جريمة لبنان: ست قضايا رئيسية للتفكُّر بها!
العملية الإجرامية التى استهدفت آلافًا من أعضاء «حزب الله»، بتفجير أجهزة التواصُل الإلكترونى، «البيجرز»، وما ترتب عليها من قتل وإصابة أعداد غفيرة من حامليها، العديد منهم لا علاقة له بالعمل العسكرى، لابد أنها ستخضع للتدقيق الشديد والتحقيق الصارم من قِبل «حزب الله»، لاكتشاف مناطق العِلَّة وعلاجها بسرعة وحسم، خاصة أنها لم تكن الأولى التى تشى باختراقات صهيونية أمنية ومعلوماتية عميقة، يسَّرت سبل الوصول إلى قيادات عُليا فى البنية العسكرية والسياسية للحزب، تم استهدافهم واغتيالهم، ومنهم القائد العسكرى «فؤاد شكر»، الذى قُتل بغارة إسرائيلية استهدفت مبنى يتواجد فيه بالضاحية الجنوبية لبيروت، بعد ساعات من إعلان «حماس» اغتيال رئيس مكتبها السياسى «إسماعيل هنية» فى طهران، وقبلها تم اغتيال القائد العسكرى الإيرانى «محمد رضا زاهدى» فى دمشق، فضلًا عن عشرات العلماء والمسئولين الأكاديميين عن البرنامج النووى الذين تم استهدافهم بالقتل فى إيران ذاتها، ناهيك عن تاريخ حافل بالعنف والإرهاب والقتل والتنكيل، طال طابورًا من القادة الفلسطينيين واللبنانيين والعلماء الكبار (ومنهم د. يحى المشد، عالم الذرة المصرى العامل فى المشروع النووى العراقى، بباريس، فى يونيو 1980)، واستهداف مئات الآلاف من أبناء الشعبين اللبنانى والفلسطينيين، ما يفرض إيلاء قضايا الأمن، بكل أبعادها: الشاملة والتكتيكية، أعلى درجات الاهتمام والعناية.
وإذا كانت هذه القضايا ذات البعد الأمنى المباشر، تخص ـ فى المقام الأول ـ حزب الله، وأجهزة الأمن الإيرانية، واللبنانية، والسورية، وغيرها من الهيئات المعنية فى شتى أرجاء الوطن العربى، بل وأكاد أقول فى كل بلدان المعمورة، لجدتها وخطورتها، فلعل من المفيد إلقاء «نظرة طائر» ذات أبعاد أشمل تمس «دلالات» هذه العملية الواسعة النطاق من المنظور الاستراتيجى، الذى يجب أن ينال كل الاهتمام، بسبب تماسه الحميم مع سلامة واستقرار وأمن كل بلدان المنطقة، وفى هذا السياق تحضرنى خمس قضايا رئيسية ينبغى النظر فيها بإمعان:
أولاها: توجيه ضربة استباقية لشبكة الاتصال الداخلى الخاصة بـ«حزب الله»، تمهد للعدوان القادم على لبنان:
فهناك مؤشرات عديدة، بل وتصريحات من «نتنياهو» وسدنته، وبالذات «بن غفير» و«سموتريتش» وقادة عسكريين كثر، بأن قرار العدوان على لبنان قد اتُخذ، ولا عودة عنه، لتعويض الفشل فى «حرب غزة» والعجز عن تحقيق أغراضها رغم خسائرها الهائلة، بشريًا واقتصاديًا، وآثارها السلبية على سمعة الكيان الصهيونى والثقة فيه وفى قادته، وهذه الضربة المباغتة، «ضربة البيجرز»، بما أحدثته من إصابات مؤثرة، كمًّا وكيفًا، فى صفوف «حزب الله» وإيران، وما تركته من آثار نفسية وارتباكات (طبيعية ومؤقتة)، داخل «محور المقاومة»، تمثل «ضربة البداية» التى تمهد تمهيدًا خطيرًا للمرحلة المقبلة من الصراع الممتد فى فلسطين والمنطقة، وتنزع عن «حزب الله» أحد أهم عناصر التنظيم والاتصال والتنسيق بين الصفوف والأرتال الحربية والقيادات السياسية والعسكرية التابعة له، وتزرع الفتنة والشكوك بين ثناياه، بما يضعف، حسب التصور الصهيونى الجاهزية للمواجهة!
وثانيها: استعادة جانب من الثقة المفقودة فى قدرات الجيش الإسرائيلى ومحاولة استرجاع تفوقه العملياتى على المقاومة فى فلسطين ولبنان:
فرغم كل ما يمتلكه الكيان الصهيونى من عناصر تفوق تسليحى، وتقنيات متقدمة للحرب الحديثة، ورغم الدعم الأسطورى بالمال والسلاح والمعلومات والخبرات، من الولايات المتحدة ودول الغرب: «قالت وزارة الدفاع الإسرائيلية،،إن 500 طائرة نقل، و107 سفن، نقلت أكثر من 50 ألف طن من الأسلحة والمعدات العسكرية، من أمريكا إلى إسرائيل، منذ بداية الحرب فى قطاع غزة». «سبوتنيك، 26 أغسطس 2024»، فقد اهتزت الصورة الإسرائيلية اهتزازًا شديدًا نتيجةً للعجز الفعلى عن تحقيق الأهداف من الحرب الوحشية فى غزة، وأهمها: القضاء على المقاومة، واستعادة الأسرى!
وهذه العملية الإجرامية محاولة بائسة لاستعادة «هيبة» الدولة المتفوقة عسكريًا فى مُحيطها، واسترجاع صورته المحفوظة، التى تأذَّت كثيرًا من مجريات الحرب والفشل البيِّن فى تحقيق أهدافها.
وثالثها: إطلاق رسالة من وراء هذه العملية: ما زلنا «القوة المهيمنة» فى المنطقة!
كما أن العصابة المجرمة المسيطرة على الكيان الصهيونى، تسعى إلى ترسيخ فكرة مُهمة لها الآن بالذات، حيث تراجعت مكانتها فى العالم، واهتزّت ثقة «الأصدقاء» «ومنهم عرب!»، فى جدوى الاعتماد الأمنى على صداقتها، خاصة أولئك الذين تصوروا أن العلاقة الحميمة معها تؤمن لهم المَنَعَة والحماية، وإزاء اهتزاز وضعية وصورة جيشها «الذى لا يُقهر» أمام مقاومة وصمود الشعب الفلسطينى، فهى بهذه العملية تسعى لتأكيد أنها ما زالت تحتل موقع ودور«القوة المُهيمنة» فى المنطقة، والتى بمُكنتها فرض إرادتها على الجميع، وتصدير رسالة إلى كل الدول المُحيطة بها فى الوطن العربى، دون استثناء واحد، تقول عبرها إن يدها الطويلة قادرة على الوصول إلى كل خصومها، أيًا كان موقعهم أو مكانتهم!
ورابعها: الترويج أنها ما زالت قادرة على خدمة الأهداف والمصالح الإمبريالية:
وهذا الهدف مُهمٌ للغاية، بعد فشل استخدام القوة العسكرية الباطشة، وحرب الإبادة المستمرة على امتداد عام كامل ضد المقاومة الفلسطينية والشعب الفلسطينى، وخاصةً فى مواجهة الجمهور الغاضب داخليًا على الفشل فى استعادة الأسرى، وللرد على الرأى العام فى الخارج، وعلى جهات عديدة فى الدول الغربية التى تتساءل عن جدوى إنفاق مئات المليارات، من أموال دافعى الضرائب، للصرف على الكيان العاجز فى مواجهة الشعب الفلسطينى الأعزل ومقاومته البسيطة التسليح.
فـ«إسرائيل» بحاجة للتصرف على أنها ما زالت قادرة على حماية المصالح الاستعمارية فى بلادنا والمنطقة، وما زال باستطاعتها لعب الدورالذى سبق ووصفه «أرئيل شارون»، وزير الدفاع ورئيس الوزراء الصهيونى الأسبق، بـ«حاملة الطائرات» التى تحمى مصالح أمريكا والغرب، فى هذه المنطقة البالغة الأهمية والعامرة بالنفط والثروات!
وخامسها: استعادة المكانة العلمية والتقنية المتفوقة، والتى اهتزت فى الحرب ضد المقاومة!
لقد كسب الكيان الصهيونى كثيرًا من دعاوى تقدمه العلمى والتكنولوجى، وبالذات من استحواذه على مداخل عديدة للتكنولوجيات المتطورة، المدنية وأساسًا العسكرية، ولكن هذه الصورة التى بالغت الأوساط الصهيونية، داخل وخارج الكيان، فى الترويج لها، اهتزت، نسبيًا، بفشلها فى مواجهة القدرات التقنية البسيطة للمقاومة، وأمام قدرة الفلسطينيين على المواجهة، بل وتحطيم نماذجها التطبيقية التى منحوها أسطورية، مثل دبابات «ميركافا» وغيرها، وكذا استطاعتهم واليمنيين والعراقيين واللبنانيين والإيرانيين، اختراق حاجز الدفاع الصاروخى الرباعى الذى دائمًا ما تباهت «إسرائيل» بمناعته التى لا تُخترق: «منظومة باتريوت الأمريكية الصنع المُضادة للصواريخ الباليستية، منظومة «حيتس»، ((Arrow، المُضادة للصواريخ الباليستية بعيدة المدى، منظومة «القبة الحديدية» المُضادة للصواريخ القصيرة المدى،... إلخ»، فهذه الخطوة تأتى فى سياق محاولة استعادة صورة ومكانة القدرات العسكرية الإسرائيلية، المتفوقة تقنيًا، والتى يعتمد عليها الجانب الصهيونى فى الترويج والتسويق لزعم تفرده فى المنطقة بامتلاكه مفاتيح صناعتها المتقدمة.
وسادسها: أن هذا التصرُّف، يُعبِّر، من ناحية، عن إحباط «نتنياهو» من وضعه الخاص وفشله الذريع، رغم كل ما أحدثه من خراب ودمار وقتل وتنكيل، فى تحقيق الانتصار على الشعب الفلسطينى الأعزل، ومن ناحية أخرى فهى محاولة يائسة وبائسة للحد من الخسائر الاقتصادية والبشرية التى تضرب الكيان فى الصميم: مليارات الدولارات كل شهر، وأكثر من مليون مهاجر من الكيان إلى الخارج، بالإيحاء أنه قادر على الاستمرار فى المواجهة، وإحداث آثار ملموسة، لتطمين المجتمع الداخلى المُفكك والمُتصارع، وتأجيل لحظة الانفجار الداخلى القادم لا محالة!
هذه ست ملاحظات تتعلق بدوافع قادة الكيان الصهيونى إلى تخطيط وتنفيذ هذه الجريمة البشعة، وإن كانت غير المستغربة، فمَن فَعَلَ ما فَعَلَ فى أطفال وعزَّل الشعب الفلسطينى وناسه وأرضه، لا يُستغربن منه أن يقوم بأى فعلة، أو ارتكاب أية جريمة!
ويبقى أن واجبنا أن نكون دائمًا على أهبة اليقظة والاستعداد، والوعى بما يُحيط بنا من مخاطر، وخاصةً مع هذا الكيان العنصرى الدموى الشاذ الذى لا يؤتمن، وقديمًا قال المثل العربى: «إن كان عدوك نَمْلة.. فلا تنم له»!