رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

انهيار الصهيونية: قراءة فى مقال مُهم (الأخيرة)

انتهينا فى المقال السابق، المنشور تحت عنوان: «انهيار الصهيونية: قراءة فى مقال مهم ـ 3» من إجراء فحص متمعن لاختبار حيثيات المؤرخ، والناقد، والبروفيسور اليهودى المعروف «إيلان بابيه»: الصهيونى سابقًا، والمتمرد- حاليًا- على الصهيونية وكيانها؛ وعلى سردياتها المختلقة وعلى مُمارسات «الإبادة الجماعية» التى تسعى من خلالها إلى اجتثاث نقيضها التاريخى، شعب فلسطين، من الوجود المادى والمعنوى، ونزعه من أرضه وتاريخه، والتدبر فى رؤياه، التى تتوقع انهيار المشروع الصهيونى بالكامل، وتقديراته المذكورة فى نص مقاله المنشور بمجلة «اليسار الجديد» مؤخرًا، القائلة، بأن «إسرائيل» تشهد الآن «بدايات عملية تاريخية من المرجح أن تبلغ ذروتها بسقوط الصهيونية»، والمتضمنة تحذيره الواضح بأن «إسرائيل»، بمجرد إدراكها حجم الأزمة: «سوف تطلق العنان لقوة شرسة وغير مقيدة فى محاولة لاحتوائها، كما فعل نظام الفصل  فى جنوب إفريقيا خلال أيامه الأخيرة»!
متلازمة «الحرب والهرب»!
والمتتبع للجدل المتصاعد داخل مجتمع الكيان الصهيونى سيلحظ بوضوح ما يمكن أن يطلق عليه «متلازمة الأداء الكارثى فى حرب الإبادة على غزة تنامى وتيرة «الهجرة المعاكسة» من «إسرائيل» إلى خارجها»، فالكيان الصهيونى ليس تكوينًا طبيعيًا كأى دولة طبيعية التاريخ والمنشأ والمسار، فهى كيان مصطنع صنعته الدول الاستعمارية، وزرعته قسرًا فى أرض غريبة عنه وعن تشكيلته الديموجرافية المجمعة من أشتات من البشر فى أرجاء المعمورة، لا يجمعهم رابط الدم والمواطنة والتاريخ والجغرافية والتكوين والتقاليد.. إلخ، كسائر الدول والتجمعات الإنسانية الطبيعية، وفقط بواسطة رابطة الدين المزعومة كان يمكن التأثير فيهم، فأغلب قادة الكيان الصهيونى من «تيودور هرتزل» و«ديفيد بن جوريون» إلى «إسحق راين» و«بنيامين نتنياهو» كانوا ممن لا يؤمنون بالديانة اليهودية وطقوسها، لكنهم استخدموا الحافز الدينى كأداة للتجميع، واعتبروا التمسك بها مجرد وسيلة لحض اليهود باتجاه الهجرة إلى «أرض الميعاد».
وقد نجح هذا الحافز فى جذب جانب من يهود العالم، لترك أماكن إقامتهم والانتقال إلى الكيان الذى صوروه كطفل برىء يسعى للحياة وسط قطعان من الذئاب الضارية الكارهة وجوده، وساعدت نكسة 1967 فى ترسيخ هذه الصورة، فها هو «داوود» الفتى يهزم «جوليات» الطاغية الذى يسعى لفنائه! 
وفى ظل إغداق الغرب الرأسمالى بزعامة الولايات المتحدة، مليارات الدولارات بلا حساب، على الكيان الصهيونى المدلل، وتدريعه بأحدث الأسلحة، والسماح له دون غيره بامتلاك القنبلة النووية، ودعمه اقتصاديًا وتكنولوجيًا، «باعتباره حارس بوابة النفط الشرس، وممثل الهيمنة الأمريكية والغربية فى هذه المنطقة، بالغة الأهمية، من العالم»، جذب هذا الكيان المصطنع أعدادًا من يهود الخارج، بعضهم يحركه الهوس العقيدى، وآخرون بدافع أيديولوجى انتماءً لوهم تحقيق الـ«الحلم الصهيونى»، وآخرين للفوز بنصيب من البحبوحة الاقتصادية المتوافرة، والاستقرار السياسى المصطنع لـ«الديمقراطية الوحيدة وسط صحراء العرب القاحلة»!
والملاحظ أن هؤلاء وأولئك من أصحاب الجنسية الإسرائيلية، رغم كل ادعاءاتهم، لم يتخلوا عن جنسيتهم الأصلية، فقد ظلت أغلبيتهم الكاسحة من مزدوجى الجنسية، وكأنهم فى أعماق سريرتهم يعرفون أنهم يسرقون ما ليس لهم، وأنهم تاركوه لأصحابه مهما طال الزمن!  
شكوك موضوعية حول مستقبل «إسرائيل» ومصير الصهيونية
وهكذا فمع اشتعال الوضع بعد «طوفان الأقصى»، بدأت مرحلة «الهروب الكبير» إلى خارج الأرض، التى كانت «موعودة» فأصبحت «ملعونة»، ولعل أبرز وأوضح ما عبر عن عمق هذه المخاوف التى لفتت الأنظار، التقرير الذى نشرته صحيفة «يديعوت أحرونوت» الصهيونية «17 أغسطس الماضى»، وتداولته مواقع إلكترونية ووسائل إعلامية عديدة، تحت عنوان: «مليون إسرائيلى غادروا دولة الاحتلال و40% يفكرون بالهجرة»، ففيما يذكر تقرير لـ«وزارة الاستيعاب» الصهيونية أن عدد من غادروا «إسرائيل» واستقروا فى الخارج، منذ مطلع 2021، بلغ مجموعه 720 ألف مستوطن يهودى، كشف استطلاع أخير للرأى، أشارت إليه الجريدة، عن ارتفاع عدد المستوطنين الذين غادروا دولة الاحتلال إلى الخارج، مع ازدياد التهديدات الداخلية والمحيطة، واستمرار الحرب على غزة، وانخفاض مستوى المعيشة، وتفاقم حدة الانقسام الداخلى، وأشارت إلى أن «عدد الهاربين من الدولة وصل إلى مليون شخص منذ أكتوبر الفائت».
ونقلت الصحيفة عن جهاز «الإحصاء المركزى» أن هناك زيادة بنسبة 20% فى عدد المهاجرين من «إسرائيل» مقارنة بالعام الماضى، عدا عن انتشار ظاهرة إقامة تجمعات للإسرائيليين فى الخارج خلال العامين الماضيين، والإعلان عن تأسيس حركات وجمعيات شعارها «لنغادر معًا»، والتى استقطبت عشرات الآلاف من المستوطنين الإسرائيليين.
وكشفت عن نتائج استطلاع حديث للرأى بين الإسرائيليين، بين أن «40% منهم يُفكرون فى الهجرة المعاكسة، أى مغادرة فلسطين والعودة من حيث أتوا»، وتقول دراسة إحصائية صدرت عن «مركز تراث بيغن»، إن «59% من اليهود فى «إسرائيل» قد توجهوا؛ أو يفكرون بالتوجه إلى سفارات أجنبية، للاستفسار وتقديم طلبات للحصول على جنسيات أخرى، بينما أبدت 78% من العائلات اليهودية دعم أبنائها الشباب للسفر إلى الخارج»، مع ملاحظة أنه فى أوائل عام 2020، كان المتوقع- فى الإحصاءات الفلسطينية، كما الإسرائيلية أن يكون عدد اليهود فى فلسطين التاريخية قد وصل، إلى 6.9 ملايين نسمة، فى مقابل 7.2 ملايين عربى فلسطينى. 
ولمس الكاتب اليمينى «كالمان ليبسكيند»، فى مقال بصحيفة «معاريف» الإسرائيلية، أن المجتمع الإسرائيلى «أمام ظاهرة مُتصاعدة تتمثل فى نشوء طبقة متنامية من اليسار الإسرائيلى، تبتعد عن الصهيونية و«إسرائيل»، ويتراجع اهتمامها أقل فأقل بالدولة اليهودية، بل إنها نفسها تدير خطابًا نشِطًا يقظًا ضد المشروع الصهيونى بأكمله، يدعون- من خلاله- إلى إعادة قراءة أحداث النكبة، والدولة الفلسطينية، وحقيقة حدود «48 و67»، على حد تعبيره.
وهذ الوضع الحرج هو ما دعا رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلى السابق «نفتالى بينت»، إلى مُناشدة المستوطنين إلى عدم مغادرة «إسرائيل»، معبرًا عن قمة المخاوف الإسرائيلية من تبعات هذه الهجرة، مؤكدًا أن «إسرائيل»: «تمر بأصعب فترة منذ تأسيسها، حيث إرباك الحرب، والمقاطعة الدولية، وتضرر الردع، وبقاء 120 إسرائيليًا فى الأسر، وآلاف العائلات الثكلى، وآلاف المهجرين، وفقدان السيطرة على الاقتصاد والعجز. وقال بينت: «كل هذا صحيح بالكامل، لكن شيئًا واحدًا يقلقنى، وهو الحديث عن مغادرة البلاد»!
«دولة منبوذة» منقسمة على نفسها!
ويتوقع الكاتبان والمحللان الإسرائيليان «إيلان ز. بارون» و«إيلاى ز. سالتزمان»، فى دراسة بعنوان: «انفراط عقد إسرائيل: مستقبلًا قاتمًا ينتظر الدولة العبرية بعد الحرب فى غزة»، نشرتها مجلة «Foreign Affairs»، «18 أغسطس 2024»، أن يؤدى تفاقم نفوذ وأدوار وممارسات اليمين الدينى المتطرف فى «إسرائيل»، إلى استفحال مظاهر الانشقاق الداخلى، والعزلة الدولية، وتحول «إسرائيل» إلى «دولة منبوذة»، مكروهة عالميًا، وبما يحقق تنبؤات العالم والفيلسوف الإسرائيلى «يشعياهو ليبوفيتز»، التى أعلنها بعد حرب 1967، بتقديره أن انتقال «إسرائيل» إلى شيوع مشاعر «الفخر المتطرف الحماسى، من شأنه أن يؤدى إلى سقوط المشروع الإسرائيلى، مسفرًا عن ممارسات «وحشية»، وفى نهاية المطاف: نهاية الصهيونية»!
ومن الرؤى المهمة فى هذا السياق، ما عبر عنه الجنرال الإسرائيلى المتقاعد «إسحاق بريك» الذى يرى أن «حرب الاستنزاف المستمرة بين إسرائيل وحماس وحزب الله»: «لا تؤدى إلى انهيار حماس، وبالتأكيد ليس حزب الله، بل العكس هو الصحيح»، موضحًا أن هذه الحرب «تهدد بانهيار دولة إسرائيل» بسبب أربعة عوامل متشابكة:
أولًا: «جنود الاحتياط، الذين يتم استدعاؤهم مرارًا وتكرارًا، ويعانون من إرهاق شديد؛ ما ينذر بخطر فقدان جيش الاحتياط خلال فترة قصيرة».
ثانيًا: «حرب الاستنزاف المستمرة منذ عام تقريبًا، والتى ستؤدى إلى انهيار الاقتصاد الإسرائيلى».
ثالثًا: «تحول إسرائيل إلى دولة منبوذة ومعزولة بسبب الحرب المستمرة، حتى إن أصدقاءها فى دول أوروبا باتوا يديرون ظهورهم لها».
رابعًا: الأضرارالقاتلة التى ألحقتها حرب الاستنزاف بالوحدة الوطنية، حيث تتأجج الكراهية بين شرائح الشعب، وتهدد بإشعال الحرب الأهلية»، واختتم الجنرال الإسرائيلى المتقاعد «إسحاق بريك» مقاله بالقول إن «كل هذه العوامل تخدم مصالح حزب الله وإيران، عندما يقدم لهم نتنياهو وزملاؤه انهيار الدولة على طبق من فضة»! 
ويعيد الجنرال «بريك»، فى حديث للقناة 12 الإسرائيلية، التأكيد على أن «كل الطرق، على المستويين السياسى والعسكرى، تقود «إسرائيل» نحو الهاوية.. لقد دخلنا فى دوامة وجودية، وقريبًا ستصل إلى نقطة اللاعودة»!
ويؤمن الجنرال «عامى أيالون»، الرئيس الأسبق لجهاز الأمن الداخلى الإسرائيلى «الشاباك» على استنتاج الجنرال «إسحاق بريك»، مؤكدًا «إذا لم ننه الاحتلال فلن يكون لدينا أمن، وإذا لم ننه هذا الاحتلال، فلن تكون لدينا ديمقراطية، وهذه هى نهاية الحلم الصهيونى».. ويقول «إن «نتنياهو» يقود إسرائيل نحو نهاية الصهيونية». «الأهرام، 27 يونيو 2024»!
ويلخص الكاتب الإسرائيلى المعروف «آرى شبيت»، فى مقال كتبه فى جريدة «ها آرتس» الوضع فى الكيان الممزق،  بتركيز وتحديد: «يبدو أننا تجاوزنا نقطة اللاعودة، ولم تعد إسرائيل قادرة على إنهاء الاحتلال ووقف الاستيطان وتحقيق السلام، وعلينا أن نفعل ما اقترحه روجيل ألفر»قبل عامين، وهو مغادرة البلاد!
وإذا كان كل مواطن إسرائيلى لديه جواز سفر أجنبى، ليس فقط بالمعنى الفنى، بل أيضًا بالمعنى النفسى، فإن الأمر قد انتهى، عليك أن تقول وداعًا لأصدقائك وتنتقل إلى سان فرانسيسكو أو برلين أو باريس.
ومن هناك، من بلد القومية الألمانية المتطرفة الجديدة، أو دولة القومية الأمريكية المتطرفة الجديدة، عليك أن تنظر بهدوء وتشاهد دولة إسرائيل تلفظ أنفاسها الأخيرة».
***
ويبقى أن نتأمل بيتين، نقيضين، من الشعر العبرى والعربى:
الأول للشاعرالإسرائيلى «حاييم جورى»، يقول فيه:
«كل إسرائيلى يولد وفى داخله السكين الذى سيذبحه»!
والآخر والأخير: بيت شعر من قصيدة فلسطينية، لا أعرف من صاحبه، مكتوب بالدم الشريف على بقايا حائط متهدم لبناية فلسطينية فى غزة:
«عبثًا تحاول.. لا فناء لثائر»!
«الموت» و«الحياة»: موت «الباطل» الصهيونى، مقابل حياة «الحق الفلسطينى، إنهما معنيان متلازمتان، وجهان لعملة واحدة، مهما غلت الكلفة وتراكمت المصاعب. 
هكذا تخبرنا جدلية الوجود الإنسانى!