من المجهول إلى الخلود.. الجواري ومساهمتهن في إثراء التراث الفني العربي
لعبت الجواري دورا كبيرا، في ازدهار الرقص الشعبي، أحد عناصر الثقافة الشعبية المنبثقة من لغة الجسد وذلك من خلال ترتيب وتنظيم لجمل حركية تعبيرية تفيد المعنى منها لفئاتها داخل المجتمع، وساعد ذلك على حدوث تطورا في معظم أقسامه، مما أدى إلى تغير ملحوظ في أشكال تعبيرية حركية يمكن رصدها داخل فئات الجواري في عصور الخلافة، خاصة وأن الرقص الشعبي مثله مثل كتابة الشعر المنبثق من اللغة وذلك من خلال تنظيم لجمل لغوية تفيد المعنى منها في المجتمع، والفارق بينهما هو أن الرقص الشعبي شعر جسدي يُكتب في الهواء، وكلما كانت خطواته تجريدية وصل المعنى منها سريعا للمتلقي من خلال حاسة الرؤية، أما الشعر فهو منطوق لغوي يُكتب على رُقَع، وكلما امتلأ بالتورية واللعب بالألفاظ تطرب له الآذان، وكلا الإثنين لهما تأثيرهما الخاص على مشاعر وأحاسيس متلقيهما.
حكايات من وراء القضبان
وكشف الباحث الدكتور تامر يحيى، المسؤول والمشرف على فعاليات الرقص الشعبي في إقليم شرق إفريقيا بالمنظمة الدولية للرقص الشعبي باليونيسكو "IOV"، أشكال فنون الحركة في عصور الخلافة، مؤكدًا أن في هذا الوقت كانت الجواري لهن تأثيرا شديدا في هذه الفنون، ويعود هذا إلى تعدد ثقافات فئات الجواري التي انصهرت مع بعضها البعض وأنتجت هذا الكم من الفنون والذي ضمنه هذه الفنون التعبيرية الجمالية الحركية، وكم من صعوبة واجهها الكثير من الباحثين لدى محاولاتهم الوصول إلى أشكال التعبير الحركي في فئات الجواري، نظرا لقلة بل وندرة الكتابات في هذا المضمار.
وأكد تامر يحيى، أن هناك ما لا يعد ولا يحصى من مراجع ومخطوطات تحدثت عن كل كبيرة وصغيرة في حياة الجواري في تلك العصور، إلا أنه لم يأتي شرح لفنون التعبير الحركي فيما كُتب وتُرك لعدة أسباب على رأسها الاهتمام بالكلمة في اللغة، فقد كان الشعر وغنائه على أولويات الفِكر الجمعي في ذلك الزمان، هذا بالإضافة إلى عادات العرب التي ربطت أشكال الرقص بالأنوثة والخلاعة والمجون، حتى إن معظم القبائل العربية تطلق لفظ (لعب) على أشكال الرقص كتعبير حركي للرجال حتى الآن، كما إن معظم أداء رقصات الجواري في الاحتفالات قديما يتخللها الكثير من المرح والمجون التي كانت تثير غرائز من يحضرها أو يوثقها، وقد جُعل لها الأولوية أكثر مما يُكتب عن طُرق أداء الرقص بداخلها، لافتا إلى أن الرقص مرتبط بالإيقاع سواء الداخلي أو الخارجي الناتج عن حدث ما، ويؤدى على نغم ناتج إما من خلال لحن شعري أو موسيقي له تأثير مباشر على أحاسيس ومشاعر مستمعيه، فيتفاعلون معه للدرجة التي تجعل أجسادهم تؤدى تعبيرا إيمائيا أو حركيا وما يفيد المعنى من هذا التفاعل.
سجينات الجمال
وأوضح يحيى أنه اتخذ حياة الجواري، مفتاح له لتحديد ومعرفة أشكال الرقص في تلك العصور، ووجد أن هناك عدة أشكال من الرقص منها (الموشحات الأندلسية)، و(رقصات الغنج)، بالإضافة إلى شكلين أو نوعين آخرين من الرقص حدث بينهما خلط شديد- ما زال تأثيره واضحا حتى الآن- نظرا لتقارب أشكال خطواتهما مما أدى إلى عدم وضوح المعنى منهما وهما الرقص الشرقي (Oriental Dance) الذي تتكون معظم خطواته من تطوير لخطوات الرقص الشعبي بالإضافة إلى القليل من الخطوات الحركية المشيرة إلى الإباحية الغريزية، وهذا الشكل من التعبير الحركي منتشر في معظم الحفلات والأفراح العامة التي ترتادها وتقبل على رؤيتها الأسر كاملة من سيدات ورجال وأطفال، والشكل الثاني رقصات البطن (Belly Dance) والذي تتكون معظم خطواته من خطوات إباحية غريزية بالإضافة إلى القليل من خطوات الرقص الشعبي، وهذا الشكل من التعبير الحركي منتشرا في الحانات وأماكن اللهو التي يرتادها الكثير من الرجال، مؤكدًا أن هذين الشكلين من الأداء ما زالا منتشرين حتى الآن في معظم البلاد العربية تحت اسم الرقص الشرقي، ومن ناحية أخرى فهما منتشرين في معظم دول العالم أيضا ولكن تحت اسم رقصات البطن، كما نجد أن هذين الشكلين من الأداء كان لهما مكانهما في عصر الجواري، واقتصر تعلم الغناء وامتهانه أول الأمر على الإناث والذكور من العبيد والمحررين منهم الذين أطلق عليهم اسم الموالي، وكان أكثرهم من الفرس، وهذا ما يفسر سيادة موسيقى الفرس نغما واصطلاحا، فيما بعد، في موسيقى العرب لكثرة ما دخل منها عن طريق هؤلاء الموالي.
وأشار إلى أن العرب نسب الغناء للقيان حيث أنهم نسبوا الأغنية الأولى ليوبال بن قايين وكانت مرثاة لهابيل، وكانت حرفة الغناء والضرب بالعود في أيام الجاهلية مقتصرة على النساء، وكن يسمين القيان، وبقيت الحال كذلك في العقد الأول من العصر الإسلامي أي خلال فترة خلافتي أبى بكر وعمر، ولكن الحال تغير في عهد عثمان (644 – 656)، إذ ظهر في عهده المغنى المحترف صاحب الصنعة، ولعل الأمر يكون مرده فتح بيزنطة وفارس، وهما مدينتان شاع فيهما الغناء وترسخ شأنه، وتدفقت القيان والجواري من كل جانب ومكان حتى غدت بغداد تموج بهن، وهناك وصف كل صنف منهن كما رواه ابن بطلان في رسالته، أن المكيات: خنثات عرفن بدقة المعصم والمفصل والعيون الناعسة، واشتهرن بلون البياض المشرب بسمرة وشعورهن مجعدة، والمدنيات: سمر الألوان، معتدلات القوام، اجتمع فيهن حلاوة القول ونعومة الجسم، وملاحة الدلال وحسن الشكل، والورع الديني، والطائفيات: سمر مذهبات مجدولات، ينفردن بدقة الخصور وحلاوة الثغور، وطول الشعر وحسن القوام، والمصريات: ذوات شرف رفيع، ولطف وقصف، وميل إلى الفكاهة والمجون، والنبوغ في الغناء، والحبشيات: الغالب عليهن نعومة الأجسام ولينها وضعفها، لا يصلحن للغناء ولا الرقص، رقاق لا يوافقهن غير البلاد التي نشأن فيها، والسودانيات: عرفن بالخصر النحيل، والشعر الطويل والكفل الرجراج، والصوت الرقيق، والشاميات: اجتمع فيهن معاني الحسن، وبياض البشرة، وعيونهن ذات حلاوة، وقل ما توجد فيهن السمراء الفاتنة، والتركيات: عرفن بالبشرة البيضاء، والعيون الصغيرة الجذابة، وهن على حظ عظيم من النسك مع رقة الأنوثة، وجمال الوجه والعفة والحياء، وهن كنوز الأولاد ومعادن النسل، والفارسيات: لهن فضيلة على كل النساء، فأن الثيب منهن تعود كالبكر، والروميات: بيض شقر، سباط الشعر، زرق العيون، وقامتهن هيفاء، ذوات أدب وعبيد طاعة، وموافقة وخدمة ووفاء وأمانة، والهنديات: عرفن بحسن القوام، وسمرة اللون، ذوات جمال فتان صفرة وصفاء بشرة وطيب نكهة، ولكن الشيخوخة تسرع إليهن، والسنديات: يتفردن بدقة الخصور، وطول الشعور، وحسن التثنى والتغنج المعتاد، والبربريات: مطبوعات على الطاعة، والغالب منهن سود وصفر، ويصلحن للتوليد مع جودة الجنس، والأرمنيات: مليحات ألوانهن بيض محمرة، ولحومهن مكتنزة نشيطات للخدمة.
كما نجد لإبن بطلان شرح للزنجيات يقول فيه: "والزنجيات مساوئهن كثيرة، وكلما زاد سوادهن قبحت صورهن وتحددت أسنانهن وقل الانتفاع بهن، ولكن ليس في خلقهن الغم، فالرقص والإيقاع فطرة لهن، وطبع فيهن.
كيف انتقلت فنون الجواري من الحريم إلى المسارح العالمية؟
وتابع: "كان معظم سكان الدول المفتوحة يؤخذون ضمن السبي، وكانت القصور تزخر بالجواري اللائي يقدمن بثقافاتهن وغراباتهن، وكان هارون الرشيد يملك ألف جارية، أما المتوكل الذي حكم بين (232 و247 هـ) فقد كان له أربعة آلاف جارية، وغدا الحريم في كل قصر – موضعا للرفاهية، حيث كانت أجمل نساء العالم يتخذن من الثقافات المختلفة وإتقان المعارف المتنوعة أوراقا يغرين بها الخلفاء والوزراء، وعن السبايا في الحروب “يذكر ابن الأثير أن غنائم موسى بن نصير فاتح المغرب سنة 91 هجرية قد بلغت الألوف من السبايا، وأنه بعث خمسها إلى الخليفة الوليد بن عبد الملك، وقيل أن موسى بن نصير عندما جاء إلى دمشق استقدم معه ثلاثين ألفا من النساء القوطيات، وفي العهد الأموي (661 – 750 م) الذي اتسم بتطور ملحوظ في الغناء نجد إن التوسع وامتداد الرقعة الجغرافية التي بسطوا فيها ملكهم كان لها أثر كبير على أهل هذا الفن نتيجة تلاقح ثقافات البلاد التي دخلت في الإسلام، وما زالت صناعة الغناء تتدرج إلى أن كملت أيام بنى العباس عند إبراهيم بن المهدي وإبراهيم الموصلي وابنه إسحاق وابنه حماد، وكان من ذلك في دولتهم ببغداد ما تبعه الحديث بعده به وبمجالسه لهذا العهد وأمعنوا في اللهو واللعب واتخذت آلات الرقص في الملبس والقضبان والأشعار التي يترنم بها عليه، وجُعل صنفا وحده واتُخذت آلات أخرى للرقص تسمى بالكَرْج وهي تماثيل خيل مسرجة من الخشب معلقة بأطراف أقبية يلبسها النسوان ويحاكين بها امتطاء الخيل فيكرون ويفرون ويتثاقفون وأمثال ذلك من اللعب المُعَد للولائم والأعراس وأيام الأعياد ومجالس الفراغ واللهو. وكثر ذلك ببغداد وأمصار العراق وانتشر منها إلى غيرها”.
وأكمل: “ومن المدهش أنه في وقتنا الحالي نشاهد رقصات تؤدى من فرق الرقص الاستعراضي في مصر يستخدم فيها قناع على شكل حصان أو جمل، وهو مصنوع من مواد لينة ومسرج به قماش قريب الشبه بجسد الحصان أو الجمل يلبسه شابان واحد في الأمام والآخر في الخلف ويؤديان استعراض راقص ويقومون في أدائهم بمحاكاة أشكال حركات هذين الحيوانين”.
جدل تاريخي حول دورهن في الفنون العربية
وأردف أنه في عهد العباسيين ( 750 – 1258 م) وضعت بنودا صارمة من قبل الأمراء والخلفاء لانتقاء الجارية التي سوف تنتقل للعيش داخل قصورهم بعد التأكد من تخطيها هذه البنود بنجاح حتى يتم الموافقة عليها ليتسنى لها دخول هذه القصور والبقاء فيها لأطول فترة ممكنة، كما كانت هناك جنسيات محددة وأعراق بذاتها لاختيار وانتقاء الجارية، أما داخل القصور فقد كانت هناك عدة أقسام، كل قسم منها له مكانته وأعماله الخاصة المنوط بأدائها، إن هذه الأقسام مرجعها إما الجنسيات أو الأعراق، أو عند ظهور علامات خاصة في أسلوب وطريقة حياة الجارية مما يؤدي إلى اختيارها للدخول في أحد هذه الأقسام أو الانتقال من قسم لآخر. فهناك جنسية للخدم فقط، وجنسية يأتي منها نسلا صحيحا قويا، وهذا يكشف أن أهم عصر للفنون كان هو العصر العباسي الذي وصلت فيه فنون الغناء والموسيقى وغيرها إلى أعلى مستوياتها من الرقي، وفي عهد العباسيين أخذ نفوذ القيان يقوى ويزداد حتى أصبحت كلمتهن نافذة لا مراد لها، ولكن الخلفاء العباسيين تداركوا الأمر فشلوا حركتهن وأضعفوا شأنهن وأخذوا يفحصون اللواتي يدخلن في قصورهم، فإذا وجدوهن ذوات أسر ولهن أهل، امتنعوا عن شرائهن والبناء بهن، وكان الخليفة المنصور أكثر العباسيين تشددا في ذلك، لذا كانت القيان يعمدن إلى كتمان حقيقتهن حينما يدخلن في حوزة الخلفاء فإذا ولدن وأصبحن أمهات أولاد يكشفن عن سر نسبهن كما فعلت الجارية خيزران، وهذا يفسر المعنى من "لقب (أم ولد) والذي كان يطلق على الجارية أو الأمة التي تنجب من سيدها ومولاها، وهو يقابل لقب (أم البنين) بالنسبة للمرأة الحرة التي يتزوجها.
وأشار إلى أن العباسيين قسموا فئات الجواري إلى القهرمانة وهو لون من ألوان الجواري في المجتمع العباسي، مع أنها أرفع منزلة وشأنا في شريحة الجواري التي تنتمى إليها، لأن هذه التسمية كانت استعملت للإشارة إلى الوظيفة التي تخص الأمور المالية من الدخل والخرج في البلاط العباسي، والغلمان وهم الذين يشكلون طبقة الجند من العسكر، وهم عادة من أصول تركية من الفتيات الصغار اللاتي لم تتجاوز أعمارهن العشرين سنة، يحلقن رؤوسهن كالصبيان، ويرتدين ملابس الغلمان، والحظية والحظايا: وهي الجارية التي تبرز عن بقية أقرانها من الجواري، سواء لجمالها، أو لصنعتها، أو لصفة جميلة متميزة بها، والسراي، وهي الجارية التي تعزل في محل مستور من البيت، وهو ما كان يلجأ إليه عادة الرجال الأثرياء في العصر العباسي خوفا من غيرة أزواجهم عليهم من الجواري الجميلات، والرقيق: هم الذين يعملون في قصور الخلافة، ويقومون عادة بأعمال مختلفة، والقيان وهي الجارية المغنية؛ التي تتزين، وتعد نفسها للغناء.
وأكد: “لم تختلف أزياء وزينة القيان في العصر العباسي عما هو عليه اليوم من أزياء المغنيات والراقصات إلا في نقاط قليلة، حيث نجد أزياء الجواري كانت تجميلا بالثياب الملونة ضيقة كانت أو فضفاضة، وبالكحل والخضاب بالحناء وكن يضعن في أيديهن الأساور، وفي أصابعهن الخواتم، وفي سواعدهن الدمالج، وفي آذانهن الأقراط، وفي أرجلهن الخلاخيل، ويتحلين أحيانا بالسلاسل الذهبية والعقود الجوهرية، ويلبسن المآزر الحريرية، ويتخذن العصائب المزركشة المحلاة بالأشعار الرقيقة والعبارات الغرامية الشافية تطريزا عليها أو على الملابس، كما كن يطرزن مثل هذه الأشعار العاطفية على المناديل والوسائد والمراوح، ويكتبنها بالحناء على راحة الأيدي والأقدام، وهنا نجد أن الفارق أزياء الماضي من هذه الفئة وأزياء اليوم يكاد يكون في العصائب المزركشة المحلاة بالأشعار، حيث أنها لا تستخدم اليوم كما كان بالسابق، أما دون ذلك من الأزياء فما زال يستخدم وبنفس الطريقة والأسلوب”.
وأكمل: “إن اختلاف جنسيات الجواري في عصور الخلافة كان سببا رئيسا في التلاقح الثقافي الذي ساعد في التغير شديد الوضوح لتذوق الفنون خاصة الغناء والموسيقى والرقص والأزياء، ولقد ساعدت المنافسة بين أفراد كل قسم من أقسام هذه الفنون في التأكيد على وجوب تطورها للوصول إلى أعلى مستوى يجعل من الجارية أو القينة أو معلم الموسيقى والغناء نيل رضاء الحكام أو المريدين في مجالس الغناء، مما أعطى للفنون المزيد من الثراء، وربما لن نجد تغيرا كبيرا عند مقارنة هذه العصور بعصرنا الحديث إلا في زيادة الآلات الموسيقية الحديثة وسرعة اللحن الموسيقي مع تغير طريقة التلحين”.