هل تنجح قمة المستقبل فى الضغط على المجتمع الدولى لتنفيذ أهدافها؟
قبل شهرين تقريبًا شاركت فى المؤتمر التمهيدى لقمة المستقبل متعددة الأطراف فى مقر الأمم المتحدة فى نيروبى ممثلًا عن المجتمع، والذى بلغ عددهم أكثر من ٤٠٠٠ ممثل عن المجتمع المدنى جاءوا من حوالى ١٤٠ دولة، ومثلوا ما يقرب ٢٥٠٠ منظمة مجتمع.
ويأتى انعقاد قمة المستقبل فى توقيت يعانى فيه العالم من عدد كبير من المشاكل الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية، حيث يعقد مؤتمر القمة المعنى بالمستقبل فى نيويورك فى الفترة من ٢٢-٢٣ سبتمبر ٢٠٢٤ خلال الاجتماع السنوى الرفيع المستوى للجمعية العامة للأمم المتحدة فى ظل تحديات يواجهها العالم خاصة الجزء الفقير منه، وهو الأمر الذى أكد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش، الذى طالب الدول الأعضاء الـ١٩٣ بالجمعية العامة، وخاصة الدول الأعضاء الغنية بتحمل مسئولياتها تجاه الدول النامية والفقيرة، والتى تعانى من أوضاع اقتصادية إنسانية صعبة وحرجة للغاية.
ومن المتوقع تتم فى هذا المؤتمر مناقشة محاور قمة المستقبل، التى خصصت لإعادة إحياء النظام الدولى متعدد الأطراف، وأعتبر هذه المبادرة فرصة لاستعادة الثقة فى إمكانية التعاون الدولى ومؤسساته للتصدى للتحديات التى تواجه العالم، وأكرر ما ذكرته تعقيبًا على مقولة الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو جوتيريش، صاحب مبادرة الدعوة لانعقاد قمة المستقبل، بأن العالم يعانى من «عجز فى الثقة» بأن المقابل لهذا العجز هو ما نعانيه من فائض فى الأزمات.
وقد تطرقت من قبل إلى ما تسبب فيه الرُعن الحمقى ممن تصدروا المشهد السياسى فى كوارث أمنية وإنسانية ومناخية يعانى منها العالم، وما جناه سفهاء تصدوا لإدارة الاقتصاد وشئون التنمية، فما خلفوا وراءهم إلا أزمات الاستدانة والغلاء والبطالة والفقر. هذا كله يجرى فى عالم لا تنقصه الموارد أو الثروات، لكنه يفتقر إلى قيادات تستنقذه مما اعتراه من بؤس، وما يكتنف الشباب فى بلدان شتى من يأس.
ومما لا شك فيه ضرورة محاولة إعادة إحياء نظام التعاون الدولى تجديدًا لمؤسساته المعنية بالسلم والأمن والتمويل والتنمية، أن تكون معبرة عن التغيرات فى أوزان القوى حول العالم، وأفضل تمثيلًا لتطلعات الشعوب وحكوماتهم، وأكثر فاعلية من حيث التمويل والموارد وكفاءة استخدامها، وأمهر قدرة فى المشاركات مع القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدنى، يقتضى هذا التمرد على حالة الاكتفاء بالحد الأدنى والإبقاء على أوضاع بالية بحكم الاعتياد، إلى ما يتناسب مع عالم جديد شديد الاختلاف عن عالم رسمته حينها تداعيات الحرب العالمية الثانية. تلك الحرب التى لم يكتف المنتصرون فيها بكتابة التاريخ، وهو المكسب المعتاد للمنتصر، لكنهم وضعوا قواعد عمل لمستقبل ما بعد الحرب بمواثيق واتفاقات وأعراف ألزمت مؤسسات العمل الدولى بالعمل فى نطاقها، دون تغيير ملموس يواكب ما طرأ على العالم من تغيرات منذ منذ أربعينات القرن الماضى، وها هو العالم الذى يتجاوز 80 عامًا من بداية تأسيس هذه المنظمات الدولية ليتم مائة عام فى عام 2044، بقواعد عمل وأوزان متباينة وحقوق متفاوتة لا تناسب العصر وقواه الصاعدة.
أتعجب أنه فى عالم شديد التغير لا يدرك البعض ما صارت عليه أحوال الأمم وتبدلها، فتجدهم وكأن الزمان توقف عند لحظة للضعف أو القوة النسبية للدول دون تغيير، فعندهم الدول التى كانت كبرى يومًا ستظل متمتعة بممكنات التقدم ومظاهر القوة إلى ما لا نهاية. وإن هى ظهرت عليها أمارات الوهن سارعوا بإنكارها، وتباروا فى تبريرها بأنها من العوارض المؤقتة. ومن المشاهد المألوفة أن التابعين لتلك الدول المتبوعة ذات المجد القديم يكونون من الأكثر نكرانًا للحقيقة الساطعة بزوال أمارات القوة والمجد عنها، رغم أن أهلها أنفسهم يعترفون قولًا وعملًا بأن يومهم أقل شأنًا من أمسهم الماجد.
ندرك ما أصاب مجلس الأمن من شلل منعه من حسم أخطر ما يواجه عالمنا من حروب دامية وصراعات، ناهيك عما يهدد السلم الدولى من قضايا وجودية مثل المياه، وأخرى بازغة، مثل الأمن السيبرانى وحوكمة الفضاء الخارجى والتنافس على موارده. ونعرف أن حفظ السلام وقواته، التى تقوم بعمل حيوى لا غنى عنه، تعانى من ضعف التمويل، ونعلم أن اتفاق باريس للمناخ وتعهداته، وما استجد عليها بعد قمم المناخ السنوية المنعقدة منذئذ، لم يفلح فى تخفيف الانبعاثات الضارة بالأرض ومن وما عليها؛ لضعف التمويل، وتقييد التعاون التكنولوجى فى مجالات العمل المناخى وضعف المحاسبية والحوكمة، ونعلم أن أقل من 15 فى المائة فقط من أهداف التنمية المستدامة فى مسارها للتحقق مع حلول عام 2030، وأن باقى الأهداف إما منحرف عن المسار أو أكثر سوءًا مقارنة بالوضع عند نقطة البداية فى 2015.
يتكرر ذكر مقولة «إن لم توجد مؤسسات العمل الدولى الحالية لأوجدناها». لا بأس بها من مقولة فلا بديل للتعاون الدولى ومؤسساته متعددة الأطراف إلا نزاعات وصراعات ومزيد من الحروب المدمرة. ولكن فاعلية المؤسسات الدولية مرهونة بمصداقيتها وشرعيتها وقبولها العام وكفاءة حوكمتها، فضلًا عن كفاية مصادرها التمويلية المطلوبة لمساندة جهود العاملين بها؛ وهم من أفضل الكفاءات فى مجالاتهم وإن احتاجت كوادرهم المزيد من مشاركة أبناء عالم الجنوب الأكثر دراية بشعابهم وأولويات مجتمعاتهم.
قد يتسرع البعض فى الحكم بأن موضوعات قمة المستقبل لم تأتِ بجديد؛ فلسنا هنا فى مجال للصراعات التى يتلقفها البعض، ثم يلقونها كفعلهم بتقاليع الأزياء والإكسسوارات. فقضايا العدل والسلم والأمن والحق فى التنمية قديمة قدم بزوغ الحضارات، ولكن نهج الوصول إليها ومعالمه وأدواته وتوازناته يتغير بتغير العصر وملابساته. والحلول والسياسات المختلفة مطروحة فى قمة المستقبل لتضع قيادات العالم أمام مسئولياتهم، والاختيار يكاد يكون بين أمرين فى كل حالة لا ثالث لهما: سلم أم حرب؛ أمن أم فوضى؛ تقدم وتنمية أم تخلف وفقر؟
فى ظل أجواء التحديات الجيوسياسية والحروب الراهنة وسفك الدماء بلا جريرة، وزيادة الموجات العنصرية التى تؤججها أزمات اقتصادية وخطاب شعبوى أجوف تردده ألسنة متهافتين على كراسى الحكم، قد يستحيل التوصل إلى طموحات ينشدها ذوو العقول والضمائر. ولكن تذكرنا مقولة الزعامة الإفريقية الاستثنائية الممثلة فى نيلسون مانديلا «يبدو الأمر مستحيلًا حتى يحدث». وقد شهدنا من المستحيلات السيئة صنوفًا تحدث، فلعل قمة المستقبل تأتى ببداية لصنف حميد.
توقعاتى الشخصية أن طموحات المنظمة الأممية ستواجه تحديات كبيرة فى الوصول إلى حلول جذرية وحاسمة فى المشاكل المطروحة للنقاش وسوف تصطدم بتعنت واضح من الدول الصناعية التى تنتهج سياسية استعمارية جديدة، الهدف منها حماية مصالح الاقتصادية والسياسية ودون أن تحرك جنديًا واحدًا.