبراهام آدن، على الرغم من معارضة رئيس الموساد، تسيفى زامير، لكن المصريين هزموا القوة الإسرائيلية.. وفى اليوم التالى، مع تباطؤ الهجوم السورى، اقترح ديان ضربة جوية على دمشق للضغط على مصر.. ومع نقص الطائرات، بدا سلاح الجو الإسرائيلى غير قادر على المضى قدمًا.. وردًا على ذلك، طلبت جولدا من وزير الخارجية الأمريكى، هنرى كيسنجر، توفير طائرات إضافية ودبابات، وهو ما وافق عليه على مضض.
فى اليوم الخامس، وسط توترات متزايدة، يقترح اللواء أرييل شارون، عملية لعبور القناة إلى الضفة الغربية باستخدام الفرقة 143، لمواجهة الجيشين المصريين، الثانى والثالث.. أبلغ تسيفى جولدا بأن الفرقتين 4 و21 المصريتين ستعبران القناة إلى الضفة الشرقية فى غضون يومين، تاركة القاهرة دون دفاع فى حالة وقوع هجوم.. وفقًا للمعلومات الاستخباراتية، يعبر المصريون القناة ويقابلون مقاومة من قوات الدبابات الإسرائيلية بقيادة الفريق حاييم بارليف.
فى 15 أكتوبر، عبرت قوات شارون القناة فى نقطة غير محمية تسمى «المزرعة الصينية»، فيتعرضون لكمين من قبل الوحدات المصرية، بغض النظر عن أنهم يحتفظون بمواقعهم.. فى هذه الأثناء، يستعد أليعازر لحصار الجيش الثالث عن طريق قطع السويس عن القاهرة، مما سيجبر مصر على الدخول فى مفاوضات.. فى الوقت نفسه، يقوم كيسنجر بزيارة خاصة إلى جولدا، ويحثها على قبول وقف إطلاق النار.. وتقبل مصر بالمحادثات.
بحلول اليوم العشرين، اتفق الجانبان على مزيد من المحادثات الدبلوماسية وتبادل أسرى الحرب، مما أدى إلى إنهاء الصراع بشكل فعَّال.. ومع ذلك، أبلغ تسيفى جولدا سرًا، بأن رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، اللواء إيلى زيرا، قد أهمل مراقبة استخبارات أجهزة التنصت الصوتية، بشكل صحيح من الجانب المصرى، مما سمح بمهاجمة إسرائيل على حين غرة.. وعلى الرغم من شعورها بالفزع، إلا أنها اختارت تحمل اللوم بدلًا من ذلك، لحماية الجيش الإسرائيلى من الدخول فى جدل.. وبالرغم من الاتفاق، فإن شدة الصراع تُلحق صدمة نفسية بجولدا، المرأة المُسنة، المصابة بالسرطان.
وبعد عام واحد، فى عام 1974، أدلت جولدا بشهادتها أمام لجنة «أجرانات» عن سلوكها خلال الحرب.. وتقول بشكل غير رسمى، إنه على الرغم من عدم اليقين الأولى، فقد شعرت حقًا بأن الحرب كانت مؤكدة.. بعد أربع سنوات، فى الثامن من ديسمبر 1978، توفيت جولدا طريحة الفراش، وهى تُشاهد لقطات من اجتماعها مع الرئيس المصرى أنور السادات قبل عام.. وقد برأت اللجنة جولدا من أى مخالفات، وعاشت لترى توقيع اتفاقيات كامب ديفيد، وهى أول إجراءات رسمية للسلام بين إسرائيل وجيرانها العرب.. وخلص نقد للفيلم، أجرته إيمى نيكلسون، فى صحيفة نيويورك تايمز، إلى أنه على خلفية الهجوم المفاجئ على إسرائيل، يركز السيناريو، على عدد الجثث المؤرِق، حيث «يُترك المرء مع شعور، بأن ضغوط تلك الآلاف من الأرواح التى قُطِعت، ربما قتلتها جولدا».. ورأى آخرون أن فيلم GOLDA، لا يرقى أبدًا إلى أكثر من درس تاريخ مقبول، يتم تقديمه فى شكل سيرة ذاتية مُخيب للآمال إلى حد كبير.. ويصف مات جولدبرج الفيلم بأنه «اعتراف بالتفصير»، و«براجماتية باردة تؤدى إلى دفء السلام»، ووصف رمزى بارود الفيلم بأنه «دعاية إسرائيلية نموذجية».
وبدلًا من التجسيد المرئى على الشاشة، الذى يخلق حالة من الإحباط وفقدان الثقة، وذاكرة قد لا يُمحى أثرها، لا تظهر الانفجارات وإطلاق النار إلا فى لقطات إخبارية وفى أماكن أخرى، إما أن تُرى من مسافة بعيدة، أو تُسمع فى الغالب عبر اتصالات الجيش بدلًا من عرضها على الشاشة، وهذا ينطوى على صراخ الجنود ووصف منطقة الحرب، والتى يمكن أن تكون مكثفة فى بعض الأماكن.. وشوهدت الجثث تحت الملاءات فى المشرحة، والتوابيت مصطفة على مدرج المطار، بينما يتم علاج جولدا من سرطان الغدد الليمفاوية، مع مشاهد طبية فى المستشفى.. وكثيرًا من تدخين جولدا السجائر بشراهة.
●●●
فى خضم المعارضة الواسعة النطاق، لعدم استعداد إسرائيل عندما تعرضت لهجوم من جانب مصر وسوريا فى وقت واحد، تشارك رئيسة الوزراء الإسرائيلية، جولدا مائير، تجربتها فيما حدث خلال حرب السادس من أكتوبر، أو «يوم الغفران»، التى استمرت تسعة عشر يومًا والتى كادت تدمر بلدها.. لا يتم اصطحاب الجمهور إلى جبهة القتال، ولكن يتم منحهم لمحة خلف الكواليس عن مراكز القيادة، ويُسمح لهم بالاستماع إلى القوات وهى تصرخ وتستغيث، مما يدفع تل أبيب إلى تقديم تنازلات من أجل وقف إطلاق النار، ومن أجل البقاء على قيد الحياة على المدى الطويل.. يقع عبء القرارات، التى لا يمكن تصورها بشكل كبير، على أكتاف جولدا، بينما تحاول حكم بلدها، وحشد القوات ومحاربة شكل عدوانى من السرطان.. ويحصل الجمهور على لمحة نادرة عن الضغوط التى واجهتها هذه المرأة، والجانب الإنسانى وراء هذه الشخصية السياسية، وأسباب الاختيارات الجسيمة التى اتخذتها.
تسير جولدا وسط حشد غاضب يصرخ فى وجهها.. إحدى الشخصيات، عندما تتحدث عن العدو، تعد الآخرين قائلة: «سنسحق عظامهم».. تحدث انفجارات أثناء إصابة الدبابات.. ويبدو الأمر كما لو أن آلاف الدبابات قد دُمرت.. وأصوات جنود يتوسلون المساعدة والتعزيزات قبل أن يُقتلوا.. يقع عدد من جنود الاحتياط فى الفخ، «ومن بينهم ابن إحدى الشخصيات التى تعمل مع جولدا»، وعندما تأمر جولدا بإنقاذهم، يتضح أن الأمر كان فخًا حيث يُقتل ألف رجل آخر.. تُطلَق الصواريخ ويُطلَب من الجنود الإسرائيليين ألا ينسحبوا.. ومن مركز القيادة، تستمع جولدا ومستشاروها إلى الجنود وهم يتوسلون لإنقاذ حياتهم، قبل أن يسمعوا طلقات الرصاص والانفجارات التى تودى بحياتهم.. تتم عمليات علاج جولدا السرية من السرطان فى مشرحة، وفى كل مرة تزورها تجد المزيد والمزيد من الجثث تصطف على جانبى جدارى الممر الذى تمر به.. الدبابات الإسرائيلية تطلق النار على بعضها البعض وتنفجر.. وفاة أحد عشر طيارًا.. تريد جولدا أن تجعل «الأعداء» يعتقدون أنها قادرة على فعل أى شىء، بما فى ذلك السماح عمدًا بموت ثلاثين ألف رجل.. وتقول إن العدو إذا لم يخشانا، فسوف يهاجمنا مرارًا وتكرارًا.. فى مشهد متوتر، تقوم جولدا بتقطيع راحتى يديها بأظافرها، بينما يتساقط الدم على يدها.. ترد جولدا على مكالمة هاتفية، لتكتشف أن ثلاثمائة رجل آخرين لقوا حتفهم «وتسجل عدد القتلى فى كتاب صغير تحمله معها».. وتغمرها أصوات إطلاق النار والصراخ.. وبينما تبدأ الغرفة بالدوران حولها، تسمع بكاء الأطفال.. فتستلقى على الأرض وتغطى أذنيها بيديها، فى محاولة لحجب الأصوات المروعة.. تقضى جولدا ليلتها فى أحد المطارات حتى وقت متأخر من الليل، لمشاهدة إنزال جثث الجنود من الطائرة فى صناديق خشبية.. وفى نهاية الفيلم، يظهر عدد كبير من الطيور الصغيرة الميتة، ملقاة على أرضية ممر المستشفى.
●●●
يعتمد هذا الفيلم المثير للاهتمام، الذى يستند إلى أحداث حقيقية أحاطت بحرب السادس من أكتوبر، أو «يوم الغفران»، فى سبعينيات القرن العشرين، على أداء جدير بالأوسكار من قبل هيلين ميرين.. لكنه فى الحقيقة يفشل فى تحقيق النجاح المطلوب، كما ترى الكاتبة، إريك وارن، فى مقال لها بعنوان «جولدا.. ثقل التاريخ»، التى تستطرد بالقول: «وهذا أمر مخيب للآمال بشكل خاص، إذا ما أخذنا فى الاعتبار ما يجرى حاليًا فى الشرق الأوسط- فى منطقة تكاد تكون مطابقة لتلك التى تدور فيها أحداث فيلم جولدا- فقد كان من الممكن أن يكون هذا مثالًا واضحًا، بل وربما مفيدًا».. كانت الحرب القصيرة نسبيًا هنا، ضد دولة إسرائيل التى لم تكن معترفًا بها فى ذلك الوقت.. وبناءً على ما نعرفه الآن، يبدو أن إسرائيل كانت فى حالة حرب مع جيرانها العرب منذ تأسيسها.. أو ربما كانوا فى حالة حرب معها، اعتمادًا على وجهة نظرك، تقول الكاتبة: إننى أقدر أن فيلم جاى ناتيف، يركز بشكل كبير على رئيسة الوزراء التى يحمل الفيلم اسمها، جولدا مائير، التى تدخن السجائر باستمرار.. وكما ذكرت، فإن أداء ميرين رائع.. وكان يستحق الفوز بالأوسكار، بفضل أدائها الطبيعى لشخصية سياسية عملاقة.. ويبدو أن صوتها الأجش، الذى يُدخن السجائر باستمرار، يجسد شخصية مائير حرفيًا.
ولكن كما قال أحد النقاد، فإن الأمر برمته يبدو وكأنه «مسرحى» بعض الشىء.. فديكورات التصوير والإضاءة والممثلين المشاركين وطاقم الممثلين المساعدين، لا تهدف إلا إلى إبراز شرح ميرين لامرأة كانت معقدة ورائعة، على حد فهمى.. وهذه هى المشكلة الحقيقية فى فيلم «جولدا»، فبقدر ما نستطيع أن نعجب بأداء ميرين، فإننا لا نعلم الكثير عن المرأة نفسها، ودوافعها، وقصتها الخلفية.. لا، إن فيلم «جولدا» ينقلنا إلى أيام التوتر الشديد التى سبقت حرب يوم الغفران.. وما لم نكن طلابًا للتاريخ، فإننا لا نعرف حتى كيف وصلنا إلى هذه النقطة، على الرغم من أن المونتاج الافتتاحى الذى يشبه فيلم «سيد الخواتم»، والسيناريو الماهر الذى كتبه نيكولاس مارتن، يعطينا تلميحات، بأن رغبة إسرائيل فى الاعتراف بها من قِبَل العالم العربى وكل العالم العربى تقريبًا لا يعترف بها وقتئذ- كانت عاملًا قويًا أدى إلى اندلاع الحرب.. وسوف أشيد بمارتن وناتيف فى شرح التحركات العسكرية الفعلية، والقرارات اليائسة التى أدت إلى مقتل الآلاف من الجنود الإسرائيليين، ولكنها أدت فى النهاية إلى وقف الحرب.. وعندما تتحقق أمنية جولدا أخيرًا، ويعترف السادات رسميًا بدولة إسرائيل، كانت لحظة غير عادية، لا يبدو أن فيلم «جولدا» يستحق هذه اللحظة.. ربما كان ثقل التاريخ أكبر من أن يتحمله صناع الفيلم.
لقد كانت حرب السادس من أكتوبر، أو «يوم الغفران»- الفصل الأخير فى حياة مائير، كما وصفتها سونيا أندرسون، والمحور الرئيسى فى فيلم GOLDA- بمثابة الأساس الذى قام عليه إرثها فى الذاكرة الجمعية الإسرائيلية.. إن مائير لو استقالت عام 1972، لكانت قد ظلت بطلة وطنية لا جدال فيها.. ولكنها لم تفعل ذلك، بل استمرت فى المنصب الذى أوكل إليها، وهو المنصب الذى لم تكن تتوقع قط أن تشغله.. وكما روت مائير فى مذكراتها: «لقد أصبحت رئيسة للوزراء لأن هذا هو الوضع، بنفس الطريقة التى يُصبح بها بائع الحليب ضابطًا مسئولًا عن موقع متقدم على جبل الشيخ.. لم يكن أى منا يتمتع برغبة خاصة فى العمل، لكننا قمنا به على أفضل وجه ممكن».
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.