محمد قدري في "سابع سما".. "أحمد" يخلد والده أسطورة القوات الجوية
في رحاب السماء التي شهدت العديد من الأبطال، يبقى اللواء طيار أركان حرب محمد قدري عبد الحميد، أحد أعمدة القوات الجوية المصرية، رمزًا للبطولة والشجاعة، وهو المتوج بكأس التفوق في دفعته لعام 1965، وكان النسر الذي حلّق بطائرات ميغ 15 و17 و21، مدربًا ومرشدًا لأجيال من الطيارين.
خلف أرقام البطولة والمعارك، هناك قصة إنسانية أعمق، قصة أب وابن، رواها “أحمد”، ابن اللواء الراحل في فيلم وثائقي بعنوان “سابع سما”، يمزج بين الدراما والوثائقي ليخلد ذكرى والده.
طيار من طراز خاص
لم يكن اللواء قدري مجرد طيار عادي؛ بل كان نجمًا في سماء مصر، حيث تخرج شهر يوليو عام 1965، وشارك في استطلاع فوق إسرائيل قبل حرب يونيو 1967، وكان أول من اعترض وشارك ضد الطائرات الإسرائيلية فى معركة المنصورة الجوية يوم 14 اكتوبر 1973، أيضًا نال جائزة "أفضل وحدة في القوات المسلحة" لسربه الليلي الذي قاده في عام 1976، وهو الطيار الذي شارك في أكبر معارض الطيران في العالم، حيث تم اختياره كطيار اختبار للطائرة الفرنسية في معرض باريس إرشو عام 1977، وهي فرصة لم تُتح لكثير من الطيارين في تلك الحقبة.
في عام 1978، حصل اللواء على لقب "TopGun" بعد تفوقه في الرماية الجوية في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو اللقب الذي منحه إياه المركز التدريبي الأمريكي لأفضل طيار شارك من جنسيات متعددة، بعد ذلك، تكللت مسيرته بالحصول على كأس أفضل لواء جوي لثلاث سنوات متتالية من عام 1979، ليضيف إلى سجله المليء بالإنجازات درجة الماجستير في العلوم العسكرية من كلية القادة والأركان في عام 1981.
الطيار الذي لا يُنسى
الطيار كتب عنه الكاتب الأمريكي ديفيد نيبول في كتابه "فينيكس أوفر نايل"، واصفًا إياه بأفضل طيار مصري مقاتل على طائرة ميج 21، وكان الطيار الذي أسقط طائرات العدو، وخلد اسمه كأول مصري يشغل منصب رئيس جمعية الملح العسكريين الأجانب في لندن.
من أبرز المعارك التي شارك فيها اللواء قدري كانت اشتباك الغردقة عام 1968، ومعركة المنصورة الجوية الشهيرة عام 1973، وهي المعركة التي تُعد من أكبر المعارك الجوية في التاريخ، حيث قفز بالمظلة من طائرته بعد أن أسقط طائرة للعدو في تلك المعركة، وأصيب بكسور في العمود الفقري أثرت عليه فيما بعد ليطلب التقاعد من الخدمة الحربية في الثمانينيات من القرن الماضي، وتصدرت طائرته التي اشتبك بها بانوراما حرب أكتوبر، كشاهد حي على شجاعته.
"أحمد" الابن المخلص.. الفيلم عن الحب، وليس الحرب
على الرغم من كل هذه البطولات، تأتي القصة الأكثر إنسانية عندما نتحدث عن "أحمد"، ابن اللواء الراحل، الذي حمل على عاتقه فكرة تخليد ذكرى والده بطريقة غير تقليدية، فـ"أحمد" الذي كان متعلقًا جدًا بوالده، لم يكن يرى فيه مجرد طيار مقاتل؛ بل كان الأب المثالي، وبعد وفاته، وقرر إنتاج فيلم وثائقي يحكي قصة والده، ولكنه لم يكن فيلمًا حربيًا، بل كان فيلمًا يمزج بين الدراما الوثائقية وقصة حب استثنائية بين أب وابنه.
يقول "أحمد" في حديثه مع "الدستور": "لقد أردت أن أخلد ذكرى والدي بطريقة مميزة، وليس فقط كطيار أسقط طائرات العدو، لقد كان رمزًا للشجاعة والانضباط العسكري، ولكن بالنسبة لي كان أبًا بطلًا، وأردت أن أروي قصة حبنا كأب وابن، قصة العلاقة التي بنيت على الاحترام والتقدير، وكيف أثرت في حياتي بأكملها".
"أحمد" لم يكن يرغب في صنع فيلم عن البطولات العسكرية فقط، بل أراد أن يقدم عملًا فنيًا يعبر عن المشاعر الإنسانية العميقة التي عاشها مع والده، فيقول: "الفيلم ليس فيلمًا حربيًا تقليديًا، بل هو فيلم فني يحكي عن الرحلة العاطفية التي عشتها بعد وفاة والدي، فقد كنت قريبًا جدًا منه، واستعادة ذكرياته بعد رحيله كانت مهمة صعبة للغاية".
رحلة البحث عن الذكريات في 4 بلدان
خلال العمل على الفيلم، سافر "أحمد" إلى عدة دول حول العالم، منها الولايات المتحدة، فرنسا، وإنجلترا، بالإضافة إلى مدن مختلفة داخل مصر، بحثًا عن تفاصيل حياة والده التي لم يكن يعرفها من قبل، فيقول: "اكتشفت أشياء كثيرة عن والدي لم أكن على دراية بها خلال حياته، فهذا الفيلم هو رحلة لاكتشاف الوالد والطيار والبطل، والتي ظهرت جليّة خلال عدة مشاهد بالفيلم".
الرحلة لم تكن سهلة، فالسفر بين الدول وتصوير مشاهد الفيلم واجه تحديات لوجستية معقدة، خاصة أن الإنتاج كان ذاتيًا، فتولى"أحمد" تمويل الفيلم بنفسه لضمان أن يُخرج العمل بالطريقة التي كان يحلم بها: "كان هدفي الأساسي هو الحفاظ على الصدق في عرض قصة والدي، دون تدخلات خارجية".
من كواليس فيلم "سابع سما"
المخرج: شعرت أنّي أعيش الرحلة من خلال "أحمد"
إخراج هذا الفيلم تطلب وجود مخرج متميز قادر على المزج بين الجانب الدرامي والوثائقي، فوقع اختيار "أحمد" على صديقه أشرف حمدي، الذي جمعه به صداقة منذ سنوات، وهذا التعاون أثمر عمقًا عاطفيًا خاصًا للفيلم، حيث استطاع "أشرف" أن يلتقط مشاعر "أحمد" تجاه والده ويجسدها على الشاشة.
ويقول "حمدي"، في حديثه مع "الدستور": "لقد تأثرت كثيرًا بمشاهد معينة خلال التصوير، ورغم أنني لم ألتقِ باللواء قدري، إلا أنني شعرت أنني أعيش رحلته من خلال "أحمد"، فقد كان العمل على هذا الفيلم تجربة عاطفية لي شخصيًا".
ولم يركز المخرج فقط على الجوانب العسكرية، بل كان يبحث عن لحظات إنسانية صغيرة في حياة اللواء، والكثير من اللقطات التي تم استخدامها في الفيلم كانت مأخوذة من أرشيف اللواء الشخصي، ما أضفى طابعًا حميميًا خاصًا على العمل.
وكل تلك العناصر كللت نجاحها باختيار الموسيقى، التي كانت جزءً مهمًا من تجربة الفيلم، حيث تولى الملحن أشرف الزفتاوي مهمة وضع الموسيقى التي تعبر عن عمق المشاعر بين الأب وابنه، فالموسيقى كانت جزءً أساسيًا في نقل الرسالة العاطفية التي يحملها الفيلم، والتي كانت وسيلة لإيصال الحب والتقدير بين الأب وابنه.
خطط ما بعد الانتهاء من الفيلم
ومع اقتراب الانتهاء من الفيلم، يخطط "أحمد" و"أشرف" لإرساله إلى عدة مهرجانات عالمية، فيقول "أشرف": "لقد تأخرنا عن العديد من المهرجانات هذا العام، ولكننا نأمل أن نتمكن من عرضه في مهرجانات كبرى مثل مهرجان القاهرة السينمائي ومهرجان البحر الأحمر".
ويختتم "أحمد" بقوله: "أريد أن يعرف العالم أن هناك أبطالًا مثل والدي، ليس فقط لأنهم قاتلوا في المعارك، ولكن لأنهم قدموا لأسرهم حبًا ودعمًا لا يُقدران بثمن".
في النهاية، تظل قصة اللواء طيار محمد قدري عبد الحميد، الذي وافته المُنية في 20 مايو 2021، أكثر من مجرد قصة طيار أسقط طائرات العدو، إنها قصة رجل عاش لأجل وطنه ولأجل أسرته، وأب أحب ابنه حبًا عميقًا.
ألبوم صور للبطل مأخوذة عن الفيلم التسجيلي "الجنرال"