المشير أحمد إسماعيل.. قصة البطل العظيم على «الوثائقية»
لا أعرف إلى أى مدى كان المشير أحمد إسماعيل سيقبل فكرة أن أفتش فى تاريخه ومسيرته، فالرجل الذى كان أسطورة عسكرية بحق وقاد أعظم معركة لتحرير الأرض فى تاريخ مصر الحديث، لم يتسنَّ له أن يكتب روايته أو يبوح بأسراره عن الأحداث بسبب رحيله الخاطف بعد عام و٦ أشهر فقط على معجزة أكتوبر المجيدة.
كذلك لا أعرف ما الذى كان يفكر فيه حينما عرض عليه الرئيس الراحل أنور السادات منصب وزير الحربية وقال له إن «جثتك قد تعلق فى ميدان التحرير إذا لم تنتصر فى الحرب على إسرائيل.. فهل أنت موافق؟»، فأجابه بشجاعة: «من أجل مصر سأوافق».
وكأن المشير أحمد إسماعيل كان أسيرًا لحكمة قالها الجنرال العسكرى الأسطورى هانيبال باركا، حينما حاولوا تعجيزه باستحالة عبور جبال الألب مع جيشه، لكنه قال «إما أن أجد طريقًا أو أصنع واحدًا» ثم فعلها. وكذلك فعلها وزير حربية النصر حينما تحمل المسئولية وعبر بنا من الظلام إلى النور.
رفض المشير أحمد إسماعيل أن يخضع لمصير صعب رسمته الظروف عدة مرات، أول مرة كانت عندما رُفض قبوله فى الكلية الحربية «المدرسة الحربية حينها»، لكنه لم يكن من أولئك الذين تردعهم الهزيمة، بل كان يؤمن بما قاله دوغلاس مارك آرثر «الأبطال الحقيقيون هم أولئك الذين يقاتلون وليس لديهم خيار سوى النصر».
هذا الحماس والإرادة الصلبة والإيمان العميق، جعله يعيد التقديم فى المدرسة ويخوض مسيرة عسكرية كبيرة ويقتحم ميدان المعارك، متسلحًا بمعرفة عميقة وخبرة لا يستهان بها، حتى وصفه الرئيس أنور السادات بصاحب «الشخصية القوية»، بينما صنفته مجلة الجيش الأمريكى كواحد من بين ٥٠ شخصية عسكرية عالمية غيرت مفهوم الحرب بتكتيكات جديدة.
واختار «إسماعيل» الصمود والعمل الجاد على مدار حياته، فهو الذى أنشأ الجيشين الثانى والثالث، ووضع نواة قوات الصاعقة، وكأنه رجل يعرف أن المعركة ليست فقط معركة سلاح، بل هى معركة عقول وإرادة وعلم، ولعل حديثه فى حواره الشهير مع الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل حول استخدام العلم فى المعركة خاصة بالاستعانة بعلماء الطقس لاختيار يوم مناسب للهجوم، يبرز كيف كانت الحرب بالنسبة له أمرًا مدروسًا بعناية فائقة.
واللافت فى مسيرة المشير أحمد إسماعيل أنه ترك علامات فى كل منصب وصل إليه، سواء فى القوات المسلحة أو حتى فترة رئاسته المخابرات العامة، التى كانت له فيها بصمات واضحة فى الكشف عن قضايا التجسس الكبرى، كقضية الجاسوسة «هبة سليم» وكذلك القضية المعروفة بـ«راندبولو» ما يعكس بُعدًا آخر من أبعاد شخصيته، وهو حنكته فى التعامل مع الملفات المعقدة والحساسة، والقدرة على توجيه ضربة استباقية ضد الأعداء.
وفى فيلمنا بقطاع الإنتاج الوثائقى التابع للشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، «أحمد إسماعيل.. وزير حربية أكتوبر»، خضنا رحلة بحثية كبيرة تستعيد مسيرة رجل وصف نفسه قبل رحيله بأنه مثل باقى الرجال فعل ما كان يتوجب عليه لاستعادة الأرض والكرامة.
وبدأنا رحلة البحث عن إرثه بداية من جذوره فى مسقط رأسه فى المنزل رقم ٨ بشارع الكحالة الشرقى فى حى شبرا بالقاهرة، حيث كان والده ضابط شرطة، خدم فى معظم محافظات مصر، ليصل فى النهاية إلى رتبة مأمور ضواحى العاصمة فى عام ١٩١٤.
وحين استقرت الأسرة بالقاهرة، فقد أحمد إسماعيل والدته وهو فى سن الثانية عشرة، ليحرم من حنانها مبكرًا، ليتولى والده مسئولية تربيته، ولكنه اعتمد كثيرًا على شقيقته الكبرى لمتابعة دراسته وتثقيفه.
وأثر فقدانه لوالدته فى شخصيته، فأحب القراءة وكان يقتنى الكتب وخاصة تلك التى تتناول حياة القادة العسكريين والحروب، حسبما ذكر أبناؤه فى لقائهم معنا.
وانتقلنا إلى محطة مهمة فى حياة أحمد إسماعيل، وهى التحاقه بالمدرسة الحربية بعد معاناة طويلة بعدما تم رفضه مرتين، حيث كانت الكلية مقتصرة على أبناء الأثرياء حينها، وكان هو من عامة الشعب، فالتحق بكلية التجارة، لكنه لم يستسلم للظروف وقدم طلبًا للمرة الثالثة بعد توقيع معاهدة ١٩٣٦ ليلتحق أخيرًا بالمدرسة الحربية ويتخرج فيها فى ١٩٣٨، ضمن دفعة ذهبية ضمت أسماء بارزة، مثل الرئيس الراحل محمد أنور السادات، والرئيس الراحل جمال عبدالناصر، والضباط حسين الشافعى ويوسف السباعى وأحمد مظهر، الذى أصبح بعد ذلك ممثلًا.
والتحق أحمد إسماعيل بسلاح المشاة بعد تخرجه، وبدأ مسيرته كضابط استطلاع بفصيلة مشاة فى منطقة منقباد مع رفيقه أنور السادات لتتوطد أواصر العلاقة بينهما، وتبدأ مسيرته العسكرية فى الصعود بمرور الوقت، متنقلًا من قائد فصيلة إلى قائد كتيبة، ثم رئيس أركان فرقة مشاة، وصولًا إلى رئاسة أركان حرب القوات المسلحة فى حرب ١٩٦٧.
هذا التدرج المتميز ساهم فى تكوين خبرته العسكرية العميقة، وجعله على دراية تامة بكل شبر فى سيناء وساحات المعارك الأخرى.
وظهر ذلك فى موقفه الشهير فى الميدان مع الفريق عبدالمنعم رياض حينما كانا فى مشروع حرب، حينها وضع أحمد إسماعيل تعديلًا فى الخطة فاعترض الفريق رياض حتى احتكما لأرض الميدان، وحينما ذهب الفريق رياض إلى الموقع المحدد تيقن أن أحمد إسماعيل يعرف سيناء شبرًا شبرًا، فقال حينها: «لا أحد يمكنه مناقشتى فى الأمور العسكرية باستثناء أحمد إسماعيل».
وكان أحمد إسماعيل يؤمن بأن «السلاح بالجندى وليس الجندى بالسلاح»، لذا ظل طوال حياته متعلمًا متفوقًا، وكان الأول بين طلبة الماجستير فى العلوم العسكرية بكلية القادة والأركان عام ١٩٥٠، ثم عمل مدرسًا فى الكلية حتى عام ١٩٥٣.
وحصل على دورات تدريبية بريطانية، ودراسة فى الاتحاد السوفيتى بأكاديمية فرونز العسكرية، وشغل منصب كبير معلمى الكلية الحربية، ودرس أيضًا فى كلية الحرب العليا بأكاديمية ناصر العسكرية حينها، وهذا التأهيل الأكاديمى جعله يمتلك رؤية عسكرية متكاملة بين الميدان والتعليم، ما ساعده فى وضع خطط معركة أكتوبر ١٩٧٣.
وأبلى أحمد إسماعيل بلاءً حسنًا خلال العدوان الثلاثى عام ١٩٥٦، حيث تصدى للعدو كقائد للواء الثالث فى رفح ثم القنطرة شرق، ورفع علم مصر فى بورسعيد، ثم عُين قائدًا لقوات سيناء بين ١٩٦١ و١٩٦٥، ورئيسًا لأركان القوات البرية حتى نكسة ١٩٦٧، وبعد النكسة، تمت إقالة عدد من القادة، وكان من بينهم أحمد إسماعيل، لكن سرعان ما أعاده الرئيس جمال عبدالناصر إلى الخدمة كرئيس لهيئة عمليات القوات المسلحة، بفضل دوره الكبير فى إعادة تنظيم الجيش، وأنشأ الجيشين الثانى والثالث، وأسس خطًا دفاعيًا للقوات المصرية بعد ٣ أشهر من النكسة، ليثبت كفاءته فى قيادة البلاد نحو النصر.
وكان لأحمد إسماعيل دور بارز فى حرب الاستنزاف، حيث قاد معارك مهمة مثل رأس العش والجزيرة الخضراء عام ١٩٦٧، وبعد استشهاد الفريق عبدالمنعم رياض فى مارس ١٩٦٩، تم تعيينه رئيسًا لأركان حرب القوات المسلحة.
كما أسس ما يعرف بـ«مدارس المعركة المتحركة»، التى لعبت دورًا مهمًا فى تدريب الضباط بشكل سريع دون الحاجة إلى مغادرة الجبهة، وهذه الأفكار المبتكرة ساهمت فى رفع كفاءة الجيش المصرى بعد النكسة.
واختاره الرئيس الراحل أنور السادات فى ١٩٧٢ لقيادة القوات المسلحة بتعيينه وزيرًا للحربية برتبة فريق أول، ليلعب بعد ذلك دورًا حاسمًا فى التنسيق بين الجبهات المصرية والسورية ووضع اللمسات الأخيرة لخطة حرب أكتوبر، حيث تم اختيار يوم ٦ أكتوبر ليكون يوم الهجوم، وتحمل مسئولية التخطيط والتنفيذ، ونجح فى إدارة العمليات العسكرية بكل احترافية، مما أدى إلى تحقيق نصر تاريخى على إسرائيل.
ويمكننا أن نتوقف فى حياة المشير أحمد إسماعيل عند موقف محورى، وهو خوضه حرب أكتوبر وهو يعانى من سرطان الرئة، وهو الذى اكتشفه مصادفة عندما كان يجرى نجله جراحة فى مستشفى المعادى العسكرى، وكان محرجًا من زياراته له، لكن سكرتيره الخاص أقنعه بالذهاب لإجراء فحوص طبية، وكانت النتيجة خاطفة ومفاجئة، لكنه لم يظهر أى ضعف أمام التحديات.
وحصل على رتبة المشير فى فبراير ١٩٧٤، وهى أعلى رتبة عسكرية مصرية، وكان الوحيد الذى حصل عليها بعد عبدالحكيم عامر حينها، كما تم اختياره نائبًا لرئيس الوزراء مع احتفاظه بمنصب وزير الحربية، لكن المرض أنهك جسده ليتوفى متأثرًا به تاركًا خلفه إرثًا من البطولات والتضحيات التى ستبقى خالدة فى ذاكرة الأمة.