مفتي الجمهورية: لا بد من تحصين الفكر والهوية الدينية والوطنية
قال الدكتور نظير عياد، مفتي الجمهورية: إننا إذا استقصينا ركائز بناء الإنسان في الإسلام فلن يكفينا هذا المقام، ويكفي أنه قد وردت لفظة إنسانٍ في القرآن الكريم مفردةً في أربعةٍ وستين موضعًا، ومجموعةً مائةً واثنتين وسبعين مرةً، وهذا يؤكد عناية الإسلام بالإنسان في جميع المناحي الدينية والدنيوية.
تحصين الفكر والهوية
وأوضح مفتي الجمهورية، خلال ندوة " الفتوى وبناء الإنسان"، اليوم الثلاثاء، أن عملية بناء الإنسان التي نسعى إليها تتطلب أمرين؛ الأول: ضرورة إعادة بناء الوعي المعرفي والثقافي للإنسان المعاصر، وهذا يتطلب منا التعاون والتضافر نحو بذل الجهود الكبيرة في إعداد البرامج التربوية والتأهيلية التي تعيد تشكيل الوعي المعرفي والثقافي عند الإنسان، مع ضرورة أن تستمر هذه الجهود في تحقيق استراتيجية التأهيل والتربية بشكلٍ جاد وحاسمٍ، حتى يستطيع الإنسان تحقيق التوازن بين المتطلبات الدينية والدنيوية.
وأضاف المفتي خلال كلمته، أمال الثاني: ضرورة تحصين الفكر والهوية الدينية والوطنية، وهذا – أيضًا – يتطلب منا تضافر الجهود المؤسسية – الدينية والمجتمعية – نحو وضع البرامج والاستراتيجيات الجادة التي تضمن لنا تحصين الإنسان المعاصر من الانزلاق والانجرار نحو الفكر المتطرف بنوعيه الديني واللاديني، الذي يسعى كل منهما لسلخ الهوية الدينية والوطنية من الإنسان.
وأوضح أنه بناءً على هذه التحديات المشتركة أعلن في هذه الندوة، جاهزية دار الإفتاء بالانخراط المؤسسي الجاد في كل هذه البرامج التي من شأنها أن تحافظ على الإنسان المصري وتستعيد دوره المحوري في الإسهام الحضاري والعمراني في العالم.
ودعا إلى أهمية استعادة البناء المعرفي والثقافي وضرورة تحصين الإنسان من الفكر المتطرف يدفعها أمران: الأول: أن الفكر اللاديني الحديث قد حرص على تشكيك الإنسان في الدين، مما شجعه على التجرد من القيم والمبادئ، وجعل منه إنسانًا مسخًا ماديًّا فحسب، لا يهتم بالقيم ولا يراعي الأخلاق ولا يعيش وفق المبادئ الإنسانية الثابتة.
ولفت إلى أن الفكر الديني المتطرف قد حرص على أن يجعل الإنسان في عزلةٍ معرفيةٍ وثقافيةٍ منفصلةٍ عن الواقع، كما عزز عنده مبادئ متطرفةً مثل "جاهلية المجتمعات المعاصرة"، مما جعل منه إنسانًا مُعاديًا للتقدم والحضارة، جاهلًا بأسباب التمكين والاستخلاف في الأرض، رافضًا كل سبل التقدم والازدهار.
كما لفت المفتي النظر إلى أهم توجهات الفكر المتطرف المعادية لبناء الإنسان هي صرف الشباب المتدين عن العلوم الدنيوية والإنسانية وذمها والحط من قدرها وقيمتها في الواقع، ودعوة الشباب إلى ترك تعلمها والانغماس فقط في طلب العلم الشرعي من وجهة نظرهم هم؛ مما خرَّج لنا جيلًا قابعًا في أعماق الماضي، متمسكًا بالمظاهر الدينية الشكلية فقط، رافضًا لكل مظاهر التقدم والعمران.
وأضاف: نحن بدورنا نؤكد أن كل دعوةٍ قد حطت من شأن العلوم الإنسانية والدنيوية وقللت من قدرها هي دعوةٌ لم تفهم الإسلام فهمًا صحيحًا، ولم تلتزم بما قرره السلف الصالح في ضرورة التكامل المعرفي والثقافي بين العلوم من أجل التقدم والعمران.
وتابع: كلنا قد شاهدنا رأي العين الآثار السلبية التي ترتبت على وجود هذه الجماعات، من زعزعة استقرار المجتمعات، وهز الثقة بالمؤسسات الدينية، وإحياء الفتن والصراعات الممزقة للأوطان، والتأثير السلبي على الاقتصاد الوطني، وتشويه صورة الدين الحنيف، وتهديد السلم والأمن المجتمعي، والتعدي على حقوق غير المسلمين في الوطن الواحد، والتحريض على الدولة ومؤسساتها الدينية والمجتمعية، وغير ذلك.
ونوه بأن المؤسسات الدينية "الأزهر الشريف – دار الإفتاء المصرية - وزارة الأوقاف"، بذلت ولا زالت تبذل جهودًا كبيرةً في بناء الإنسان المعاصر، وقد تبلورت استراتيجياتها في بناء الإنسان من خلال محاور متعددةٍ، أهمها: نشر الوسطية والاعتدال، وتصحيح المفاهيم المغلوطة، والرد على الأفكار المنحرفة، وكشف زيفها، ونقض أباطيلها، ونفي التعارض بين الدين والدنيا، وإرشاد الناس نحو القيم والأخلاق الفاضلة، وعقد برامج التوعية الأسرية والمجتمعية، بما أسهم بشكلٍ رئيسٍ في بناء الإنسان المصري وتعزيز الاستقرار والأمن المجتمعي.
وأوضح أن هذه الندوة تأتى استمرارًا لهذه الجهود وامتدادًا للدور الديني والوطني للمؤسسات الدينية المصرية، الذي نبحث فيها دور الفتوى الوسطية الرشيدة في بناء الإنسان، وأثرها في تعزيز قيم التسامح والتعايش المجتمعي.
وتابع:"وكيف يمكننا أن نتصدى للفتاوى الشاذة التي تلحق أضرارًا بالأفراد والمجتمعات، كما أننا نسعى من خلال هذه الندوة إلى وضع الخطط والآليات الجادة التي من شأنها أن تسهم في بناء الإنسان المصري على أسسٍ متكاملةٍ من الناحية الروحية والعقلية، بما يحقق التنمية المستدامة للمجتمع".
واستطرد المفتي: ونحن نهتم بدور الفتوى في هذا المسار لأنه كما يقول الإمام الأكبر شيخ الأزهر: «إن منصب الإفتاء في قلوب المسلمين -دائمًا- له منازل التقدير، ومشاعر التعظيم والإجلال.. حتى إن الكلمة التي تصدر من فم المفتي لتقطع كل جدلٍ أو خلافٍ أو ترددٍ في المسائل المستفتى عنها، ولا يزال الناس يستقبلون فتاوى المفتين المعتمدين استقبالهم لصحيح الدين الذي لا معقب عليه، وهذا ما يجعل من الفتوى والإفتاء أمانةً شاقةً، ومسئوليةً ثقيلةً يشفق منها كل من يخشى الله، ويتقيه ويخاف حسابه وعقابه.
وواصل: لذا إذا كانت الفتوى الصادرة عن المفتي رشيدةً ومعتدلةً فإنها تبني الإنسان بناءً معرفيًّا سليمًا، وتجعل منه إنسانًا صالحًا نافعًا لدينه ووطنه، وإذا كانت فتوى شاذة وصدرت من أناسٍ ليست لهم علاقةٌ بالفتوى، فإنها تهدم الإنسان وتشوه معارفه وثقافته، وتجعل منه إنسانًا سلبيًّا مهتزًا نفسيًّا وعقائديًّا؛ لذا نحن نجتمع اليوم لنتباحث حول تفعيل دور الفتوى في عملية بناء الإنسان.
وقال المفتي: إنه حق لنا جميعًا أن نفتخر ونثمن جهود الدولة المبذولة في بناء الإنسان، من خلال تطور البنية التحتية اللازمة، وتطوير مناهج التعليم المعاصرة، ودعمها ببرامج الذكاء الاصطناعي، والسعي نحو القضاء على العشوائيات، والعمل الجاد في تشييد البناء والعمران الذي قد أشاد به القاصي والداني، وكذلك الجهود الطبية التي تُعنى بصحة وحياة المصريين جميعًا، وغير ذلك الكثير.
وأعرب طموح دار في هذه الندوة لجميع الرؤى والأفكار العملية التي يطرحها الجميع حول كيفية تفعيل دور الفتوى المعاصرة في بناء الإنسان وتنمية المجتمعات، مؤكدًا دعمه الكامل لجميع الرؤى والمبادرات التي ستنبثق عن هذه الندوة الكريمة.