رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

السودان.. كارثة إنسانية يتجاهلها العالم

الحرب الإسرائيلية المدمرة فى قطاع غزة، والاجتياح الموسع لمدن الضفة الغربية، ليست وحدها التهديات التى تشهدها منطقة الشرق الأوسط، وإن كانت هى التى تحظى مع الحرب الروسية الأوكرانية بالاهتمام العالمى الواسع، بل هناك الحرب الدائرة فى السودان، بين الجيش الوطنى وميليشيات الدعم السريع، التى بالرغم من فداحتها فإنها لا تحظى إلا بالقليل من الاهتمام، رغم مرور أكثر من عام على اندلاعها، للدرجة التى حذرت معها الأمم المتحدة، من أن السودان سيواجه قريبًا أكبر أزمة جوع فى العالم، فيما تنتقد منظمات دولية ما تعتبره «صمتًا» دوليًا إزاء الوضع فى السودان، ما ينذر بانزلاق الأمور فى البلد الممزق بالحرب إلى الأسوأ.. ويؤكد المطلعون على الأحداث أن قائمة الفظائع التى ما زالت تُرتكب فى السودان طويلة وتتسع بمرور الوقت، مستشهدين فى ذلك بسلسلة من الأحداث المأساوية التى ترتكبها قوات الدعم السريع، أبرزها قصف مستشفى للولادة فى مدينة الفاشر عاصمة شمال دارفور ما أدى إلى خروجها عن الخدمة، وقصف مخيمات تؤوى نازحين، وارتكاب إعدامات جماعية.
وقد نددت منظمات حقوقية بمنع هذه القوات لدخول المساعدات الإنسانية إلى المناطق المنكوبة، وارتكابها جرائم جنسية بشكل منهجى وجرائم حرب أخرى، مشيرة إلى أن أكثر من ستة عشر ألف شخص قتلوا منذ بدء الحرب الأهلية فى السودان.. وتسبب الصراع هناك فى أسوأ أزمة نزوح داخلى فى العالم، إذ تشرد قرابة عشرة ملايين شخص عن ديارهم، بحثًا عن الأمان مع اتساع وتيرة القتال وتزايد ضراوتها.. وتقول الأمم المتحدة إن القتال فى السودان تسبب فى نزوح أكثر من ستة ملايين شخص داخليًا، وفرار قرابة مليونى لاجئ إلى دول الجوار، بينهم أكثر من نصف مليون لاجئ سودانى فى مصر وحدها.. وقبل فترة، حذرت المنظمة الدولية للهجرة من أن 70% من الأشخاص الذين أُجبروا على النزوح فى السودان، يحاولون البقاء على قيد الحياة فى أماكن معرضة لخطر المجاعة، لأن وصول المساعدات الإنسانية «غير مكتمل أو غير موجود»، رغم دعوة مجلس الأمن الدولى إلى وقف محدود لإطلاق النار، فيما تدق منظمات إنسانية وإغاثية ناقوس الخطر من أن الوضع يتفاقم بمرور الوقت.
ومنذ منتصف أبريل من العام الماضى، ما زال القتال مستمرًا بين قوات الجيش بقيادة الفريق أول عبدالفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع، بزعامة محمد حمدان دقلو، المعروف بـ«حميدتى»، على وقع الخلاف حول تقاسم السلطة فى أعقاب أحداث عام 2021.. وقد أسفر القتال المستمر عن خسائر بشرية ومادية فادحة.. ويقدر الجيش السودانى بحوالى مائتى ألف عنصر، فيما يقدر عدد قوات الدعم السريع بما بين سبعين ألفًا إلى مائة ألف فرد، لكنها على النقيض من الجيش، تعمل على غرار جماعات حرب عصابات.. وحققت قوات الدعم السريع فى الآونة الأخيرة مكاسب غرب دارفور، خصوصًا سيطرتها على مدينة مليط، شمالى مدينة الفاشر، ذات الأهمية الاستراتيجية، بما عزز من حصارها لعاصمة شمال دارفور، التى باتت تؤوى أكثر من مليون ونصف المليون نازح، حتى قال الناطق الرسمى باسم منسقية النازحين واللاجئين فى السودان، آدم رجال، إن المجتمع السودانى بات الخاسر الوحيد، إذ فقد الناس كل شىء.. وتعجز الكلمات عن وصف خطورة الأزمة.
ورغم تفاقم الصراع فى السودان فإن ثمة تجاهلًا وصمتًا دوليين إزاء الوضع فى البلاد.. فمع مرور أكثر من عام على الصراع، تعهد المجتمعون فى مؤتمر باريس حول السودان فى أبريل من العام الماضى بتقديم 2.1 مليار دولار كمساعدات إنسانية إضافية للسودان.. ومع ذلك، قالت الأمم المتحدة فى منتصف مايو الماضى، إنها لم تتلق إلا 12% من تمويل بقيمة 2.7 مليار دولار، طلبته لمساعدة السودان.. وفى مقابلة مع مجلة «فورين بوليسى»، قال آلان بوسويل، الخبير فى مجموعة الأزمات الدولية: «ليس أمامك سوى مشاهدة مستوى التركيز المنصب على أزمات مثل غزة وأوكرانيا، وتتساءل عما يمكن أن يسفر عنه 5% فقط من التركيز الدولى على السودان، وكم كان من الممكن إنقاذ عشرات الآلاف من الأرواح»، وانتقدت السفيرة الأمريكية لدى الأمم المتحدة، ليندا توماس جرينفيلد، ما اعتبرته «صمتًا لا يُغتفر» على الحرب الأهلية التى حوّلت السودان إلى جحيم لا يُطاق، وبالرغم تصنيف منظمات الإغاثة الأزمة الإنسانية فى السودان على أنها واحدة من بين أسوأ الأزمات فى العالم، فإن القليل من الاهتمام أو الدعم يُبذل لمساعدة للشعب السودانى.
فبماذا نفسر عدم الاهتمام الدولى بالوضع فى السودان؟
إن العالم يعيش حالة تشبه «بالخدر النفسى»، الذى يشير إلى حقيقة مفادها أن الشعوب تشعر بمستوى كبير من اللا مبالاة، تجاه أى مأساة مع تزايد عدد ضحاياها، كما كتبت وكيلة الأمين العام للأمم المتحدة للاتصالات العالمية، ميليسا فليمنج، فى مقال رأى، سلطت فيه الضوء على الأسباب وراء عدم الاهتمام الدولى بالوضع فى السودان.. موضحة أن تزامن وقوع أزمات عديدة فى الوقت ذاته يتسبب فى نوع من التخدير، وما أكثر حولنا من أزمات، تغير المناخ والصراع فى غزة، والحرب الروسية فى أوكرانيا، والوضع فى ليبيا، واستهداف السفن فى البحر الأحمر، وغيرها.. وفيما يتعلق بالوضع فى السودان، فقد كشفت بعض الأبحاث عن أن الحروب الأهلية، خصوصًا تلك التى يُنظر إليها باعتبارها شأنًا داخليًا، تحظى باهتمام أقل من الصراعات الإقليمية.
فى حين يرى رومان ديكيرت، الباحث فى منظمة «الإعلام فى التعاون والانتقال» ببرلين، أن الأمر يرتبط فى بعض الجوانب «بمدى تعقيد الوضع فى السودان، حيث من غير الواضح فى رأيه ما إذا كان أيًا من الطرفين طيبًا أم شريرًا.. يرتبط الأمر أيضًا بفكرة راسخة أو فكرة دفينة فى اللا وعى، أو ربما عنصرية أو نزعة مركزية أوروبية، حيث ينظر الغرباء بشكل غير صحيح، إلى أن القتال بطريقة أو بأخرى أمر غير حضارى».. ويذكرنا، بأنه مع بدء تخصصه فى مراقبة الشأن السودانى، كان الاهتمام الدولى منصبًا على الحرب فى يوغوسلافيا السابقة، أكثر من المجاعة التى بدأت فى الظهور بإقليم دارفور فى ذاك الوقت.. «أتذكر فى تلك الفترة حديث صحفية ألمانية عن هذا الأمر فى أحد المؤتمرات، حيث قالت إن المشهد فى يوغوسلافيا يشبه مناطق أوروبا الوسطى، فالناس يشبهوننا والمنازل تشبه منازلنا.. لذلك يمكن نقل القصة إلى الناس بشكل أكثر سهولة.. الأمر يشبه إلى حد كبير الأزمة الحالية فى أوكرانيا».. وبالتالى، فما دامت إسرائيل تخوض حربًا فى قطاع غزة، وتدعمها الولايات المتحدة إلى حد الشراكة فى الحرب المدمرة هناك، فكان طبيعيًا أن تكون محط اهتمام الرأى العام العالمى.
وأشار ديكيرت، إلى عامل آخر يتمثل فى انخراط أطراف إقليمية فى الصراع بالسودان، فيما تعتبر الدول الغربية هذه الأطراف ذات أهمية استراتيجية أو تجارية.. فالسعودية ومصر تدعمان الجيش السودانى، فيما تصطف الإمارات فى رأيه إلى جانب قوات الدعم السريع، مما يمثل «حقيقة غير مريحة» لحلفاء هذه الدول فى العالم الغربى.. ومع ذلك، فإن إيلاء المزيد من الاهتمام الدولى للوضع فى السودان سوف يصب فى صالح الجهود الدبلوماسية الرامية إلى إنهاء الأزمة الراهنة، أو مساعدة العاملين فى المجال الإنسانى، الذين يواجهون تحديات جسام فى العمل داخل السودان.. وقد كشفت دارسة، أُجريت عام 2021، عن أنه رغم أن القرارات السنوية المتعلقة بتمويل المساعدات الإنسانية يتم اتخاذها فى وقت مبكر فإن التركيز الإعلامى المفاجئ على مستوى دول العالم، يمكن أن يسهم فى زيادة المساعدات الإنسانية الطارئة المخصصة للأزمات الدولية.
ورغم كل تلك الآراء فإن الجهود المصرية المبذولة فى وقف الحرب فى دولة السودان الشقيق ما زالت مستمرة، انطلاقًا من الروابط التاريخية والاجتماعية الأخوية والعميقة، التى تربط بين الشعبين المصرى والسودانى، وتأسيسًا على التزام مصر بدعم كل جهود تحقيق السلام والاستقرار فى السودان.. وآخرها استضافة القاهرة مؤتمر القوى السياسية والمدنية السودانية، لبحث سبل إنهاء الأزمة الراهنة، فى إطار حرص القيادة السياسية المصرية، على بذل كل الجهود الممكنة لمساعدة السودان على تجاوز الأزمة التى يمر بها، ومعالجة تداعياتها الخطيرة على الشعب السودانى وأمن واستقرار المنطقة، لا سيما دول جوار السودان.
وقد أوضحت مصر، على لسان وزير خارجيتها، د. بدر عبدالعاطى، خطورة الأزمة الراهنة التى يواجهها السودان الشقيق، وتداعياتها الكارثية التى تتطلب الوقف الفورى والمستدام للعمليات العسكرية، حفاظًا على مقدرات الشعب السودانى الشقيق ومؤسسات الدولة، وبما يتيح الاستجابة الإنسانية الجادة والمنسقة والسريعة من كل أطراف المجتمع الدولى، والتوصل لحل سياسى شامل يستجيب لآمال وتطلعات الشعب السودانى.. وطالبت كل أطراف المجتمع الدولى بالوفاء بتعهداتها، التى أعلنت عن التزامها بها فى المؤتمر الإغاثى لدعم السودان، الذى عُقد خلال يونيو ٢٠٢٣ فى جنيف، وكذلك المؤتمر الدولى لدعم السودان ودول الجوار الذى عُقد فى باريس منتصف أبريل ٢٠٢٤، لسد الفجوة التمويلية القائمة، والتى تناهز ٧٥٪ من إجمالى الاحتياجات، مع تكثيف مصر اتصالاتها مع كل المنظمات الإنسانية متعددة الأطراف، لدعم دول الجوار الأكثر تضررًا من التبعات السلبية للأزمة.
واستعرض الدكتور عبدالعاطى جهود مصر الإنسانية مند بدء الأزمة، حيث استقبلت مئات الآلاف من الأشقاء السودانيين الذين انضموا إلى ما يقرب من خمسة ملايين مواطن سودانى يعيشون فى مصر منذ سنين عديدة. كما قدمت الحكومة المصرية مساعدات إغاثية عاجلة، تضمنت مواد غذائية وإعاشية ومستلزمات طبية، للأشقاء السودانيين المتضررين من النزاع داخل الأراضى السودانية، بالإضافة إلى استمرارها فى عدد من المشروعات التنموية لتوفير الخدمات الأساسية لهم، كمشروع الربط الكهربائى، وإعادة بناء وتطوير ميناء وادى حلفا.
- وبعد..
فإن مصر ستستمر فى بذل كل ما فى وسعها، بالتعاون مع كل الأطراف، لوقف نزيف الدم السودانى الغالى، والحفاظ على مكتسبات شعب السودان، والمساعدة فى تحقيق تطلعات شعبه، والعمل على تسهيل نفاذ المساعدات الإنسانية المقدمة من الدول المانحة للسودان عبر الأراضى المصرية.. مؤكدة على أن أى حل سياسى حقيقى للأزمة فى السودان، لا بد أن يستند إلى رؤية سودانية خالصة، تنبع من السودانيين أنفسهم، ودون إملاءات أو ضغوط خارجية، وبتسهيل من المؤسسات الدولية والإقليمية، وعلى رأسها الاتحاد الإفريقى وجامعة الدول العربية ومنظمة الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبى، والدول الشقيقة والصديقة المهتمة بالسودان.. فالنزاع الراهن هو قضية سودانية بالأساس، وأى عملية سياسية مستقبلية ينبغى أن تشمل كل الأطراف الوطنية الفاعلة على الساحة السودانية، فى إطار احترام مبادئ سيادة السودان ووحدة وسلامة أراضيه، وعدم التدخل فى شئونه الداخلية، والحفاظ على الدولة ومؤسساتها، خصوصًا الحفاظ على وحدة القوات المسلحة السودانية، لدورها فى حماية السودان والحفاظ على سلامة مواطنيه.. وستظل مصر، دائمًا وأبدًا، داعمة لكل الجهود الساعية لعودة الاستقرار والتقدم والازدهار للسودان الشقيق، وعلى كل الأطراف السودانية إعلاء مصلحة الوطن.. حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.