المواطنة تاريخيًا «1-2»
لا تزال المكتبة العربية قادرة على أن تتحفنا من وقتٍ لآخر ببعض الكتابات المنهجية المهمة، والدراسات التأسيسية فى تكوين الفكر العربى المعاصر. ومن أحدث هذه الدراسات «المواطنة والهوية: جدل النضال والإبداع فى مصر» للكاتب الكبير سمير مرقص، الذى يعتبر بحق أحد الرموز المعاصرة للفكر المصرى والعربى. ويُعد سمير مرقص من أهم المتخصصين فى موضوعات الحوار الإسلامى- المسيحى، لكن مشروعه الفكرى الأساسى يدور حول تأصيل مفهوم المواطنة فى مصر خاصةً، وفى العالم العربى بشكلٍ عام.
من هنا تأتى أهمية الكتاب الذى أشرنا إليه، والذى يصدر فى خضم فترة من أصعب الفترات التى تمر بها مصر، والعالم العربى فى التاريخ المعاصر. ويقع الكتاب فى أكثر من ٥٧٠ صفحة، ويتضمن العديد من الأبواب التى تنقسم بدورها إلى عدة فصول، من هنا يكون من الصعب علينا عرض أو حتى استعراض كل هذه المادة العلمية المهمة فى مجرد مقال محدد الكلمات. لذلك اخترنا إحدى أهم الدراسات فى هذا الكتاب لإلقاء الضوء على ما وصل إليه المؤلف فى هذا الشأن.
«تجربة فى التأريخ من منظور المواطنة» هذا هو الفصل الذى اخترنا أن نعرضه فى هذا المقال، بالقطع بحكم التخصص الدقيق لكاتب المقال، ولكن أيضًا لأهمية هذا المدخل فى دراسات المواطنة. وربما يكون من المهم هنا أن نستدعى فى الخلفية الجدل الدائر الآن فى مصر حول مدى جدوى دراسة التاريخ، والمواد النظرية عامةً، فى النظام التعليمى المصرى، وعلاقة ذلك بسوق العمل!
يبدأ المؤلف هذا الفصل بالإشارة إلى حادثة هامة فى تاريخ التعليم فى أمريكا؛ إذ أشارت تقارير المتابعة العلمية لهيئة المنح القومية للدراسات الإنسانية فى أمريكا، فى مطلع التسعينيات من القرن الماضى، إلى مدى ضعف أثر تدريس مادة التاريخ الأمريكى على عقل وذاكرة ووجدان الشباب الأمريكى. وبناءً عليه تم تأسيس المركز القومى للتاريخ، وأصبحت المهمة الأولى للمركز هى وضع وثيقة مرجعية وإطارية ومنهجية وتوجيهية حول: ضرورة وأهمية وكيفية دراسة التاريخ الوطنى للولايات المتحدة الأمريكية. وصدرت هذه الوثيقة المهمة فى نوفمبر ١٩٩٤، تحت عنوان مثير هو: «معايير التاريخ الوطنى». وبصدور الوثيقة ثار جدل كبير فى الولايات المتحدة، ليس على المستوى العلمى فقط بل امتد ليصبح جدلًا مجتمعيًا وسياسيًا، إلى الدرجة التى دفعت مجلس الشيوخ الأمريكى إلى النظر فى شأن وثيقة المعايير الجديدة لدراسة التاريخ.
ويوضح المؤلف أن الوثيقة ركزت على بعض الأسس المهمة للكتابة التاريخية من منظور المواطنة. ويأتى على رأس ذلك استخلاص أهم ما يميز الأمة الأمريكية، أو ما بلورته النقاشات آنذاك فى تعبير «روح الأمة». كما أشارت الوثيقة إلى أهمية تتبع مسار حياة المواطنين/ الناس ونضالاتهم، وهو ما تم التعبير عنه بـ«التاريخ يبدأ من أسفل». كما أكدت الوثيقة على الشفافية التامة فى دراسة وكتابة التاريخ بدورات صعوده وهبوطه، ووفق منهج نقدى، لا سيما التاريخ المكتوب بانتقائية من قبل النخبة السياسية البيضاء، حيث يعنى ذلك إسقاط جوانب بالغة الأهمية من التاريخ لحساب النخبة البيضاء، حيث يتشكل لدينا تاريخ ذو صبغة بيضاء لا يعبر عن كل المواطنين الذين يشكلون الأمة بتعدديتها وألوانها المتنوعة الاجتماعية والثقافية.
ونستكمل الحديث عن المواطنة والتاريخ فى المقال المقبل.