رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

القاهرة- أنقرة.. ود يعود وروابط تتجدد

 تمضى العلاقات بين الأفراد بين مد وجذر، صعود وهبوط، حميمية وجفاء. علاقاتنا مع الآخرين لا تسير دائمًا على وتيرة واحدة، فهى تتحرك وفق الأحداث وتخضع لمصلحة كل طرف، غير أن هناك عوامل تدعم الوشائج وتقوى الروابط وتعزز المحبة. قد تأخذ على صديقك أو قريبك أنه تجاهل السؤال عنك لبعض الوقت، أو أنه ابتعد فى وقت كنت تتوقع أن تجده أقرب الناس إليك، أو قد يكون موليًا وجهه عكس وجهتك بعض حين، لا غرابة فهكذا هم البشر. 

وكذلك أيضًا تمضى علاقات الدول ولكن بمزيد من التعقيد، حيث تتقدم لغة المصالح غيرها من الأولويات. كم رأينا منذ صدر التاريخ دولًا تقاربت إلى حد الاندماج، ثم عادت السبل لتتفرق بهم «فإذا الأحباب كل فى طريق» كما تقول الست فى أطلال إبراهيم ناجى. وقد لا يتسع المجال هنا لتعداد حالات تاريخية بين القديم والحديث، والمعاصر أيضًا، كانت فيها العلاقات الثنائية أو حتى الإقليمية مهيأة لإقامة تحالفات أو عقد اتفاقات تعاون وتكامل بل ربما اندماج، ثم ما تلبث أن تتدخل قوى دولية لإفساد الحال.

هناك فى المقابل علاقات تبدأ بفتور أو عدم ود قد يصل الأمر لحد القطيعة السياسية والدبلوماسية. وهنا يكون من المحتم أن يعلو صوت العقل لتتاح الفرصة لحساب من نوع مختلف. ففى مثل تلك الحالات يكون على الجميع أن يحسب ماذا سيخسر كل طرف ومن المستفيد من زيادة الهوة بين الطرفين. وفى ظنى أن النموذج الأبرز لهذا النوع من العلاقات الرشيدة هو فى الحالة المصرية - التركية، حيث نجحت القيادات فى الدولتين فى «تصفير» المشكلات كنموذج يحتذى فى ملف العلاقات الدولية.

فى تغريدة نشرها السيد الرئيس عبدالفتاح السيسى تتزامن مع زيارته الأولى للجمهورية التركية تحدث سيادته عن العلاقات التاريخية والسياسية المتأصلة بين الدولتين منذ عهد الزعيم التركى كمال أتاتورك، لكنه أشار صراحة إلى العلاقات الشعبية أيضًا. تلك العلاقات المشتركة كانت هى الدافع الحقيقى لتغليب الإرادة القوية لدى الدولتين والقيادتين لبدء مرحلة جديدة من الصداقة والتعاون والتنسيق الذى يعزز دور كلتا الدولتين المحورى فى محيطهما الإقليمى والدولى.

يأتى هذا التقارب السياسى استجابة - كما نوه الرئيس السيسى - لإرادة شعبية، رغم سنوات الجفاء التى تم تجاوزها بخطوات دبلوماسية فى منتهى الحكمة، وتعززت بزيارة رئاسية تركية للقاهرة قبل نحو سبعة أشهر، ليكلل الرئيس السيسى هذه الخطوات بزيارة بدأت اليوم باستقبال رسمى تركى أقل ما يقال عنه أنه الاستقبال الذى يليق بمصر ورئيسها.

ينتظر الظهير الشعبى فى كلتا الدولتين مزيدًا من التفاهمات التى بدأت منذ بدأت مياه العلاقات تعود لمجاريها الطبيعية. ترتيبات وتنسيقات مشتركة تفرضها المصلحة العليا لكلتا الدولتين أبرزها تحريك الموقف لصالح التوافق الليبى - الليبى. فضلًا عن مد مزيد من جسور التعاون التجارى الذى لم ينقطع طوال فترة الجفاء، ولكن هناك طموحات لزيادة حجم التجارة البينية لتصل إلى 15 مليار دولار بدلا من 10 مليارات حاليًا. أعلم تمامًا أن هناك عددًا غير قليل من شبابنا بدأ يتوجه نحو الجامعات التركية سعيًا لتحويل أو تعزيز مساراتهم العلمية والأكاديمية، غير أن ما فاجأنى هو تلك التقارير التى تصل بحجم العمالة التركية فى مصر إلى نحو 100 ألف شخص! وأن السوق التركية استقبلت صادرات مصرية قاربت قيمتها نحو 3 مليارات دولار خلال العام الماضى فقط.

وقد يصل بنا الطموح لأن نتمنى أن يكون هناك تعاون عسكرى مشترك يضمن تحقيق المصالح العليا المشتركة للبلدين الشقيقين. ولعلى لا أكون مبالغًا إذا قلت إن هناك شعوبًا عربية شقيقة ستكون فى غاية السعادة لهذه الزيارة، أبرزهم بالطبع الأشقاء فى فلسطين، إذ إن التلاقى والتفاهم بين زعيمى اثنتين من أكبر الدول الإسلامية سيكون نقطة قوية تدفع نحو إيقاف الحرب الإسرائيلية على الأبرياء فى غزة. وهناك أيضًا الملف السودانى الذى تأزم بصورة موجعة شتتت أهل السودان بين عدد من الدول، لكن مصر كانت هى الدولة الأقرب التى فتحت الأبواب ولم توصدها فى وجه الإخوة السودانيين فى ذروة أزمتهم، وفى ظنى أن التقارب المصرى- التركى سيكون بابًا لتحقيق نوع من الاستقرار الداخلى السودانى الذى يجمع أهله من الشتات ويعيد مواطنيه إلى ديارهم. هذا فضلًا عن غيرها من الملفات المهمة كملفى السياحة والصحة. 

شكرًا لزعيمى الدولتين الإسلاميتين الأكبر ولقدرتهما على تجاوز الخلافات وبناء مزيد من جسور الثقة التى تتعزز اليوم بهذه الزيارة التاريخية، وفى انتظار ترجمة على أرض الواقع لهذا التقارب وتلك العلاقات ينتهى باتفاقات وإجراءات لصالح الشعبين الشقيقين.