رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الرئيس فى تركيا.. تمام الوفاق والاتفاق

وسط إقليم يموج بالصراعات، التى تهدد المنطقة باشتعال حرب إقليمية لا يعرف أحد مداها، تأتى زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسى إلى تركيا، لتحمل «نقلة نوعية» للعلاقات بين البلدين، تنعكس إيجابيًا على المنطقة بشكل عام، بعد نحو ما يزيد على عقد من الخلافات الممتدة، التى طغت على ملفات ثنائية وإقليمية مشتركة، قبل أن يحدث اختراق كبير، بالاتفاق على تطوير العلاقات الدبلوماسية، وتبعها زيارة الرئيس التركى، رجب طيب إأردوغان، إلى القاهرة فبراير الماضى، حيث أجرى محادثات مع الرئيس السيسى حينها، حول تعزيز العلاقات والتنسيق والتعاون المشترك، ووقع عدة اتفاقيات تعاون ومذكرات فى عدة مجالات.

وقد وصفت الرئاسة المصرية، زيارة السيسى أنقرة بـ«التاريخية»، معتبرة أنها تمثل محطة جديدة فى مسار تعزيز العلاقات بين البلدين، والبناء على الزيارة السابقة للرئيس أردوغان للقاهرة، وتأسيسًا لمرحلة جديدة من الصداقة والتعاون المشترك بين البلدين، سواء ثنائيًا أو على مستوى الإقليم، الذى يشهد تحديات جمة تتطلب التشاور والتنسيق بين البلدين.. ومن اليقين، أن لقاء السيسى أردوغان سيشهد، بشكل أساسى، دفع علاقات التعاون الاستراتيجى والاقتصادى بين الجانبين، فضلًا عن إعلان موقف موحّد تجاه الحرب فى غزة، والدعوة لضرورة الوقف العاجل للقتال المتواصل منذ أكتوبر الماضى، فضلًا عن التطرق لملفات ذات اهتمام مشترك، مثل الموقف فى ليبيا وسوريا، وكذلك الحرب بالسودان، وما يجرى فى الصومال.. وسيشهد الرئيسان، السيسى وأردوغان التوقيع على عدد من مذكرات التفاهم بين حكومتى الدولتين فى مختلف مجالات التعاون، وسيبحث الطرفان كيفية العمل على تحقيق زيادة حجم التجارة بين البلدين إلى خمسة عشر مليار دولار، إذ تشهد الزيارة توقيع نحو عشرين اتفاقية فى قضايا الطاقة والغاز الطبيعى، والتعاون فى مجالات الصحة والسياحة والدفاع.
من الناحية السياسية، فإن زيارة الرئيس تركيا ستكون «تتويجًا للمصالحة» بين القاهرة وأنقرة، ما يعطى العلاقات دفعة أكثر قوة، مع مزيد من التعاون فى مختلف المجالات، لأن العلاقات على المستوى التجارى والسياحى والشعبى لم تتأثر وقت الأزمة بين الجانبين.. ومن الناحية الاستراتيجية والأمنية، فإن التقارب المصرى التركى يمنع الخلافات فى القضايا المحورية، ما يعزز التفاهم الاستراتيجى والعسكرى بين الجانبين، خصوصًا أن الزيارة تأتى فى توقيت مهم للغاية، إذ إنها الأولى من نوعها للرئيس السيسى منذ توليه منصبه، قبل إحدى عشر عامًا، بيد أنه زار أنقرة عندما كان وزيرًا للدفاع عام 2013.. ومصر وتركيا لديهما تطلع إلى مرحلة جديدة فى التعاون، تشهد سياسات متفقة فى الرؤى بالنسبة للأوضاع بالمنطقة، وتطوير العلاقات بين الجانبين ستكون له انعكاسات إيجابية مباشرة، لتحقيق استقرار أكبر فى هذه المنطقة التى تعانى ويلات الصراعات والأزمات الإقليمية، التى باتت متشابكة ومتصلة ببعضها البعض، فلا نستطيع الفصل بين الحرب فى غزة والتوتر بالبحر الأحمر، كما لا نستطيع الفصل بين ما يجرى فى السودان وأزمات منطقة القرن الإفريقى وصولًا إلى ليبيا، وبالتالى فإن هذا يتطلب تنسيقًا متواصلًا بين القاهرة وأنقرة، سعيًا نحو رؤية واحدة لمحاولات حل هذه القضايا والتشابكات، لوقف دائرة العنف بالإقليم.

على الجانب الاقتصادى، فإن الاقتصاد سيكون «الصيغة السحرية» لمعالجة آثار القطيعة التى عصفت بالعلاقات الثنائية خلال الفترة الماضية، فالأولويات الآن هى للمصالح المتبادلة بين البلدين، والاقتصاد هو المحور الأساسى للتركيز.. ومصر وتركيا لديهما القناعة والإصرار على الارتقاء بالتبادل التجارى للوصول إلى الهدف المرجو، حيث تريد تركيا الاستفادة من السوق المصرية، التى تعتبر سوقًا إنتاجية متميزة، وبوابة لإفريقيا، وفى المقابل تسعى مصر للاستفادة من تركيا، خصوصًا فى مجال الصناعات الدفاعية والعسكرية، كما أنها تعد بوابة لأوروبا فى المقابل.. أخذًا فى الاعتبار، أن تعزيز آليات التعاون بين البلدين اقتصاديًا واستثماريًا، ستكون لها بصمات إيجابية على التقارب السياسى والدبلوماسى.

إن مصر وتركيا، بوصفهما ركيزتى الأمن والاستقرار فى الإقليم، فى حاجة إلى التباحث والتنسيق من أجل الحيلولة دون دخول المنطقة فى منعطف خطير، بسبب اتساع دائرة النزاع فى المنطقة، نتيجة استمرار حرب الإبادة الجماعية التى تشنها إسرائيل فى قطاع غزة، والجرائم الوحشية التى ترتكبها الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة بحق الفلسطينيين واستباحة دمائهم، وتدميرها للقطاع وامتداد جرائمها لتشمل شمال الضفة الغربية، إذ ستتبادل القاهرة وأنقرة، خلال الزيارة، وجهات النظر حول كيفية احتواء الموقف المتأزم بمنطقة الشرق الأوسط والضغط على الأطراف الدولية، خصوصًا الولايات المتحدة الأمريكية، الحليف والداعم الرئيسى لحكومة إسرائيل الاستيطانية المتطرفة، حيث ترتبط مصر وتركيا بعلاقات استراتيجية مع الولايات المتحدة.. وعلى مصر وتركيا مع الأردن، تقع المسئولية تجاه حماية المقدسات الإسلامية فى الأراضى الفلسطينية المحتلة، فى ظل التعديات التى يقوم بها المستوطنون ووزراء من اليمين المتطرف بإسرائيل، عبثًا فى المقدسات الإسلامية، ولا سيما المسجد الأقصى المبارك والحرم الإبراهيمى، علاوة على التصعيد العسكرى بالضفة الغربية وتدمير البنية التحتية فى مدنها، بما يعد جريمة حرب تُضاف لسجل جرائم الاحتلال الإسرائيلى.

فمما لا شك فيه، أن مصر وتركيا قادرتان على لعب دور مهم ومؤثر فى المحيط الإقليمى، والعمل على تعزيز استقرار دول المنطقة، فى إطار من الفهم المتبادل للمسئولية الملقاة على عاتقهما، بوصفهما دولتين ذاتا ثقل استراتيجى، كما أنهما تلعبان دورًا مهمًا ورئيسيًا فى تحقيق المكاسب الاقتصادية فى الإقليم.. وتمثل زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسى إلى تركيا نقلة نوعية غير مسبوقة وخطوة مميزة فى إطار التحركات المصرية على المستوى الإقليمى، وإذا كانت هذه الزيارة تكتسب أهمية سياسية واقتصادية، فإنها ترتبط ارتباطًا مباشرًا بالعلاقات الاستراتيجية بين دولتين، يمكن أن نطلق عليهما قوتين إقليميتين عُظميين، وقد دأبت مصر على أن تتحرك فى إطارها الإقليمى، مدفوعة برؤية متكاملة لدعم الأمن والاستقرار والتنمية فى المنطقة، وهو جوهر المشروع المصرى فى مواجهة أى مشروعات أخرى تهدف إلى زعزعة الاستقرار فى المنطقة، وبالتالى عندما يأتى مثل هذا التحرك مُنسقًا بين دولتين بحجم كل من مصر وتركيا، فإن الوضع الإقليمى لا بد أن يتغير إلى الأفضل، ويكون أكثر إيجابية وفعالية.

زيارة الرئيس السيسى اليوم إلى أنقرة، تأتى حلقة جديدة فى سلسلة التقارب التركى- المصرى، التى تسارعت وتيرتها منذ زيارة الرئيس أردوغان إلى القاهرة فبراير الماضى، التى كانت الأولى له منذ اثنى عشر عامًا، بعد أن مثّلت مصافحة أردوغان للسيسى فى قطر، على هامش افتتاح نهائيات كأس العالم لكرة القدم 2022، إعلانًا لنهاية عقد كامل من القطيعة والتوترات التى وصلت إلى حد «العداء» بين البلدين.. وكانت الخطوات التى اتخذتها تركيا لتمهيد الطريق أمام استئناف العلاقات على هذا المستوى الرفيع، قد أسهمت فى أن تتجاوب القيادة المصرية مع جهود التركية لتحسين العلاقات الثنائية، وبالتالى بدأت مصر التحرك من أجل وضع الأسس اللازمة لعلاقات استراتيجية ممتدة بين الدولتين، ليس فقط لتحقيق مصالحهما الثنائية، ولكن أيضًا للقيام بدور فعال على المستويين، الإقليمى والدولى.

■■ وبعد..
فإن زيارة الرئيس التركى، رجب طيب أردوغان، مصر فبراير الماضى، كانت لها معان تتجاوز تطبيع العلاقات بين البلدين، ورفعها للمستوى المطلوب، إلى إنشاء محور جيوسياسى جديد، يضم تركيا، ومصر، وقطر، والسعودية والإمارات، له أهمية كبيرة بالنسبة لمستقبل الشرق الأوسط، إذ إنه ينطوى على تعاون وثيق وتضامن واسع النطاق.. والسبب الرئيس وراء هذا التضامن، هو مواجهة رغبة القوى الإمبريالية، على رأسها الولايات المتحدة وأوروبا، فى تقسيم الشرق الأوسط إلى أجزاء أصغر وإضعافه، وقد أدركت الدول العربية ذلك جيدًا، وأدركت أن دورها قد حان.. وفى ظل التشابك الجيوسياسى المتزايد بين تركيا ومصر، فإن ذلك يفرض عليهما محاولة مواءمة مصالحهما، لتعزيز قدرتهما على التأثير فى السياسات الإقليمية.. ولا ننسى، أن إصلاح العلاقات مع القاهرة كان جزءًا من استراتيجية أنقرة الأوسع لإصلاح علاقاتها مع القوى الإقليمية منذ عام 2020.. فمصر، باعتبارها قوة فاعلة فى المنطقة، لا يمكن لتركيا تجاهلها، إذا كانت ترغب فى تعزيز حضورها الإقليمى، وحماية مصالحها فى قضايا حيوية، مثل شرق المتوسط وليبيا، وغيرهما.

حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.