استشارية نفسية فلسطينية: «بعض الأطفال قلبهم توقف من الخوف»
فى ظل الظروف القاسية التى يمر بها الشعب الفلسطينى، تبرز قصص أفراد يعيشون عمق هذه المعاناة الإنسانية، ومن بينهم الاستشارية النفسية إسراء الشعلان، الحاصلة على ماجستير صحة نفسية، وتعمل فى بيت لحم.
وتشهد «إسراء» يوميًا التحديات النفسية التى يواجهها المرضى الساعون إلى تخفيف آلامهم النفسية وسط الحرب والاحتلال، لتعيش حياة صعبة للغاية، بين قلق الأسرى المحررين وصدمات الأطفال وأوجاع المصابين بجروح أو فقد أحبائهم.
فى حوارها مع «الدستور»، تفتح الاستشارية الفلسطينية نافذة على الجراح النفسية التى لا تلتئم بسهولة، حتى مع توقف أصوات المدافع، مستعرضة كيف أسهم الاحتلال الإسرائيلى فى تدهور الصحة النفسية للفلسطينيين، وسط ظروف لا يمكن التنبؤ بها.
■ ما الذى حدث وتغير فى الصحة النفسية للفلسطينيين الذين تعالجينهم منذ السابع من أكتوبر؟
- فى ظل الظروف الحالية زادت حالات الاكتئاب، فمن كان يعانى من هذه الحالة فى وقت سابق ساءت حالته أكثر. كما أن قلة العمل تسببت فى مشاكل كبيرة بين الأزواج. بالعامية نقول «يتفشوا فى بعض». والأسرى المحررون سابقًا زاد لديهم الخوف والقلق والاضطرابات.
وفى الظروف التى نعيشها، دخل أغلب الشباب السجون وخرجوا منها. ومع الأحداث التى وقعت فى السابع من أكتوبر، والفيديوهات التى شاهدوها حول الظروف غير الطبيعية والتعذيب الذى يتعرض له الأسرى الذين تم اعتقالهم بعد هذا التاريخ، أصبح لديهم هاجس من تكرار الاعتقال.
لذا ومن خلال رصدى أوضاع غالبية هؤلاء الشباب، يمكننى أن أقول إنهم غالبًا لا ينامون فى الليل، ومع مرور الوقت يدخلون فى حالات من الهلوسة، إلى جانب الكثير من الفلسطينيين الذين أصبحوا يعانون من اضطرابات بسبب الخوف والقلق المستمرين.
■ وماذا عن تأثير الظروف الاقتصادية والاجتماعية الحالية؟
- قبل السابع من أكتوبر، كان الجميع يعمل، لكن الآن توقف جميع الأعمال. المدن التى تأثرت بشكل كبير، مثل بيت لحم وجنين وطولكرم ونابلس وقلقيلية، توقفت فيها الأنشطة تمامًا. هذا الأمر زاد من المشاكل بين الناس. الوضع أصبح خانقًا جدًا. حتى لو حاولنا تنظيم جلسات «تفريغ» تأتى مشكلة جديدة تعيدنا إلى نقطة الصفر، وكأننا لم نبدأ أى شىء.
■ هل سيكون هناك تأثير إيجابى إذا توقفت الحرب؟
- إذا توقفت الحرب قد تهدأ الأوضاع نوعًا ما، لكن المشاكل النفسية التى خلفتها الحرب ستستمر. الأسرى وأهاليهم سيظلون فى حالة خوف وقلق من الاعتقالات، وعدم معرفة مصير أحبائهم.
■ كيف تتعاملون مع مَن يخرج مِن سجون الاحتلال الإسرائيلى؟
- أبدأ بجملة قالها لى أسير: «ولدت من جديد»، بغض النظر عن الظروف التى خرج منها. وآخر قال لى: «لم أصدق أننى سأستنشق هواء الحرية وأرى النور من جديد». بينما وصف ثالث حالته قائلًا: «بُعثت من المقابر لأروى لكم العذاب المميت».
هذه عبارات سمعتها من الأسرى الذين حضروا جلسات علاج معى منذ السابع من أكتوبر. الأسرى محرومون من أبسط الحقوق. أحدهم أيضًا قال لى: «أنا ضعفت، لكن ما توقعت أن يكون شكلى هكذا»، فى ظل فقدان الوزن الكبير وعدم الحلاقة وسوء وضعهم الصحى. حتى أنهم يكونون بملابس بالية لم يغيّروها منذ أشهر.
الأسرى بحاجة إلى اهتمام كبير من عائلاتهم بعد الإفراج عنهم. تعمل العائلات على حلاقة شعرهم وإحضار ملابس جديدة لهم وإجراء فحوصات طبية مثل فحص الدم للتأكد من خلوهم من الالتهابات، ونقص الفيتامينات والمعادن. بعد ذلك تُقدم الرعاية الطبية المناسبة لهم، ثم تتم إحالتهم إلى الاستشارة النفسية.
■ هل يعود الأسرى إلى طبيعتهم بعد الإفراج عنهم، أم أن السجن يؤثر عليهم بشكل كبير؟
- فى بعض الحالات تتفاقم معاناة الأسير النفسية. لكن السيطرة على الحالة ممكنة، ويعتمد هذا على أساليب التعذيب التى تعرض لها الأسير، والتهديدات المستمرة بالمطاردة والقتل. العودة إلى الحالة الطبيعية تحتاج علاجًا ومتابعة مستمرة. ولا يمكن تحديد مدة محددة للتعافى، كل حالة تختلف عن الأخرى.
العديد من الأسرى يعانون القلق والخوف من معاودة الاعتقال، ما يعقد العودة إلى الحياة الطبيعية. هناك خوف من النوم، خاصةً بسبب النشاطات العسكرية الليلية والأصوات العالية وصوت المفاتيح التى تغمرهم بالرعب، ما يجعل من الصعب عليهم العودة إلى الحياة الطبيعية.
■ كيف يكون تعامل الشخص مع أقاربه والمحيطين به قبل وبعد الاعتقال؟
- بعد الاعتقال يميل بعض الأسرى إلى الانعزال بسبب انعدام الثقة بمن حولهم. يخافون من التحدث عن أى شىء قد يؤدى إلى اعتقالهم مجددًا. بعضهم يعانى الخوف والعزلة حتى عن أقرب الناس لهم. حياتهم قبل الاعتقال كانت طبيعية، لكن بعده يواجهون تحولًا كبيرًا فى حياتهم الاجتماعية.
■ ما تأثير القصف المتكرر على الأطفال؟ وكيف تؤثر رؤية الدم والأشلاء عليهم؟
- فى غزة، الطفل يبقى طفلًا، لكن هناك خوفًا يصل أحيانًا إلى درجة توقف القلب، كما حصل مع بعض الأطفال. الأطفال يشاهدون الأشلاء والدماء، ويصابون بصدمة نفسية كبيرة. هذه المشاهد تؤثر على حياتهم بشكل كبير، فتتزايد لديهم حالات القلق والتبول اللا إرادى والكوابيس. نعمل على تقديم برامج دعم نفسى، لكن الوضع صعب جدًا فى ظل الظروف الحالية.
■ وما الحالة النفسية العامة للأطفال نتيجة الحرب والدمار والقتل؟
- أطفال غزة يعانون خوفًا شديدًا، إلى جانب قلة الطعام والمأوى والخوف من أن يكونوا الضحايا التاليين. بعضهم لا يعود قادرًا على الكلام، وتظهر عليه أعراض مثل تساقط الشعر والتبول اللا إرادى والبكاء الشديد، بسبب القصف المستمر والظروف المحيطة بهم.
■ كيف تأثرت العلاقات الأسرية والزوجية بين الفلسطينيين؟
- منذ السابع من أكتوبر، انخفضت مصادر الدخل وزاد الاستهلاك، ما زاد من الضغوط المالية على الأسر. بعض العائلات تكافح لتأمين احتياجاتها اليومية، ونتيجة لذلك زادت المشاكل داخل الأسرة. نحن نعمل على تقديم المشورة النفسية للأسر للتخفيف من هذه الضغوط.
■ كيف أثرت عملية هدم البيوت فى نفوس الفلسطينيين؟
- الفلسطينيون جبارون جدًا. رغم الهدم المتكرر لبيوتهم، يبقى الأمل قائمًا بأنهم سيعودون إليها يومًا ما. الهدم يؤثر بشكل كبير على الروح المعنوية، لكنه لم يكسر عزيمتهم. رغم المصائب يبقى الأمل موجودًا فى العودة إلى البيوت.
■ وماذا عن التأثير النفسى الناتج عن التهجير؟
- لا يوجد ما يعوض الأمان الذى يشعر به الإنسان فى بيته. لا يشعر الإنسان بالراحة إلا فى بيته. مع ذلك، الفلسطينيون مؤمنون بأنهم سيعودون إلى منازلهم فى نهاية المطاف. التهجير يترك أثرًا نفسيًا عميقًا، لكنه لم يكسر عزيمة الناس.
■ ما أبرز الحالات التى تتعاملين معها كاستشارية نفسية؟.. وما أصعبها؟
- أتعامل مع حالات الخوف والاكتئاب والقلق والفصام، وأيضًا تنظيم العلاقات الأسرية. أصعب الحالات تلك التى تتطلب مستشفى بسبب شدة الاضطراب النفسى. الأطفال الذين يعانون خوفًا دائمًا بسبب الاحتلال هم الأصعب فى التعامل، خاصة مع استمرار التهديدات والاعتقالات.
■ هل أصبح الفلسطينيون فى نطاق عملك يأتون أكثر إلى العيادة النفسية؟
- كما سبق أن قلت: التغير إلى الأسوأ هو القائم حاليًا، الخوف زاد والاكتئاب تفاقم بسبب الظروف الاقتصادية والضغوط النفسية المستمرة. الناس يأتون أكثر إلى العيادة النفسية الآن بطبيعة الحال. بعضهم يأتى لاستشارات مجانية بسبب عدم قدرته على تحمل تكاليف العلاج. ونعمل على مساعدة الجميع بقدر المستطاع.