رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

استجابة لنداء الأزهر الشريف.. هذه بعض حقائق المشهد!

(١)

يوم الخميس الموافق السابع عشر من أكتوبر، وعقب مقتل أحد أهم قيادى حركة حماس الفلسطينية، أصدر الأزهر الشريف بيانًا يسجل فيه موقفه من الأحداث السياسية الراهنة، ومما جاء فى البيان ما يلى: «إن المجتمع الدولى يغط فى صمتٍ كصمت الموتى فى القبور، والقانون الدولى لا تساوى قيمته ثمن المداد الذى كُتب به.. إن شهداء المقاومة الفلسطينية كانوا مقاومين بحق. أرهبوا عدوهم، وأدخلوا الخوف والرعب فى قلوبهم، ولم يكونوا إرهابيين كما يحاول العدو تصويرهم كذبًا وخداعًا، بل كانوا مرابطين مقاومين متشبثين بتراب وطنهم».

واختتم الأزهر الشريف بيانه بهذا النداء إلى وسائل الإعلام عن «أهمية فضح كذب الآلة الإعلامية الصهيونية وتدليسها، ومحاولتها تشويه رموز المقاومة الفلسطينية فى عقول شبابنا وأبنائنا وتعميم وصفهم بالإرهابيين.. المقاومة والدفاع عن الوطن والأرض والقضية والموت فى سبيلها شرفٌ لايضاهيه شرف».

ورغم أننى لا أعمل بالصحافة أو الإعلام كمهنة، لكننى أشرف بحمل أمانة القلم ومسئولية الكلمة أمام الله وضميرى الوطنى الدينى. وانطلاقًا من هذه المسئولية، وتثمينًا وتقديرًا لهذا النداء، وإدراكًا منى لأهميته، واستجابة له، أكتب مقالى هذا. وهو بعيد- فى مصادره وغاية كاتبه- عن الوقوع فى فخ الدعايات الصهيونية، كما طالب بذلك البيان. فغاية كاتبه لا تختلف عن غاية كاتب بيان الأزهر شديد القوة البلاغية، وربما تزيد قليلًا عنه، فغايتى هى حماية عقول شبابنا وأبنائنا من محاولات التدليس والعبث بها وإرباك بوصلتها مهما كانت مصادر هذا التدليس والإرباك، وليس فقط ما يصدر عن الآلة الإعلامية الصهيونية التى نتفق جميعًا على عمدها لذلك!

أما عن المصادر التى استعنتُ بها، فهى لا تخرج عن ثلاثة روافد محددة، الأول منها هو مراجع تاريخية عربية أكاديمية منشورة متاحة للجميع، أما الثانى فهو وثائق فلسطينية ومصرية منشورة أيضًا ومتاحة للجميع. وآخر تلك المصادر هو معاصرة ومتابعة الفصول الأخيرة للأحداث السياسية المتعلقة بالقضايا موضوع البيان!

(٢)

وأرى فى البداية أنه لا حقيقة صادقة مكتملة يمكن أن تجد طريقها للعقول دون الرضوخ لحتمية المرور المعلوماتى الموجز على الفصل الأول من هذه الرواية التراجيدية! فكثيرٌ من الأجيال الجديدة تعتقد أن فلسطين كانت دولة موحدة مستقلة ذات سيادة يحكمها كلها حاكم عربى سواء رئيسًا أو ملكًا، ويسكنها شعب عربى واحد، ثم تم احتلالها صهيونيًا! هذا الاعتقاد وهمٌ كامل!

ففلسطين أو بالاستين- كاسم لأرض- لم تعرف قبل العصر اليونانى. ومنذ عصر الإمبراطور الرومانى فسباسيان تم استخدام الاسم رسميًا للإشارة إلى ولاية رومانية تشير أولًا إلى الساحل فقط.

أما فيما يخص السكان، فنحن منذ القدم نتحدث عن ثلاث مجموعات، أقدمها كان فى بداية الألف الثالثة قبل الميلاد، حيث كانت موجة الهجرة السامية العربية الأولى الكبرى «الأمورية والكنعانية والفينيقية واليبوسيين» من شبه الجزيرة العربية أو سواحل الخليج العربى.

ثم ظهرت المجموعاتان الأخيرتان فى أوقات متقاربة، حيث ظهرت قبائل «البلست» الذين سيُطلق اسمهم على الأرض ضمن هجوم قبائل شعوب البحر على مصر والسواحل الفينيقية حوالى القرن ١٣ ق.م، ثم تلتها حوالى ١٢٢٠ ق.م هجرات اليهود. ومنذ عام ١٠٢٠ ق.م تقريبًا ستبدأ- دون توقف تقريبا لمدة قرون- الصراعات المسلحة على الاستحواذ والحكم والسيطرة على هذه الأرض التى تحولت لتصبح أرض دماء وحروب ونزاعات لا تتوقف، وكان يحدث كثيرًا أن تضربها ظروف اقتصادية وبيئية قاسية، أو تجمع المتصارعين أطماعٌ مشتركة، أو تغريهم معًا ظروف سياسية معينة خارج أرضهم كضعف الآخرين، فيقومون مجتمعين متحالفين بمحاولات غزو مصر! لقد قامت ممالك كثيرة عربية ويهودية صغيرة وبقيت حقيقة مهمة، لم يكن فى أى عصر تاريخى قديم أو حديث إن كانت هناك دولة واحدة مستقلة تجمع فى حدودها هذا المسمى اليوم بفلسطين ويحكمها كلها حاكم وطنى واحد، سواء دولة عربية أو مملكة يهودية! كان الحديث دائمًا عن السيطرة على جزء من الأرض وليس كل الأرض!

(٣)

ثم كان عصر جديد تصبح فيه هذه الأرض ضمن ممتلكات دول وإمبراطوريات كبرى. وحسب التقسيم الإدارى الذى تراه كل إمبراطورية كانت طبيعة هذه «الولاية» وما تضمه من أرض ومدن، وهل هى ولاية أو أكثر، أو جزء من ولاية؟! فمثلًا فى عام ٦٣٩م غزا العرب ولاية فلسطين البيزنطية وقسموها إداريًا إلى قسمين، الأول عاصمته الرملة، والثانى عاصمته بيت المقدس. وكان هناك يهود يقيمون فى الولاية. وفى القرن ٨م استوطن يهود جدد مدينة القدس وعملوا كسكاكى نقود وصباغين ودباغى جلود وصيارفة. وفى القرن ١١ مع إرهاصات الحملات الصليبية هاجر إلى فلسطين أعداد من يهود ألمانيا. وتعرض المسلمون واليهود لمذابح صليبية كبرى عام ١٠٩٩م، وبعدها سمح لهم صلاح الدين بحرية دخول القدس. وحين أصبحت تقع تحت سيطرة الحكم العثمانى فقد قسمها العثمانيون- وهى كانت تسمى ولاية جنوب سوريا- إلى سنجق أو مديرية القدس المستقل تحت ولاية وزير الداخلية العثمانى بعدد قرى ٣٢٨ قرية وعدد سكان ٣٤٠ ألف نسمة، وسنجق عكا بعدد قرى ٢٢٢ وعدد سكان ٧٧ ألف نسمة، وسنجق نابلس بعدد قرى ٢١٢ قرية وبعدد سكان ٤٩ ألف نسمة. كان كل من سنجق عكا ونابلس تابعين لولاية الشام ثم أصبحا تابعين لولاية بيروت منذ عام ١٨٨٣م.

(٤)

فى هذا العقد كان عدد السكان حوالى ٤٤٦ ألف نسمة من العرب مسلمين ومسيحيين، و٢٤ ألف يهودى يقيمون فى «القدس وطبريا والصفد والخليل».

بدأت الحركة الصهيونية وتزامنت مع وصول النظام الإقطاعى لذروة توحشه باستيلائه على أراض كثيرة من الفلاحين وقرى كاملة تم بيعها فى مزادات علنية لصالح الدولة العثمانية لاستيفاء الضرائب. وتحالف النظام العثمانى مع طبقة الملاك بعد أن كانت أصدرت الحكومة قوانين عام ١٨٥٦م التى ساعدت فى تشديد قبضة الملاك الإقطاعيين على الأراضى الزراعية، فقام فلاحون كثيرون بتسجيل أراضيهم بأسماء إقطاعيين وتجار تهربا من الضرائب والجندية. أدى ذلك لاستيلاء عائلات من أغنياء بيروت وتجارها على هذه الأراضى مثل عائلات «بسترس وسرسق وتوينى ومنى فرح وسليم الخورى»، ومن ضمنها أخصب أراضى مرج بنى عامر. فى هذه السنوات نشطت ظاهرة شراء اليهود للأرض وقيام المليونير اليهودى إدموند دى روتشيلد بتمويل عمليات الشراء.

قام بالبيع كل من..

ملاك الأراضى من الأسر اللبنانية مثل أسر سرسق وتيان وتويتى.

ملاك فلسطينيون من أسر مسلمة ومسيحية مثل عائلات كسار وروك وخورى وحنا مصطفى باشا وفؤاد سعد.

فلاحون فلسطينيون باعوا ثلاث قرى مساحتها ٧% من مساحة ما تم بيعه عام ١٩١١م.

طبقة المرابين العرب ممن استولوا على مساحات لعدم قدرة الفلاحين على سداد ديونهم وقروضهم الباهظة.

هناك مخطوط أو وثيقة فلسطينية بعنوان المسألة الصهيونية كتبها أحد أفراد أسرة خالد المقدسية أرفق بها قوائم لجميع القرى والمستعمرات اليهودية وأسماء الملاك الذين باعوها مثل ما رصده من عمليات بيع قام بها أفندية الصفد والرملة.

استمرت هذه الموجة الأولى الكبرى من الهجرة اليهودية من عام ١٨٨٢ حتى الموجة الثانية ١٩٠٥م.

حدثت خلال تلك الفترة صدامات بين الفلاحين العرب والصهاينة الملاك الجدد حين استفاق الفلسطينيون على الواقع الجديد. هذه الصدامات ضغطت على الحكومة العثمانية لإصدار مراسيم للحد من الهجرة اليهودية، لكن العثمانيين لم ينفذوا تلك المراسيم بجدية فوقعت صدامات مسلحة بين الطرفين ١٨٩٢م. وبدأت الموجة الثانية للهجرة بين عامى ١٩٩٥ و١٩٠٧م وفيها أسفر الوجه العثمانى عن نفسه كاملًا، حيث قام ولاة عثمانيون بمحاباة الصهيونية مثل رشاد باشا والى القدس١٨٩٠م، ومارس الحكام سياسة القمع ضد العرب حتى إنه قامت مظاهرة عام ١٩١٣م ضد اعتزام الحكومة العثمانية بيع أراضى قرية بيسان لليهود! كان محصلة ما سبق حتى عام ١٩١١م أن بلغ عدد القرى اليهودية ٢٨، ثم بلغت ٣٠ قرية بعد عامين بمساحة بلغت ٢٨٠ ألف دونم، والدونم ألف متر مربع، وذلك طبقًا لوثائق فلسطينية رسمية! وثيقة فلسطينية أخرى كتبها طالب فلسطينى جاء بها «اليهود يتبعون وسائل ملتوية كرشوة الحكام العثمانيين لتسهيل شراء الأراضى الفلسطينية»، وكتبت صحف فلسطينية مثل «الكرمل» تتهم الأتراك صراحة بمحاباة اليهود فيما يخص القوانين الخاصة بالهجرة اليهودية ومنح اليهود امتيازات مثل الإعفاء من التجنيد للتفرغ للعمل الاستيطانى الزراعى، ومثل التمتع بالامتيازات الأجنبية وهوجمت عائلات مثل عائلة سرسق لاعتزامها بيع قريتين عام ١٩١٠م!

قفز عدد اليهود من ٢٥ ألفًا عام ١٨٨٠ إلى ٥٥ ألفًا عام١٩٠٠، ثم ٨٠ ألفًا عام ١٩١٠، وإلى ١٧٠ ألفًا عام ١٩٣٠، وإلى ربع مليون عام ١٩٣٣، و٤٤٠ ألفًا عام ١٩٣٨. وقبيل حرب ١٩٤٨ أصبح لدينا واقع يقول إن عدد سكان هذه الأراضى بلغ مليونًا و٧٠٠ ألف نسمة، منهم ٥٢٨ ألف يهودى، أى بنسبة الثلث دخلوا كمهاجرين وقاموا بشراء أراض رغم عدم انتمائهم ليهود فلسطين!

هذه هى وثائق محليات فلسطينية رسمية وهذا قبل انطلاق الحرب وكنتيجة مباشرة لعمليات بيع الأتراك والعرب لأراضى فلسطينية!

(٥)

خسر العرب الحرب العسكرية وصدر قرار وقف إطلاق النار وقرار التقسيم الذى كان يضمن للعرب دولة مستقلة تفوق مساحتها ما سيبحث عنه العرب بعد ذلك بعقود! رفض العرب التقسيم دون أن تكون لديهم رؤية أو خطة عملية.. لم يكن لديهم سوى الرفض الصوتى! هذا الرفض كان معناه ضمنًا ترك الصراع المسلح مفتوحًا وعدم التشبث بما كان يمكنه أن يكون دولة فلسطينية مستقلة حتى يستجمع الفلسطينيون قوتهم ويبنوا مؤسساتهم وجيشهم ودولتهم! وشمل القرار إشرافًا دوليًا على الأماكن المقدسة الإسلامية والمسيحية. الفصل الأول من المقاومة الفلسطينية الوطنية الحقيقية بدأ مبكرًا جدًا حتى قبل حرب ١٩٤٨م. أهم مشاهد هذا الفصل الأول هو الثورة الكبرى من ١٩٣٦ حتى ١٩٣٩م ضد ممارسات الانتداب البريطانى فى فلسطين. بدأت الثورة بعد استشهاد الشيخ السورى محمد عز الدين القسام الذى سطت جماعة الإخوان فيما بعد على اسمه وتاريخه! تعلم القسام فى الأزهر وبدأ نضاله فى سوريا ضد الاحتلال الفرنسى ثم اتجه إلى فلسطين. كان القسام أقوى رجال المقاومة فى فصلها الأول وأسس منظمة الكف الأسود ودرب فلاحين لمقاومة ومهاجمة المستوطنات حتى تم استشهاده عام ١٩٣٥م، وفجر استشهاده تلك الثورة الكبرى التى تزامنت مع اشتداد موجة هجرة يهودية بلغت ١٦٠ ألفًا فى ثلاث سنوات! استشهد المئات وتم نفى المفتى أمين الحسينى، لكن الأهم هو مولد قيادة وطنية فلسطينية موحدة للشعب الفلسطينى باسم اللجنة العليا أو الهيئة العربية العليا.

أما الفصل الثانى للمقاومة الوطنية الفلسطينية، فقد أطلقت رصاصته الأولى من مصر بتأسيس حركة تحرير فلسطين أو فتح عام ١٩٦٨م. شهد الفصل الثانى ارتكاب المقاومة أخطاء كبرى، على رأسها استباحة أوطان ودماء عربية فى لبنان والأردن ومصر، وهى الدول التى احتضنت المقاومة أو اللاجئين! لكن مصر تجاوزت عن ذلك وبقيت تساند المقاومة الوطنية بالمال والسلاح والمساندة السياسية، بل خاضت مصر حروبًا منسية مثل حرب مصطفى حافظ، حتى وصلنا إلى مشهد حرب أكتوبر الذى لم يكن لينتهى حتى تعرضت القيادة المصرية لمحاولة انقلاب عسكرى عليها بقيادة فلسطينية! ولم يثنِ ذلك مصر عن تبنى القضية ومحاولة استغلال نصر أكتوبر لتحقيق حكم ذاتى فلسطينى!

(٦)

رفضت المقاومة الفلسطينية موقف مصر وانضمت منظمة التحرير التى نشأت فى مصر بأيدٍ مصرية إلى ما سمى وقتها بجبهة الرفض أو الصمود والتحدى ضد مصر! تزامن مع ذلك تبنى العرب موقفًا ثانيًا لإهدار فرصة تاريخية فى طريق إقامة دولة فلسطينية مستقلة. منذ عام ١٩٧٨ حتى عام ١٩٩٠ تم فرض حصار عربى قادته المقاومة ضد مصر ممزوجًا باتهامات بالخيانة! وفى تلك السنوات بدأ كيان جديد فى التشكل فى قطاع غزة وهو حركة حماس أو حركة المقاومة الإسلامية. فى أثناء حياة عرفات جعلت حماس من غزة قاعدة ومقر حكم دينيًا وشعبيًا، قبل أن تحولها لمقر حكم عسكرى وسياسى!

وبعد سنوات من إهدار فرصة مفاوضات كامب ديفيد الأولى جاءت أوسلو وكامب ديفيد الثانية التى قادت إلى ما يُشبه حكم ذاتى فى الضفة وغزة بشرعية وجود ممثل شرعى وحيد للشعب الفلسطينى اعترف به العالم، وهو منظمة التحرير الفلسطينية. وتم لأول مرة الاعتراف بجواز سفر فلسطينى وسفارات فلسطينية، وكان يمكن لذلك أن يكون الخطوة الأقوى فى سبيل قيام الدولة بشكل حقيقى نهائى. حتى كان الفصل الثالث المعاصر من المقاومة وعنوانه الأكبر «تفخيخ المقاومة من الداخل»! لن نستقى معلوماتنا عن هذا الفصل من أى مراجع أجنبية لأننا باختصار قد عاصرناه! بدأ المشهد بتوجيه السلاح الفلسطينى للصدر الفلسطينى فى جامعة غزة ثم أخيرًا فى مشهد استيلاء حماس عسكريًا على القطاع والاقتتال الداخلى الذى كان إعلانًا بضرب شرعية الممثل الموحد للشعب الفلسطينى أمام العالم!

بعد توجيه حماس سلاحها للفلسطينيين، وجهته لأقرب مساندى القضية وهى مصر! تكفى العناوين! مشاهد عام ٢٠٠٨ ومهاجمة الحدود المصرية واستشهاد رجال حرس حدود مصريين.. محاولة تنفيذ رؤية صهيونية خالصة بمحاولة دفع الغزاوين إلى سيناء وفشل المحاولة!

ما لا يعلمه كثيرون أنه ومنذ الانشقاق الفلسطينى فقد قامت مصر- رغم سلوك حماس العدائى- بعقد أكثر من خمسين لقاء بين الراحل العظيم عمر سليمان وبين الإخوة المتناحرين حتى عام ٢٠٠٩، وذلك بهدف واحد، هو توحيد الجبهة الفلسطينية حفاظًا على وجود ممثل شرعى للشعب الفلسطينى يستكمل طريق إقامة الدولة. وصل الأمر إلى موافقة الجميع فى القاهرة ثم سافر خالد مشعل لسوريا وعقد مؤتمرًا صحفيًا فى دمشق أعلن خلاله عن قرب إنهاء الصراع وتوقيع اتفاق برعاية مصر.. حاولت مصر لدرجة أنها- طبقًا لرغبة مشعل- اقترحت أن يقوم كل طرف بالتوقيع منفردًا! ثم سافر مشعل لإيران وعاد ورفض وأصر على بقاء الإنشقاق!

(٧)

نسيت حماس قضية فلسطين وقررت توجيه قوتها ضد مصر بشكل علنى صريح بعد يناير ٢٠١١م، وكلنا نعرف من محررات رسمية مصرية ما اقترفه مقاتلوها من انتهاك حدود مصر واستباحة دماء قواتها المسلحة وشرطتها ومقدراتها. ثم كان ما يسمى بحرب ٢٠١٢م ضد مصر! اتفاق علنى بين الجماعة فى مصر وفى القطاع، على إجبار أهل القطاع للنزوح وإقامة مخيمات فى سيناء تمهيدًا لنزع قطعة منها! ثم المواجهة المسلحة لعدة سنوات ومقتل عدد من مقاتلى حماس والقبض على عدد آخر فى سيناء!

ابتلعت مصر كل ذلك وقامت بإعادة إعمار القطاع بعد آخر عدوان على القطاع قبل هجمات السابع من أكتوبر. هجمات السابع كانت بتنسيق مع الحرس الثورى الإيرانى وتم التدريب فى سوريا! لو افترضنا حسن النوايا وعدم التواطؤ المباشر مع إسرائيل، فهناك ما يمكن توصيفه بتواطؤ المضمون بأن يقوم من يسمون أنفسهم قادة مقاومة بعملية عسكرية تخدم بشكل مباشر مخططًا صهيونيًا معروفًا! عملية عسكرية خارجة عن السيطرة اشتملت الاعتداء على نساء وأطفال وخطف أجانب وإخفائهم فى القطاع مع علم متخذى القرار بعجزهم التام عن توفير أى حماية لأكثر من مليونى مواطن من ذويهم وعلمهم اليقينى برغبة الجانب الصهيونى فى طرد هؤلاء من بيوتهم إلى الحدود المصرية! ومعرفتهم اليقينية بأن إيران لديها مخططها الخاص بها المنشور والمعلن تحت مسمى الخطة الخمسينية، وأنها كدولة لن تتورط فى حرب مباشرة من أجل فلسطين!

(٨)

حتى لا ننسى، فمقالى هذا استجابة لنداء صادر عن الأزهر الشريف بتوضيح حقائق المقاومة.. لذلك فمن الواجب أن نلقى نظرة ونحاول استقراء رؤية الدين ممثلة فى مسلك النبى عليه الصلاة والسلام فى حروبه. فى غزوة الأحزاب أمر النبى «ص» الصحابى حذيفة بن اليمان حين ذهب لمعسكر الأحزاب بعدم إثارتهم قائلا له «لا تذعرهم علىّ»، أى لا تستفزهم على المسلمين لأن الأحزاب كانوا محاصرين للمدينة!

أمر النبى «ص» بتوفير حماية للمسلمين من النساء والأطفال بعيدًا عن المواجهة!

نهى الإمام ابن حنبل عن وضع غير المحاربين فى المواجهة!

فى حديث المفلس الذى كان مقررًا علينا فى المدارس أن المفلس من أتى بصلاة وصيام لكنه سفك دم هذا وظلم هذا!

كان النبى «ص» ينهى فى الحروب حتى عن الاعتداء على الشجر ناهيك عن استهداف النساء والأطفال!

لم يكلف الرسول «ص» المستضعفين فى مكة بجهاد!

التزم النبى «ص» بعهده مع الكفار وأرجع بعض الذين أسلموا ومنعهم من الغزو فى صفوف المسلمين!

نهى النبى «ص» عن تعريض غير المحاربين لخطر المواجهة العسكرية وهذا يعنى أن فكرة اتخاذ المدنيين كدروع بشرية هى فكرة خارجة عن الإسلام!

حين نضع هذا أمام أعيننا ثم نسترجع بعض مشاهد وتفاصيل السابع من أكتوبر ومسلك بعض قادتها، ربما يرى كاتب البيان الحقيقة كاملة!

القائد الذى صدر البيان بعد مقتله قام بالفعل بسفك دماء فلسطينيين بعد تأسيسه لجهاز مجد وطبقًا لحوار للشيخ أحمد ياسين مع المذيع الإخوانى أحمد منصور فقد تم قتل مواطنين لم يثبت عليهم اتهام الخيانة وإنما للشك بارتكابهم جرائم أخلافية من وجهة نظر جماعة الشيخ ياسين، ومن قام بالتنفيذ نفس هذا القيادى!

ما حدث فى السابع من أكتوبر شمل مهاجمة وأسر نساء أجانب وأطفال وارتكاب جرائم أخلافية لا يمكن إطلاقًا إدراجها ضمن المقاومة الوطنية المشروعة!

صرح قادة علانية بأنهم غير مكترثين بحماية أهل القطاع مثل تعبير خسائر تكتيكية للإشارة إلى عشرات الآلاف من شهداء القطاع من النساء والأطفال والمدنيين! ومثل تصريح نفس القيادى بأن أهل القطاع هم من عوائل المقاومين فى رده على سؤال عن عدد الضحايا!

ابتدع قيادى اسمه نزار ريان فكرة الدروع البشرية ثم اغتالته إسرائيل بصاروخ مع عدد من المدنيين!

وفرت الحركة الحماية لمن اختطفتهم ونزعت الحماية عن أهل القطاع!

وفرت الأنفاق لمقاتليها ولم تقم بحماية طفل فلسطينى واحد وقال قيادى صراحة بأنهم- رغم قيامهم بالفعل العسكرى- غير مطالبين بحماية أهل القطاع!

تاجرت بالمساعدات الإنسانية التى خاضت مصر معركة دولية لتوفيرها بالمجان لأهل القطاع!

قامت الحركة بهجومها وهى تعلم يقينًا بحتمية وقوع مقتلة عظمى ضد أهل القطاع!

نحت الجماعة جانبًا كل ما هو معروف عالميًا من أدبيات المقاومة الوطنية وضوابطها فى القيام بعملياتها العسكرية!

فيما يخص ما ورد بالبيان عن القانون الدولى، فالحركة هى من دهسته دهسًا منذ سنوات حين أعلنت رفضها حل الدولتين وحاولت نزع الشرعية عما استطاع الشعب الفلسطينى الحصول عليه، ودهست القوانين والأعراف ومبادئ الإسلام بالاعتداء على جارتها التى دفعت من دماء أبنائها أثمانًا باهظة للدفاع عن الشعب الفلسطينى!

أما عن مشهد قتل القائد واعتباره يجب ما قبله، فهو يتضاد مع وقائع تاريخية كبرى فى صدر الإسلام. فلقد كان بعض الخوارج قراء للقرآن الكريم وقاتلهم على بن أبى طالب! فقد يكون معتنقًا أى فكرة ضالة شجاعًا مقدامًا دفاعًا عن فكرته، لكن شجاعته لا تنفى ضلال فكرته! نقف احتراماً وإجلالًا للمقاومين بحق الذين لا يشقون صف شعبهم وينزعون شرعية وجود ممثل حقيقى لهذا الشعب، أما الذين لا يكترثون بشعبهم وحياة أبنائه حين يقومون باتخاذ قرارات بشن هجمات عسكرية، فعلينا أن نتحلى بالشجاعة ونتحلى بتعاليم النبوة ونعلن عن وصفهم بصراحة، وإننى أترك لكاتب بيان الأزهر الشريف ولكل صاحب ضمير وعقل أن يصل لهذا التوصيف بنفسه!