رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إرهاب فكرى ضد المدنية والحداثة

تحدثت كثيرًا عن اللغط الذى يسود بين مفهوم الدولة المدنية والحداثة، والدولة الثيوقراطية التى كانت جماعة الإخوان تصر على إقامتها فى مصر وغارت إلى غير رجعة. والدولة المدنية الحديثة لا تعنى أبدًا بأى حال من الأحوال معاداة الدين، ولكن الأزمة الحقيقية هى أن من ينادى بالدولة المدنية كأنه يعادى الدين وهذا غير صحيح بالمرة، والذين يفعلون ذلك يمارسون إرهابًا فكريًا.

واللغط الكثير حول مفهوم الدولة المدنية نابع من عدم الفهم الصحيح لأسس الحداثة والمدنية، إضافة إلى أن هناك من يصور المنادين بالمدنية وكأنهم يعادون الدين، أو يحاولون طمس هوية الأمة، وهذا الأمر يستدعى الخروج من دائرة الإرهاب الفكرى وتمحيص الحقائق.

المدنية والحداثة تحكمهما دساتير وقوانين تضمن الحريات الفردية، ويشكل الدستور المظلة الأوسع للناس، وتمارس فى ظله الحرية فى المعتقد والدين والفكر، ولا تفرض فئة على أخرى ماذا تفكر أو تلبس أو تعتقد، ولا يتغول فيها أحد على الآخر. والدولة المدنية دولة مؤسسات، يتم فيها تطوير السلطات التشريعية والقضائية حتى الوصول إلى نظام من الفصل والتوازن لا يسمح لسلطة بالتغول على أخرى. والدولة المدنية دولة قانون يسرى فيها القانون على الجميع بغض النظر عن مكانتهم أو منصبهم أو نفوذهم أو أصولهم.

والمعروف أن الخطاب الأصولى يعد عدوًا لدودًا لفكرة الحداثة والدولة المدنية، ويستخدم الإرهاب الفكرى ضد كل من ينادى بالحداثة أو المدنية. ومن المؤسف أن كثيرين يسقطون صرعى هذا الإرهاب خاصة العامة، لاعتقادهم الخاطئ أن المدنية ضد الدين، وهذا غير صحيح.

وهذا ما يدفعنا إلى القول إن الدستور المصرى به بعض المواد التى يجب تغييرها، لأنها تتضمن تأصيلًا لفكر الأصولية الدينية. وفى مقارنة سريعة بين دستورى عام ١٩٢٣ و٢٠١٤، وجدنا أن دستور «٢٣» جاء فى توقيت بالغ الأهمية، حيث كانت الحركة المدنية فى أوج قمتها، وجاء الدستور مواكبًا لذلك تمامًا، أما دستور ٢٠١٤ فيعد تعديلًا لدستور ٢٠١٢ الذى وضعته جماعة الإخوان، إضافة إلى أن هذا الدستور كرّس بطريق غير مباشر لفكرة الأصولية، وأحال مواد دستورية إلى أخرى بالدستور، ما يناهض تمامًا فكرة المدنية والحداثة.

كما أن الدستور الحالى «٢٠١٤» تضمن موادّ انفعالية كثيرة، قد يكون السبب فيها هو الحالة الثورية التى شهدتها البلاد بعد ثورة ٣٠ يونيو. ولا يخفى على أحد أن فكرة الأصولية- السلفية كانت ضمن الذين أعدوا هذا الدستور، وبالتالى فإن تفكيك الفكر الأصولى بات معطلًا. والحقيقة الغائبة لدى الكثيرين هى أن الفكر الأصولى واحد، سواء كان عند السلفيين أو جماعة الإخوان أو الجماعة الإسلامية أو أى جماعات أخرى، وبالتالى فإن فكرة الأصولية تضم كل التيارات بلا استثناء، وستظل عائقًا كبيرًا أمام فكرة المدنية والحداثة والليبرالية.

وتظل المشكلة كما سمعت من المفكر الكبير عبدالجواد يسن تحتاج إلى ثلاثة أمور بالغة الأهمية، وهى دور الوعى الجمعى لدى الجميع بأهمية المدنية والحداثة، ودور الدولة فى أهمية الخروج من نفق الأصولية المظلم، ودور المفكرين أنفسهم، وفى هذا الإطار لا بد من تغيير شامل لمناهج التعليم المعمول بها حاليًا التى تكرس لفكرة الأصولية، إضافة إلى أهمية استغلال الفنون فى تفكيك الفكر الأصولى الذى لا علاقة له بالأديان السماوية، لأن العلاقة بين المرء وربه علاقة فردية ولا تحتاج إلى أى نوع من الكهنوت الدينى، لأنه مع عظيم الأسف الكل يسبح فى فلك تاريخ الأديان، وليست الأديان ذاتها.

وتظل المشكلة المهمة فى هذه الأزمة أمرًا قائمًا يحتاج إلى الكثير من الأدوات حتى تنجح فكرة المدنية والحداثة والمواطنة، وضرورة التخلى تمامًا عن الفكر الأصولى الذى يقف بالمرصاد للمواطنين والحداثة ويمنعها بشتى الطرق والوسائل، حتى يظل الجميع أسرى الأصولية بشكل مخيف ومدمر للمدنية والتطور الذى هو الأساس منذ نشأة الخليقة حتى الآن. فالمجتمعات فى الأصل قائمة على التطور والتحديث لصالح البشر فى المقام الأول، وهو ما يتنافى تمامًا مع فكر الأصولية الذى يسبح فى التراث وتاريخ الأديان وسطوة الكهنوت الدينى وما شابه ذلك.