رعب فى أديس أبابا.. وتهديد بمياه النيل
دستور الدولة المصرية، فى علاقاتها مع الدول، فى الإقليم أو الجوار، حدده الرئيس عبدالفتاح السيسى، فى أن «تعاوننا يهدف إلى البناء والتنمية والتعمير، ولا نتدخل أبدًا فى شئون الدول، لأن ما يحكم مسارات سياستنا هو احترام القانون الدولى وسيادة الدول».. وما يخص الصومال، كدول الجوار ودول الإقليم ودول القرن الإفريقى، «أن نحترم سيادة الدول، ونحافظ على استقلالها، وما يحكمنا هو التعاون فيما بيننا، وليس أكثر من ذلك».
لذلك، كان غريبًا ما صدر عن وزارة الخارجية الإثيوبية، بعد أسابيع قليلة على توقيع بروتوكول تعاون عسكرى ثنائى بين مصر والصومال، من أنه، «يتوجب على كل المسئولين عن إعداد وتفويض مهمة دعم السلام الجديدة، أن يأخذوا بعين الاعتبار القلق المشروع لدول المنطقة.. ويجب على القوى التى تحاول تأجيج التوتر، لتحقيق أهداف قصيرة الأجل، أن تتحمل عواقب وخيمة، فلا يمكن لإثيوبيا أن تتسامح مع هذه الإجراءات التى تهدد المكاسب المتحققة»، مع أن عملية إرسال مصر معدات عسكرية وجنود إلى الصومال، جاء فى ضوء بروتوكول تعاون دفاعى بين البلدين، والعمل ضمن خطة إعادة تنظيم استراتيجى واسع النطاق بمنطقة القرن الإفريقى، لكن إثيوبيا اعتبرته مصدر «تهديد» لأمنها القومى، «لن تقف أمامه مكتوفة الأيدى»، محذرة مقديشو من «التواطؤ مع جهات خارجية تهدف إلى زعزعة استقرار المنطقة»!.
لقد جاء توقيع القاهرة ومقديشو، الشهر الماضى، اتفاق تعاون عسكرى بينهما، وإعلان مصر عزمها المشاركة فى قوات لحفظ السلام داخل الصومال، تبدأ مهامها مطلع العام المقبل، بعد رفض الحكومة الصومالية تمديد مهمة بعثة الاتحاد الإفريقى الانتقالية لديها، والتى تشارك فيها أديس أبابا، بعد أشهر من توقيع الحكومة الإثيوبية، خلال يناير الماضى، اتفاقًا مبدئيًا مع إقليم أرض الصومال «الانفصالى»، تحصل بموجبه أديس أبابا على منفذ بحرى، يتضمن ميناءً تجاريًا وقاعدة عسكرية فى منطقة بربرة لمدة خمسين عامًا، مقابل اعتراف إثيوبيا بالإقليم غير المعترف به دوليًا كـ«دولة مستقلة»، وهو ما اعتبرته القاهرة «مخالفًا للقانون الدولى، واعتداءً على السيادة الصومالية.. وأنها لن تسمح بتهديد الصومال أو أمنه».
المساعدات العسكرية للصومال والحضور المصرى لديها، يأتى ضمن اتفاق رسمى بين البلدين، وضمن سياق أوسع تحت مظلة الاتحاد الإفريقى، الذى دعم ورحب بمشاركة القاهرة ضمن قوات حفظ السلام، فى ذلك البلد الذى يعانى تحديات أمنية وعسكرية واسعة، تحتاج إلى تضافر كل الجهود لمجابهتها.. بمقتضى تلك السياقات، تحركت مصر لتعزيز وجودها العسكرى فى الصومال.. وهنا، من الضرورى عدم المساواة بين تلك الخطوات والتحركات، التى تأتى ضمن قواعد القانون الدولى، والعلاقات الطيبة بين الدول القائمة على احترام السيادة المتبادلة، والحفاظ على وحدة وسلامة الأوطان، وتلك التى تهدف إلى زعزعة الاستقرار وتهديد سيادة ومصالح دول الجوار، مثل الاتفاق الذى وقعته الحكومة الإثيوبية أوائل العام الحالى مع إقليم أرض الصومال الانفصالى، وواجه رفضًا وتنديدًا صوماليًا ومصريًا، وعلى مستوى الإقليم.. وتأتى، أى المساعدات، خطوة لا تستهدف دولة بعينها، وإنما جاءت مرتكزة على قواعد القانون الدولى، والعلاقات الثنائية الطيبة التى تجمع القاهرة بمقديشو، سواء ضمن الإطار العربى أو الإطار الإفريقى.
وهذا ما أكده الرئيس السيسى ثانية، بقوله: «رسالتى للإثيوبيين، التعاون مع الصومال وجيبوتى متاح بالوسائل التقليدية، لا أحد يرفض التعاون.. محاولة القفز على أى أرض من الأراضى للاستيلاء عليها لن يوافق عليه أحد.. الصومال دولة عربية، لها حق الدفاع المشترك وفق ميثاق الجامعة العربية، لا نهدد أحدًا ولن نسمح لأحد أن يهدد الصومال.. وشدد: «محدش يجرب مصر ويهدد أشقاءها، وخصوصًا لو طلبوا إننا نبقى موجودين معاهم»، ثم خاطب نظيره الصومالى بالقول: «اطمئن، بفضل الله نحن معكم، ونقول للدنيا كلها نتعاون ونتحاور بعيدًا عن أى تهديد.. ستتقدم مصر للمشاركة فى بعثة قوات حفظ السلام بالصومال هذا العام.. والأمر متروك للدولة المستضيفة ـ الصومال ـ وإن كانت ترغب أن نكون موجودين، فسنكون».
وهنا قد يتساءل البعض، عن أهمية هذه الخطوة فى الحفاظ على الأمن القومى المصرى، من الأخطار المتعددة التى تحدق به فى منطقة القرن الإفريقى.
إنه ومن مبدأ تبادل المصالح بين الدول، ودور التعاون المشترك فى تحقيق تلك المصالح، على مبدأ «لا ضرر ولا ضِرار»، فإن المراقبين والمتابعين لشئون القرن الإفريقى يرون أن وجود القاهرة عسكريًا فى الصومال، وفق اتفاقات ثنائية أو أطر متعددة العلاقات، «خطوة استراتيجية» بالنسبة إلى مصر على صعيد الدفاع عن مصالحها، ومهددات أمنها القومى فى منطقة مضطربة وهشة بالأساس، وهذه الخطوة، لا ينبغى لإثيوبيا أن تنظر إليها من باب التصعيد، بل لإعادة قراءة سياساتها وتوجهاتها الخارجية المتبعة خلال الأعوام الأخيرة.. فالموقف المصرى مستند إلى اعتبارات عديدة، منها ما يتعلق بالأمن القومى المصرى، سواء فى إطاره الثنائى مع الصومال ومصالح القاهرة فى البحر الأحمر، أو الإطار العربى بالنظر إلى معاهدة الدفاع العربى المشترك، وكذلك الإطار الإفريقى ومهام حفظ السلام فى الصومال، وهى كلها أطر قانونية تمنح البلدين فرصًا ليعززا من تعاونهما العسكرى، سواء فى مجال التدريب أو التسليح أو نقل المعلومات الاستخباراتية.
وعند النظر إلى حجم الأخطار الأمنية والعسكرية التى تهدد تلك المنطقة، والمتمثلة فى «تعدد الصراعات الحدودية بين دول القرن الإفريقى، فضلًا عن معاناة دول من صراعات داخلية ونزعات انفصالية، وهشاشة الأنظمة الحاكمة، نجد أنه خلق انتشارًا واسعًا للإرهاب والجريمة المنظمة، والذى باتت معه المصالح المصرية مهددة بصورة مباشرة.. إضافة إلى ذلك، فإن هناك تنافسًا كبيرًا بين الدول الإقليمية الكبرى، ودول من خارج الإقليم على هذه المنطقة.. وعليه، فإن كل المعطيات تنذر بأن الفترة المقبلة فى هذه المنطقة ستشهد عدم استقرار، ومصر فى حاجة إلى الوجود للحفاظ على مصالحها.. مصر توجد فى الصومال، لأن أمنها القومى يصل إلى هذه المنطقة، ويشكل تحديًا كبيرًا، سواء فى البحر الأحمر أو من ناحية سد النهضة على نهر النيل، وربما يعمل هذا الوجود العسكرى كرسالة ردع مباشرة، تستطيع الدولة المصرية من خلالها، الحفاظ على مصالحها دون تصعيد.. فالقاهرة لم تذهب إلى الصومال لـ«المكايدة السياسية فى إثيوبيا، وإنما لتأمين مصالحها الحيوية، ضمن الأهداف التى سبق الحديث عنها».
وهو نفس ما يراه الباحث والكاتب السودانى، كمال كرار، من أنه «ينبغى النظر إلى البروتوكول العسكرى الموقع بين مصر والصومال من خلال أمرين.. الأول، قدرته على تعزيز القدرات العسكرية لمقديشو، فى مواجهة التحديات الداخلية والحفاظ على سيادتها... والأمر الثانى، ارتباطه الوثيق بالنزاع الإثيوبى الصومالى بعد توقيع أديس أبابا اتفاقًا مع إقليم أرض الصومال»، مؤكدًا أن «استراتيجية مصر الأمنية الآن تشهد تحولًا كبيرًا، خصوصًا مع اتساع دائرة الأخطار والتحديات الأمنية التى تحاصرها، على جميع الجبهات الاستراتيجية وتهدد أمنها القومى، ولهذا أرادت أن تقول لإثيوبيا رسالة مفادها، أن ذراع مصر الطويلة قادرة على أن تهدد مصالح إثيوبيا فى المنطقة»، إن أرادت ذلك.
وفى المقابل، ومع استبعاده خروج التوترات بين القاهرة وأديس أبابا عن السيطرة، ووصولها حد الاصطدام العسكرى، أعرب كرار، عن اعتقاده «باحتمالات سخونة الأجواء بين البلدين، وإبقائها فى حال استنفار.. فإن الدلائل تشير إلى أن البروتوكول العسكرى بين مصر والصومال موجه بطريقة مباشرة نحو الاتفاق الإثيوبى مع أرض الصومال، وقطعًا هذا البروتوكول سيزيد التوتر فى المنطقة المشحونة بالنزاعات»، لكن القاهرة ترى فى خطوتها «إنجازًا وتكتيكًا فى مواجهة أديس أبابا، التى هددت أمنها المائى على مدار أعوام بسبب سد النهضة، إلا أن الخطوة تأتى خلال وقت تعانى فيه إثيوبيا أزمات داخلية وحروبًا أهلية، مرشحة للانفجار فى أى وقت، مما قد يزيد من احتمالات تفجر الأوضاع».
وأمام الرؤية المصرية الاستراتيجية للحفاظ على ما يقول عنه المراقبون «مصالحها الاستراتيجية وأمنها القومى»، يبقى السؤال مفتوحًا، حول مدى تعاطى أديس أبابا مع الخطوة، التى وصفتها بأنها مصدر تهديد لأمنها القومى ولن تقف أمامها مكتوفة الأيدى.. وعدَّت أن تطورات الأحداث تقود المنطقة إلى «المجهول»، ولم تقف عند حد بيان وزارة خارجيتها، بل قررت تعيين سفير لها فى إقليم أرض الصومال، تسلم موسى بيحى عبده، أوراق اعتماده، فى خطوة تزيد التوتر بين الدول الثلاث مصر والصومال وإثيوبيا.. وقررت أديس أبابا غلق بوابات سد النهضة فجأة، بعد أربعة أيام فقط من فتح بعض بوابات المفيض العلوية، بتدفق يومى نحو مليونين ونصف المليون متر مكعب لمصر والسودان، مما يعنى وقف تدفق المياه لدولتى المصب، واستمرار التخزين الخامس، الذى يجرى حاليًا دون تنسيق مع القاهرة والخرطوم، لأسباب قد تكون فنية أو سياسية.. الأمر الذى أدى بوزير الخارجية والهجرة إلى توجيه خطاب إلى رئيس مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، أكد فيه رفض مصر القاطع للسياسات الأحادية الإثيوبية المخالفة لقواعد ومبادئ القانون الدولى، والتى تُشكل خرقًا صريحًا لاتفاق إعلان المبادئ الموقع بين مصر والسودان وإثيوبيا فى عام 2015 والبيان الرئاسى لمجلس الأمن الصادر فى 15 سبتمبر 2021، منوهًا بأن تصريحات رئيس الوزراء الإثيوبى، أبى أحمد، حول حجز كمية من مياه النيل الأزرق هذا العام، واستكمال بناء الهيكل الخرسانى للسد الإثيوبى، تُعد غير مقبولة جملة وتفصيلًا للدولة المصرية.
هذه الممارسات، تعد استمرارًا للنهج الإثيوبى المثير للقلاقل مع جيرانها، والمُهدد لاستقرار الإقليم الذى تطمح أغلب دوله لتعزيز التعاون والتكامل فيما بينها، بدلًا من زرع بذور الفتن والاختلافات بين شعوب تربطها وشائج الأخوة والمصير المشترك.. وأوضح الخطاب المصرى لمجلس الأمن، أن انتهاء مسارات المفاوضات بشأن سد النهضة، بعد ثلاثة عشر عامًا من التفاوض بنوايا مصرية صادقة، جاء بعدما وضح للجميع، أن أديس أبابا ترغب فقط فى استمرار وجود غطاء تفاوضى، لأمد غير منظور بغرض تكريس الأمر الواقع، دون وجود إرادة سياسية لديها للتوصل لحل، وتسعى إثيوبيا لإضفاء الشرعية على سياساتها الأحادية المناقضة للقانون الدولى، والتستر خلف ادعاءات لا أساس لها، أن تلك السياسات تنطلق من حق الشعوب فى التنمية.. مع أن مصر كانت فى طليعة الدول الداعمة للتنمية بدول حوض النيل، وأن التنمية تتحقق للجميع، فى حالة الالتزام بالممارسات التعاونية المنعكسة فى القانون الدولى، وعدم الإضرار بالغير وتعزيز الترابط الإقليمى.
■■ وبعد..
فإننا نرى أنه من العقل أن تُبدى إثيوبيا مزيدًا من التعاون، فى المشكلات والتحديات المتداخلة معها فى دول الجوار أو نهر النيل.. أما إذا أرادت التصعيد، فعليها تحمل تبعات ذلك، إذ سيقود أى تصعيد آخر، منطقة القرن الإفريقى إلى مزيد من التدهور والصراع وعدم الاستقرار.. وعلى الباغى تدور الدوائر.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.