رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أزمة الخطاب الدينى المتشدد وفتاوى التحريض

تميزت العلاقة بين المسلمين والأقباط فى مصر، على مدار التاريخ، بأنها علاقة تاريخية متينة وقوية، حتى وصل الأمر إلى حد القول بأن المسيحيين فى مصر، خاصة الأرثوذكس منهم ليسوا أقلية، بل جزء لا يتجزأ من النسيج المصرى، ويرجع ذلك لعدة أسباب، منها التاريخى ويعود إلى فترة الحكم الرومانى، حين دخل الحكم الإسلامى وحرر المسيحيين من الاضطهاد الرومانى، وحافظ على حرية العبادة وبناء الكنائس فى هذا التوقيت، كما يتشارك المسلمون والمسيحيون فى ثقافة مشتركة وعادات وتقاليد واحدة ترسخت فى المجتمع المصرى على مدار سنوات طويلة أصبحت بمثابة بوصلة مجتمعية يحترمها الطرفان.

هذه العلاقة برغم قوتها وصلابتها، إلا إنها شهدت صعودًا وهبوطًا متكررين، بدآ فى سبعينيات القرن الماضى مع تكرار أحداث الفتنة الطائفية، بدءًا من أحداث الخانكة عام ١٩٧٢ مرورًا بحادث الزاوية الحمراء ١٩٨١، وانتهت هذه الفترة بحادث الإسكندرية ٢٠٠٦، الذى قام فيه شخص يدعى محمود صلاح الدين بمهاجمة ثلاث كنائس الواحدة تلو الأخرى؛ مما أدى إلى مصرع شخص وجرح ٦ آخرين وقد ثبت أن هذا الشخص مصاب بخلل عقلى، وفى تحليل لما حدث نجد أن هذه الأزمة كان يمكن أن تمر بهدوء لولا وجود مناخ طائفى واحتقان متبادل بين الطرفين، وهو الأمر الذى أدى إلى تطور الأمر فى اتجاه التصعيد، والذى استخدمه بعض الأطراف الخارجية لتشويه سمعة مصر أمام المجتمع الدولى لإثبات وجود اضطهاد يمارس ضد المسيحيين المصريين، لكن هذا الأمر انتهى سريعًا بعد أن تدارك الطرفان أن هناك مؤامرة تحاك ضد الدولة المصرية، ويجب على الجميع توحيد الجهود لمواجهة هذا التشويه والتحريض، وبالفعل نجحت جهود القيادات الدينية بالتعاون مع الحكومة فى إنهاء حالة الاحتقان وإتمام مصالحة شعبية وعودة العلاقات إلى مسارها الصحيح، وإذا أردنا تحليل هذا الموقف نجد وجود طرفين فى هذا الخلاف الطائفى، الطرف الأول هو من يرغب فى تأجيج الصراع والخلاف، ويمثله التيار الدينى المتشدد من الطرفين، الذى يرفض فكرة العيش المشترك والتسامح، وبالتالى كان يحاول إشعال نار الفتنة، عن طريق تبنى حوادث فردية وتضخيمها؛ بهدف توسيع دائرة العنف والاحتقان الطائفى، أما الطرف الثانى فكان يتمثل فى التيار الدينى الوسطى، الذى يتبنى لغة الحوار ونبذ العنف والتعصب؛ للحفاظ على وحدة الوطن الواحد، وبرغم محدودية قوة هذا الطرف، إلا أن تأثيره كان قويًا؛ لأنه كان مدعومًا بقوة من أغلبية الشعب من الطرفين، والذى كان يصر على عدم تمزيق نسيج الوطن الواحد.

فى حقيقة الأمر إن تكرار مثل هذه النوعية من الحوادث على مدار عقود فائتة؛ لأن المعالجة فى بعض الأوقات كانت تتم بشكل سطحى، إما عن طريق الحوار المؤقت بين الطرفين؛ بهدف احتواء الأزمة، أو من خلال الحلول الأمنية، والتى لم تنجح، بل ساهمت فى بعض الأوقات فى ترسيخ وتعميق الخلافات الطائفية وعدم القدرة على علاج المشكلة بشكل جذرى بهدوء وإغلاق الجرح على ما فيه من صديد.

فى فترة حكم جماعة الإخوان فى مصر عام ٢٠١٣ وصل التحريض ضد المسيحيين والفتنة الطائفية إلى معدل غير مسبوق ظهر بشكل واضح، خاصة فى صعيد مصر وارتفعت وتيرة أحداث العنف وحرق الكنائس بشكل كبير جدًا، وصل إلى حرق ٧٧ كنيسة، وهو رقم قياسى لم يحدث فى تاريخ مصر، ومع قيام ثورة يونيو كان من أهم أهدافها القضاء على الطائفية ونبذ العنف والتعصب، اللذين كانا قد وصلا بالفعل إلى مستوى غير مسبوق ساهم فيه الخطاب الدينى المتشدد وارتفاع مستوى الجهل والبطالة فى هذا التوقيت، الأمر الذى أحدث انقسامًا واضحًا فى الشارع المصرى انعكس  بالسلب على العلاقة بين المسلمين والمسيحيين اجتماعيًا واقتصاديًا، وصدَّر صورة سيئة عن الدولة المصرية، وهنا تحركت الدولة وعلى رأسها الإدارة السياسية فى وضع استراتيجية طويلة المدى، لا تعتمد فقط الحلول الأمنية للقضاء على هذا الظاهرة السلبية من جذورها، وليس من خلال المسكنات، كما كان يحدث فى الماضى، اشتملت هذه الاستراتيجية على عدة محاور، أهمها التصدى للخطاب الدينى المتشدد وفتاوى التحريض مع وضع خطة طويلة المدى لإجراء حوار مشترك مستمر خاصة على مستوى الشباب، والتوعية والتثقيف بقيمة وأهمية العيش المشترك بالتعاون مع المجتمع المدنى؛ لنشر ثقافة التسامح والتعايش، خاصة فى الصعيد والريف، وهو الأمر الذى ساهم بشكل كبير جدًا فى القضاء على الفتنة الطائفية وأحداث العنف التى كانت تحدث على فترات متقاربة جدًا وأصبحت قليلة جدًا مقارنة بفترة ما قبل ثورة يونيو.

وأستطيع أن أقول إن الدولة المصرية قدمت كثيرًا فى هذا الملف وأحرزت تقدمًا كبيرًا يحسب للإدارة السياسية والقيادات الدينية، من خلال توفير مناخ مناسب لتعزيز ثقافة التسامح والتعايش ونبذ العنف والتعصب، وضعت فيه مسارًا واضحًا للمجتمع يستطيع أن يستخدمه للوصول إلى مجتمع متوازن فيه اندماج حقيقى وحياة مشتركة حقيقية، ولكن من الواضح أن هذا الأمر برغم المجهودات المبذولة لم يتحقق بالشكل المطلوب، فما زلنا نعيش حالة من عدم قبول الآخر بشكل كامل مع وجود حالة انقسام على المستوى الاجتماعى والفردى ويظهر بشكل وجود حالة من الانقسام المجتمعى، تمثل فى انحسار المسيحيين داخل أسوار الكنيسة، فأصبحت تمثل المجتمع البديل بكامل أنشطته الدينية والاجتماعية والثقافية والرياضية؛ نتيجة لعدم قبول الآخر له فى المجتمع الطبيعى؛ مما أدى إلى حدوث حالة من الانقسام المجتمعى انغلق فيه كل طرف على نفسه ورفض قبول الطرف الآخر، وهو ما يعد ضربة واضحة للعيش المشترك وسوف يؤدى فى المستقبل إلى مزيد من التباعد والانقسام، ويصبح الأمر وكأننا نعيش فى مجتمعين فى بلد واحد.

لا يمكن بطبيعة الحال إغفال الدور المهم للمؤسسات الدينية فى مصر، فهو دور إساسى ومحورى فى القضاء على هذه الظاهرة بجانب دور الدولة ويتمثل فى تفعيل برامج التعايش، خاصة بين الشباب والتصدى للفتاوى التحريضية التى تستند على التفسير الخاطئ للعقيدة، والتى دائمًا ما تستهدف الفئات محدودى التعليم والثقافة مع التركيز على برامج التثقيف والتوعية ونشرها فى المجتمع المصرى بأكمله مع أهمية إطلاق برامج أنشطة ثقافية واجتماعية رياضية يشارك فيها الجميع يتخللها جانب توعوى وتثقيفى.

رسالتى إلى الطرفين أمامنا فرصة ذهبية تقدمها لنا الإدارة السياسية يجب أن نستغلها، عن طريق نبذ التعصب وتعزيز ثقافة العيش المشترك بهدف تحقيق الاندماج الاجتماعى فى وطن واحد يستطيع أن يحتضن الجميع دون تفرقة أو تمييز، سواء كان على أساس الدين أو العرق أو اللون، ونحتاج بشدة فى هذه المرحلة البعد كل البعد عن الخطاب الدينى المتشدد المستتر ومحاربة تأجيج الخلاف العقائدى وعدم التشبع بالأفكار الناتجة عنه لما لها من تأثير خطير على قبول الآخر، خاصة فى المراحل السنية الصغيرة؛ لأننا نحتاج لأن نبنى جيلًا جديدًا يحترم الآخر ويعتبره شريكه فى الوطن.

عزيزى المواطن شريكى فى الوطن، لقد انتهى زمن استخدام الأنظمة الفتنة الطائفية، والتفرقة بين أبناء الوطن الواحد لخدمة مصالحها السياسية، أو إلهاء الناس عن مشاكلهم الحقيقية، فنحن نعيش فى وطن المسئول عن إدارته يسعى بشكل كبير للقضاء على التعصب الدينى، ليس بالقول فقط بالفعل أيضًا، بهدف توحيد الصف كشعب واحد ونسيج واحد قادر على مواجهة تحديات مستقبلية داخلية وخارجية كبيرة تحتاج إلى مجتمع واع به اندماج حقيقى وليس شكليًا وهذا الاندماج يسهم بشكل كبير فى تقوية النسيج الوطنى.

نحن نعيش فى مرحلة نحتاج فيها أن نبدأ بأنفسنا دون النظر إلى الغير من خلال تحسين روابط العيش المشترك بداخلنا، ونسعى إلى نشر ثقافة قبول الآخر فى مجتمعنا البسيط وتظهر من خلال تعاملاتنا اليومية والتجارية والنتيجة فى النهاية ستكون مذهلة وسوف تنعكس بالإيجاب على جودة المجتمع بشكل عام.

وهنا وجب التأكيد أن الفتنة الطائفية ليست أزمة مستدامة كما يحاول البعض تصويرها، لكنها أزمة مؤقتة تنفجر من وقت لآخر نتيجة لأفكار وممارسات مجتمعية مغلوطة من بعض الأفراد والكيانات، وهو أمر ترفضه الدولة وتواجهه بشكل حاسم، سواء من خلال تفعيل القانون والحوار المشترك، وهو ما يجعل دائمًا الكرة فى ملعبنا أخى المواطن.

الدين لله والوطن للجميع