الموسيقى العربية فى ضيافة الموسيقى المصرية
كانت أمى، وهى سيدة لم يجاوز تعليمها الصف الرابع الابتدائى، أو أدنى فى ما علمت من ذاكرتها الشخصية ذات يوم بعيد، تقول ما معناه: «ليس فى الدنيا موسيقى كموسيقانا المصرية»، تقول قولتها تلك كلما شهدت حفلًا حاشدًا على التليفزيون، وهو عين ما سمعته أذناى من الخبراء الموسيقيين الثقات حين كبرت ونضجت واهتممت بالأمر ضمن اهتماماتى بالأدب والثقافة والفنون عمومًا.. «رحم الله الأم المصرية الصعيدية المنتمية الطيبة صافية الذوق».
نحن الآن فى رحاب الدورة الثانية والثلاثين من مهرجان الموسيقى العربية المقرر إقامته فى ثلاث محافظات مصرية على خمسة مسارح مختلفة، أبرزها مسرح الأوبرا، يترأس هذه الدورة الدكتور خالد داغر، تحت رعاية وزارة الثقافة، ممثلة فى وزيرها الجديد الدكتور أحمد فؤاد هنو، ورئيس الأوبرا الدكتورة لمياء أبوزيد. تعود فكرة المهرجان العريق إلى عام 1992 من القرن الفائت، وهدفه الجامع دعم مسيرة الموسيقى العربية، والتى بداخلها موسيقانا المصرية بالتأكيد، فهما متصلتا الجذور، إلا أن موسيقانا منفصلة، نسبيًا، عن بقية الموسيقات الملتحمة بحكم خصوصيتها الفريدة.
يستمر المهرجان أربعة عشر يومًا «الجمعة 11 أكتوبر- الخميس 14أكتوبر»، ويشمل أربع عشرة حفلة منوعة، بجانب التكريمات التى تصاحب فعاليات حفل الافتتاح، تضم الحفلات أبرز المطربين والعازفين المصريين والعرب. يسهل الرجوع إلى برنامج المهرجان الحافل من خلال النظر فى جداوله الدقيقة المنشورة فى الصحف والمواقع الإلكترونية، والتى تحوى جملة نجومه ووقائعه ومواعيده بالتفصيل.
القيمة الموسيقية لمصر تمنح المهرجان ثقلًا هائلًا، وتمنح المشاركين ثقة عظيمة؛ لأنهم يمارسون فنهم على الأرض الرائدة، التى جعلت من مروا بها واستقروا فيها من الموهوبين العرب أساطين فى بلدانهم التى جاءوا منها نفسها، وكذلك عند الأشقاء جميعًا، بل العالم الذى يتابع برمته.
تحيى هذه الحفلات تراثنا الموسيقى المصرى والعربى أيضًا، أى هى بمثابة صياح رافض فى وجه العولمة التى تريد طمس التراث ومحو آثاره من صفحات الأرواح.
ومن حسنات هذه الحفلات أنها تعزز المعرفة بالرموز الموسيقية قدر ما تلفت الأنظار إلى مغنين وموسيقيين قد لا يكونون فى دائرة المعرفة اليقينية للجماهير.
التاريخ الموسيقى المصرى راسخ وشديد القدم؛ فمن الفراعنة الخالدين، الذين سجلت جدارياتهم البديعة الزاهية عزفهم على مجموعة عريضة من الآلات الإيقاعية والوترية، إلى الأعلام الذين نعرفهم جميعًا، ممن عاصرهم آباؤنا، وممن بقوا إلى أجيالنا التى كان مولدها بين الهزيمة والانتصار «67، 73»، ولا ننسى هنا شعراءنا الغنائيين العظماء من أول واحد إلى آخر شاعر يكتب الآن كلمة حلوة غالية؛ فلولا أفكارهم اللطيفة العبقرية وجهودهم الوافرة الدءوب ما كانت الموسيقى تجلت وأبدعت ولا كان الغناء صدح وذاع.
لم أشأ أن أذكر الناس بأسمائهم لخوفى من النسيان، والنسيان، وإن كان واردًا على الدوام، ولا عيب فيه على الكاتب أو المتحدث، إلا أنه كثيرًا ما يسقط من القوائم من لا يصح سقوطهم البتة، ولعل فى عدم الذكر فائدة التحريض على البحث واكتناه الشخوص والأحداث والخفايا.
مصر شاهقة فنيًا، والعرب من خلالها شاهقون، بالإضافة إلى تميزهم الخاص بالطبع، ونحن أمة خليق بها أن تقود الأمم إلى الحب والجمال؛ لأنهما قيمتان تليقان بماضينا الغنى قطعًا وحاضرنا المتفائل بالرغم من تعقيدات أوضاعه!