رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

لبنان مزقته الطائفية والتدخل الخارجى

فى الوقت الذى يعيش فيه لبنان ظرفًا استثنائيًا بسبب الوضع السياسى المتأزم بين الطوائف التى تتنازع على السلطة وهو الوضع الذى نتجت عنه أوضاع اقتصادية صعبة جدًا أدت لخروج عدد كبير من اللبنانيين إلى دول المهجر والذى بلغ عددهم من ١٢ إلى ١٨ مليون معظهم يتمركزون فى البرازيل والولايات المتحدة الأمريكية، أعادت هذه الصورة للأذهان لبنان فى عصره الذهبى الذى بدأ منتصف الخمسينيات حتى منتصف السبعينيات وكان يطلق عليه سويسرا الشرق والسر وراء هذه التسمية هو تشابه الطبيعة الجغرافية الجبلية البديعة لجبال الألب الممتدة فى سويسرا بجبال لبنان الممتدة على الساحل الشرقى للبحر المتوسط، إلى جانب تمتعه بقوة مالية جعلته المركز المالى للشرق الأوسط فى فترة الستينيات والسبعينيات وأهم المراكز المصرفية فى آسيا الغربية، وعاش القطاع المصرفى فى حالة ازدهار ونمو غير مسبوقة كان وقتها يساوى ٣.٣ ليرة لبنانية «سعر الصرف الحالى ٩٠ ألف ليرة لكل دولار».
ظل الوضع مستقرًا حتى انفجر الوضع مع اندلاع الحرب الأهلية فى ١٣ أبريل ١٩٧٥ حرب استمرت لـ١٩٩٠ بموجب اتفاقية الطائف، راح ضحيتها أكثر من ١٢٠ ألف قتيل، وتم تشريد أكثر من ٧٦ ألف مواطن، وهجرت أكثر من مليونى لبنانى برًا كنتيجة مباشرة للحرب الأهلية.
وبرغم أن اتفاقية الطائف كان الهدف الأساسى منها هو وقف الحرب وتعزيز سيادة الدولة اللبنانية على كل أراضيها والقضاء على الطائفية والتى كانت السبب الرئيسى فى الحرب إلا أن الطوائف اللبنانية وافقت على الاتفاق من حيث الشكل لكن اختلفت على المضمون والتنفيذ الفعلى، فلجأت الطوائف اللبنانية إلى تعزيز قوتها وتوسيع نفوذها على الأرض من خلال الاستعانة والاستقواء بالأطراف الخارجية، وجاء ذلك على حساب تعزيز مبدأ المواطنة ومنافيًا لمبدأ ترسيخ الدولة على حساب الطائفة، وبطبيعة الحال مررت الأحزاب السياسية الداعمة للطوائف هذه الثقافة إلى المواطن اللبنانى، فأصبحت الثقافة السائدة فى الشارع اللبنانى هى الانتماء للطائفة والحزب وليس للكيان ما أسهم بشكل كبير فى القضاء على الهوية الوطنية اللبنانية والانتماء للطائفة وليس للدولة اللبنانية، ما دفع البلد إلى صدام طائفى مستمر جعل الشارع فى حالة غليان مستمر، وفى كل مرة كان ينتهى بانفجار يضر بمصلحة الدولة الاقتصادية والأمنية والاجتماعية ويزيد من حالة الاحتقان السياسى والشعبى، الأمر الذى ترتب عليه دخول لبنان فى دائرة مغلقة من الصراعات الطائفية ليست على مستوى السنى والشيعى بل أيضًا على مستوى المسيحيين من الطائفة الواحدة وهى الأمور التى أسهمت بشكل كبير فى انحصار دور مؤسسات الدولة وحل محله دور الطائفة فى الإدارة واتخاذ القرارات وإدارة شئون المواطنين التابعين لها.
على المستوى السياسى الأمر الذى أسهم بشكل كبير فى تفاقم الأزمة اللبنانية هو التدخل الخارجى السافر فى الشأن الداخلى، لأن القرار السياسى كان يتخذ من الخارج نتيجة لتبعية كل طائفة لقوى خارجية، فكان من المتعارف فى حال اجتماع الحكومة انتظار القرار من الخارج حتى يتم تمريره، وهذا الوضع السياسى الشاذ أسهم بشكل كبير فى تعزيز نفوذ القوى الخارجية التى سيطرت على القرار السياسى والاقتصادى فى لبنان، وأسهم بشكل كبير فى حماية مصالح الغرب وإيران السياسية والاقتصادية داخل هذه الدولة الصغيرة المحورية على حساب مصلحة الدولة والكيان.
اقتصاديًا عانى لبنان كثيرًا من خروج عدد كبير من الكيانات الاقتصادية والشركات من لبنان نتيجة تردى الوضع الاقتصادى والأمنى، الأمر الذى أسهم فى تفاقم الأزمة وارتفاع الأسعار وفقدان عدد كبير من الوظائف، وما زاد الطين بلة هو تدفق عدد كبير من اللاجئين السوريين وصل لأكثر من ٢ مليون مع قيام الثورة فى سوريا، أسهمت هذه الهجرة فى القضاء على ما تبقى من الاقتصاد هو فى الأساس منهك نتيجة للصراعات السياسية وارتفاع معدل الفساد المالى والإدارى، صاحبه شح فى الوظائف وارتفاع فى الأسعار وتردى فى الخدمات الأساسية كالكهرباء والعلاج والسكن والمياه النظيفة، مع ارتفاع واضح فى حوادث السرقة والقتل نتيجة لانعدام الأمن وعدم توفير الدعم والموارد اللازمة للشرطة المحلية والجيش اللبنانى الذى تم إضعافه بفعل فاعل.
المجتمع الدولى وتحديدًا الجمعية العامة تعاملت بمنتهى السطحية والحيادية السلبية مع الملف اللبنانى، فلم نجد فى الفترة الأخيرة أى مبادرات طرحت لإيجاد حل للخروج من الأزمة الحالية التى مزقت الداخل اللبنانى خصوصًا فى ظل الصراع التاريخى بين إسرائيل وحزب الله، والذى جعل الغرب وخاصة الولايات المتحدة تعطل أى محاولات إصلاح للداخل اللبنانى وهو ما يعد كورقة ضغط سياسى لوضع حزب الله فى دائرة الاتهام أمام الأطراف اللبنانية وأيضًا أمام المجتمع الدولى وتحميله بشكل كامل مسئولية ما يحدث فى لبنان من انهيار اقتصادى وسياسى وأمنى.
الدولة المصرية تعاملت مع الأزمة اللبنانية بمنتهى الحيادية فوقفت على مسافة واحدة من جميع الطوائف وانتهجت سياسة واحدة لا تتغير هى عدم التدخل فى الشأن اللبنانى الداخلى برغم قدرتها على فعل ذلك، كما بذلت مجهودات دبلوماسية كبيرة لعودة الفرقاء اللبنانيين لطاولة الحوار لإنقاذ لبنان البلد الجميل الذى مزقته الطائفية والتدخل الخارجى، وما زالت هذه المجهودات قائمة ولا تتأخر الدولة المصرية عن القيام بدورها فى حماية الأمن القومى الإقليمى، ويعد الملف اللبنانى من أولويات الإدارة السياسية لعودة لبنان مرة أخرى دولة مستقلة ذات سيادة منزوعة الطائفية.
للأسف الشديد الغرب وخاصة الولايات المتحدة استخدمت سياسة إشعال الخلاف الطائفى بشكل كبير لحماية مصالحه السياسية والاقتصادية وحماية أمن إسرائيل فى المنطقة، خاصة مع اندلاع ثورات الربيع العربى، وهناك عدة نماذج لهذه السياسة الفاشية استُخدمت فيها كل الوسائل المتاحة لتأجيج الصراع الطائفى ولكن الأنجح فيها على الإطلاق كان النموذج اللبنانى الذى بالفعل كان يعانى منذ سنوات طويلة من تفشى هذه الظاهرة الخطيرة التى انتشرت بسرعة وعلى مدى طويل فى جسم الدولة سواء على المستوى السياسى أو الشعبى حتى أصبحت كالسرطان الذى أصبح من الصعب القضاء عليه.
وفى نهاية مقالى أود أن أشير إلى أنه كانت هناك تجربة شبه مماثلة حدثت فى مصر بعد ثورة يناير ٢٠١١ حاول فيها الجانب الأمريكى استخدام نفس النهج لإحداث شرخ فى النسيج المصرى، من خلال استخدام بعض أحداث الفتنة الطائفية فى صعيد مصر للضغط على الإدارة السياسية للرضوخ لمطالبها، لكن باءت هذه المحاولات بالفشل الذريع لأن النسيج المصرى لا يمكن اختراقه، وهناك وعى وحس وطنى من القيادات الدينية المسيحية والمسلمة، وتوافق واحترام للإدارة السياسية التى وقفت بشدة أمام هذه المحاولات التى هدفها الأساسى هو إحداث وقيعة بين أبناء الوطن الواحد لخدمة مصالح أجنبية، وهو خطأ لم ولن تقع فيه القيادات الدينية والشعب المصرى.