أبريل
هو عنوان الفيلم الجورجى الحاصل على جائزة لجنة التحكيم الخاصة فى مهرجان البندقية «فينسيا» لعام ٢٠٢٤.
عنوان الفيلم يذكرنى بأبيات شعرية نسجها الشاعر الكبير «تى إس إليوت» عن شهر «أبريل» المبشر بالربيع وبالحياة، والذى يكون مؤلمًا فى الوقت نفسه لأناس محرومين من ذلك الربيع وتلك الحياة.
يقول «إليوت» فى إحدى قصائده
«أبريل أقسى الشهور، يخرج
الليلك من الأرض الميتة، مازجًا
الذكرى بالرغبة، ومحركًا
الجذور الخاملة بمطر الربيع»
وتعبر تلك الأبيات عن وضعية الحياة التى يعيشها أهل الريف فى جورجيا، كما صورتها مخرجة العمل، فجورجيا تلك الأرض التى أنهكتها الحروب وخلّفت فى الروح جروحًا وقساوة انعكست على طبائع الناس وحيواتها، وكانت النساء هن الأكثر عرضة لتلك القساوة.. فالأرض الميتة حقًا لا يمكن لها أن تنجب شيئًا حيًا.. وهذا ما عبر عنه الفيلم الذى تناول قضية «الإجهاض» المجرم فى الريف الجورجى وفقًا للعادات والتقاليد.. فيختلس من يظمأ للرغبة لحظات تكون المرأة فيها دومًا هى المسئولة مسئولية تامة عما حدث وتتحمل وحدها العبء والحمل الذى يثقل كاهلها وتتحمل الأوزار وحدها.. بل عليها أن تعالج الأمر بطرق خارجة عن القانون، الذى لا يرى فى الإجهاض رحمة أو حياة- أو على أقدر تقدير- لا يراه شرًا لا بد منه ليدفع به الشرور المترتبة حتمًا على ذلك الحمل المحرم.
فالموت دومًا ما يحدق بالفتيات اللاتى يقدمن على التخلص من الحمل غير المخطط له وغير المرغوب فيه، وإن أنقذن من الموت أثناء ذلك يقتلن على يد من يرى الإجهاض جريمة ومن يرى الرغبة جريمة ومن يرى حياة الفتيات جريمة ويختزل دورهن فقط فى إنجاب الاطفال؛ حتى وإن كن هن ذواتهن أطفالًا وإنجابهن فى ذلك السن غير القانونية جريمة يجب على القانون التصدى لها قبل أن يتصدى للإجهاض.
فجميع الفتيات اللاتى ظهرن أو لم يظهرن فى فيلم «أبريل» كن دون السن القانونية وتحت سن العشرين، ولذلك وبشكل قصدى عمدت المخرجة على استخدام اللقطات المقربة لأجساد الفتيات اللاتى يقمن بتلك العمليات دون إظهار وجوههن.. فوجوههن محظورة تمامًا كحملهن وكإجهاضهن.. ففى ريف جورجيا كل شىء محظور! بل إن الحياة فى ذاتها محظورة؛ لذلك كان الحرص على إخفاء وجوه الفتيات والتركيز على أجسادهن النحيلة الهزيلة فى هذه السن الصغيرة التى أنهكها انتهاكها بكل السبل، وكان ملاذهن الوحيد فى تلك البلدة الريفية النائية هى تلك الطبيبة الجورجية التى نضجت فى العمر وفى الخبرة، وأحبت الحياة على العكس تمامًا ممن كانوا يرونها فاجرة قاتلة للأجنة ومجرمة تمارس فعل الإجهاض المجرّم؛ ناسين أن الحب والرغبة وكل ما له علاقة بالحياة والحمل هو أيضًا مجرّم فى ذلك المجتمع القاسى الذى يفرط فى قسوته على الفتيات الصغيرات اللاتى حتمًا يكون الموت مصيرهن إن لم تنقذهن تلك الطبيبة، التى رغم كل محاولاتها ومساعداتها المجانية للفتيات اللاتى حملن- دون السن القانونية- فى التخلص من ذلك الحمل غير المرغوب فيه.. وكل ما قامت به طوال أحداث الفيلم تنهار تمامًا عندما تعلم أن إحدى الفتيات التى قامت بإنقاذها من حملها غير المرغوب فيه وأبقت فى نفس الوقت على حياتها.. أرسلها زوج شقيقتها الكبرى للموت فى شهر «أبريل» بالضرب المبرح؛ كى يخلص هو من عارها بعد أن علم بحملها! ورغم إسقاطها ذلك الحمل الذى أصبح ماضيًا وفى خبر كان وانتهى أمره فى الواقع، ولكن الأمر بالنسبة لزوج الأخت القاتل كان غير ذلك، فقتل زهرة الربيع «الفتاة الصغيرة» فى شهر الربيع شهر «أبريل»، الذى تتفتح وتتفتق فيه الزهور فى مدن أقل قسوة من تلك القرية.. ويبدأ الفيلم بتتر نسمع فيه أصواتًا لفتيات صغيرات يلعبن ويلهون، وكانت إحدى تلك الفتيات هى الطبيبة الجورجية التى فقدت شقيقتها فى الصغر، فذاقت مرارة الفقد والموت والحرمان من توأمها الذى غيبه الموت ثم يبدأ الفيلم بعد مرور سنوات بمشهد طويل لولادة حقيقية رأيناها جميعًا على الشاشة بكل تفاصيلها وما تعانيه النساء فى تلك اللحظات الوجودية التى تمر عليهن كالدهور، فالألم الذى تتكبده الفتيات أثناء الوضع لا يعرفه إلا من مر به- أو على الأقل- من شاهده بتفاصيله الطويلة كما شاهدناه نحن فى ذلك المشهد الطويل الحقيقى والواقعى غير التمثيلى الذى استمر لأكثر من خمس دقائق؛ ليخرج الجنين ميتًا من رحم الفتاة الصغيرة التى تلحق هى أيضًا بجنينها ويغيّب الموت كليهما «الأم والجنين» تمامًا. كما تحدث «إليوت» قائلًا «يخرج الليلك من الأرض الميتة»! فالأرض الميتة هى الفتيات اللاتى يحملن ليمتن! والليلك هنا هو الجنين! وبعد موت الفتاة أثناء عملية الولادة يطلب زوجها التحقيق مع الطبيبة التى أشرفت على الولادة، متهمًا إياها بالتقصير وأنها لم تبذل الجهد الكافى لإنقاذ الجنين والأم. وبمراجعة الملفات نكتشف أن الفتاة لم تكن تتابع حملها وأن الجنين مات بالفعل فى أحشائها، ما تسبب فى تسممها ووفاتها. وهنا تلمح الطبيبة بخبرتها وترد أثناء التحقيق قائلةً إن الفتاة الصغيرة لم تكن ترغب فى ذلك الحمل؛ لذلك لم تهتم بمتابعته وأنها كانت لديها الرغبة فى التخلص منه، فينهال عليها الزوج باللعنات والاتهامات، وعندما ينصرف الجميع يقوم بالبصق عليها، قائلًا لها إنه يعرف الكثير عن تاريخها القذر مع عمليات الإجهاض المستترة فى قرى جورجيا، ناعتًا إياها بالقاتلة، وهى من كانت تحاول إنقاذ الفتيات من موت محقق، وأكيد بسبب قضايا الثأر أو بسبب الحمل فى سن صغيرة لا يتحمله جسد الفتيات الهزيل فى الأغلب.. وجاءتها فى إحدى المرات فتاة تزوجت فى الـ١٣ من عمرها من مراهق عمره ١٥ عامًا وفى الخفاء- أيضًا- منحتها الطبيبة حبوبًا لمنع الحمل التى هى كذلك مجرمة فى تلك القرى الريفية التى لا ترى وظيفة للفتيات سوى الحمل وإنجاب الأطفال؛ حتى وإن كن هن ذواتهن أطفالًا! وفى ذلك المشهد وفى مشهد الولادة الطبيعية رأينا وجه الفتاتين إما من كن يقمن بالإجهاض فوجوههن كانت مستترة ومخبأة تمامًا كالعملية التى تتم فى الخفاء.. فالتركيز كان على نص الفتيات السفلى.. ذلك النصف المعنى به الرجال فى المقام الأول! وجوه الفتيات وأرواحهن لا تعنى شيئًا لذلك المجتمع الذكورى فقط النصف السفلى من جسد الفتاة هو المهم، وهو الذى يتم استخدامه لإمتاع الرجل ويتم استخدامه للإنجاب فقط!
موضوع الفيلم ليس جديدًا وطرح فى أفلام وبلدان عدة، ولكن الجديد فى الفيلم هو الأجواء التى يدور فيها الفيلم الذى عمدت مخرجته على جعله كاحلًا متشحًا بالسواد فى ٩٠ بالمئة من مشاهده، فالتصوير ومشاهد الفيلم كانت جميعها تقريبًا مشاهد ليلية تناسب الطبيعة السرية لعمل الطبيبة التى تساعد الفتيات فى التخلص من الحمل غير المرغوب فيه فى الخفاء، وليس فى وضح النهار تمامًا كما حملت الفتيات كذلك فى الخفاء ولم يمارسن فعل الحب «المجرم» فى وضح النهار، بل دومًا ما كان يمارس الحب فى الخفاء.. بل كان كل ما يحدث فى القرى والنجوع الجورجية يحدث فى الخفاء.. ولا شىء جميلًا يحدث هنالك فى العلن أو فى وضح النهار.
وبالطبع كانت أجواء الفيلم ومشاهده الطويلة وإيقاعه البطىء يشبه كثيرًا سينما أوروبا الشرقية، ويذكرنا بالفيلم العظيم الذى تناول ذات الموضوع «الإجهاض» فى رومانيا من خلال الفيلم الرومانى العظيم «٤ أشهر و٣ أسابيع ويومان»، الذى حصل على سعفة كان الذهبية فى عام ٢٠٠٧ لمخرجه الرومانى «كريستيان مونغيو»، وكذلك الفيلم الفرنسى «happening» الذى حصل أيضًا كالفيلم الجورجى على جائزة لجنة التحكيم الخاصة، ولكن فى مهرجان كان السينمائى عام ٢٠٢٢.
وكان يتحدث أيضًا عن الإجهاض الذى كان مجرّمًا فى فرنسا فى الأربعينيات من القرن الماضى وتناول قصة حقيقية لطالبة جامعية كانت تدرس «الأدب الفرنسى» و«الفلسفة» فى إحدى الجامعات الباريسية العريقة والمرموقة؛ ورغم ذلك لم تفلح فلسفة ومبادئ «فولتير» و«جان بول سارتر» فى إنقاذها آنذاك، وهما مؤسسا وواضعا مبادئ الليبرالية ليس فقط فى فرنسا، بل فى الغرب كله، وعلّما العالم أجمع تلك المبادئ التى انتشرت بسبب كتاباتهما، وكذلك فلسفة «جان جاك روسو» ونظريته ونظرته للعقد الاجتماعى وتنظيم العلاقة بين المواطن والسلطة.. ومرت الفتاة الباريسية أيضًا فى سن صغيرة بتجربة الحمل غير المرغوب فيه وغير المخطط له، وأظهر الفيلم معاناتها للتخلص من ذلك الحمل فى ظل قانون يجرّم الإجهاض ويعرض من تمارسه للسجن هى ومن يساعدها من الأطباء! وأذكر جيدًا العبارة التى وصفت بها بطلة العمل «المأخوذ عن قصة حقيقية».
«حملها» عندما سألها أستاذها فى الجامعة عن سبب تغيبها عن دروسها وعدم حضورها للمحاضرات، وهل هى مريضة وما طبيعة مرضها الذى أعاقها عن الحضور؟ فجاء ردها بأنها مريضة بالمرض «الذى يصيب النساء ويعزلهن عن المجتمع وعن الدراسة وعن الحياة ويحولهن لربات بيوت».
هكذا وصفت الفتاة الفرنسية فى الأربعينيات من القرن الماضى حملها غير المرغوب فيه! ورغم تقدم الحياة وتخلص الغرب الأوروبى من تلك القوانين المقيدة للحريات، ظلت أوروبا الشرقية وبلد مثل جورجيا تعانى حتى الآن من ذات المشكلة واعتبار الإجهاض جريمة، أما الزواج المبكر للقاصرات فيرونه شيئًا عاديًا وطبيعيًا غير مجرّم ولا يعاقب عليه القانون! ذلك القانون الأعور المعيب الذى يرى بعين واحدة فيرى دومًا نصف الحقيقة ويرى وجهة النظر الأحادية التى تجرم الإجهاض دون أن تجد حلًا جذريًا للزواج المبكر أو قضايا الثأر التى ترسل الفتيات للموت إن افتضح أمر حملهن، وبالتالى يكون الإجهاض هو ملاذهن الوحيد.. وإن نجت الفتيات من الموت المحقق بسبب الإجهاض وهو شر لا بد منه وكتب على الفتيات كرهًا لهن لينقذن من ثأر الذكور القساة.. ها هى الفتاة ذات الـ١٦ عامًا تقتل على يد قاتل يظن أنه يقدم خدمة لقريته وعاداتهم وتقاليدهم، بل إنه يقدم خدمة للإله بقتله الفتاة الصغيرة التى لم يترك لها الحق فى الحياة بعد أن نجت من خطورة الإجهاض والحمل «ذنبها وحدها»! الذى تتحمله وحدها رغم أنه لم يكن من صنيعتها وحدها! ورغم أنها وحدها تحملت خطورة التخلص منه، يتم التخلص منها هى والتضحية بها هى! من أجل موروثات وتابوهات لوّثت واقع القرى كما رأينا فى جورجيا وفى بلاد الشرق الأوسط أو الأقصى أو الأدنى، فالكل فى الهم شرق!
والإجهاض الذى كان حلًا بغيضًا لاستمرار حياة من تقدم عليه، صار أيضًا سببًا فى موتها! فالجهل والقساوة حتمًا تقتلعان الزهور فى موسم الربيع، وتقتلان الفتيات فى عمر الزهور، وفى الشهر الذى تزهر فيه الزهور شهر «أبريل» الأكثر قسوة وإيلامًا لمن يعيشون فى الشرق.. ففى الشرق لا مكان للربيع ولا تتفتح فى الربيع البراعم أو الزهور «فأبريل الشرق» لا تزهر فيه الزهور بل تقتلع وتموت حتمًا!