فى انتظار الرد
فى خضم التوترات المتصاعدة بين إيران وإسرائيل، نشهد يوميًا سلسلة من التصريحات التى تصدر عن الجانبين، وكل منها يحمل وعودًا بردود فعل قاسية وغير مسبوقة.
اغتيال إسماعيل هنية كان بمثابة الشرارة التى أعادت إشعال التوترات، لكن الرد الإيرانى المتوقع لا يتوقف عند هذا الاغتيال فقط، فالعمليات العسكرية الإسرائيلية التى استهدفت الحوثيين فى اليمن، وضربات جوية استهدفت مواقع لحزب الله فى ضاحية بيروت الجنوبية، وحتى الهجمات التى طالت الأراضى الإيرانية، كلها ضمن الحسابات الإيرانية فى الرد.
إيران تنظر إلى هذه الهجمات كجزء من استراتيجية أوسع تهدف إلى إضعاف نفوذها فى المنطقة. وبحكم الجغرافيا، فإن المسافة بين إيران وإسرائيل تبلغ حوالى ألف كيلومتر، ولكن القدرة العسكرية الإيرانية، المتمثلة فى حلفائها الإقليميين، تجعل هذه المسافة قصيرة جدًا من الناحية العملية. من لبنان إلى اليمن، مرورًا بسوريا والعراق، تنتشر قوات وحلفاء إيران الذين يمكن أن يتحولوا إلى أدوات ردع قوية فى مواجهة إسرائيل.
الولايات المتحدة، الحليف الأكبر لإسرائيل، لم تقف مكتوفة الأيدى أمام التوترات المتصاعدة. فقد سارعت واشنطن إلى حشد قواتها بالمنطقة، وأرسلت مدمرات بحرية إلى البحر المتوسط، كما نشرت طائرات مقاتلة إضافية وسفنًا حربية لتعزيز وجودها العسكرى. ليس هذا فقط، بل أعلن مسئول دفاعى أمريكى أن سلاح الجو الأمريكى سينشر سربًا يتألف من 16 إلى 24 طائرة من طراز F-22 فى الشرق الأوسط.
هذه التحركات العسكرية تعكس التزام الولايات المتحدة بأمن إسرائيل، وتؤكد أنها لن تتردد فى المشاركة فى مواجهة عسكرية كبيرة إذا ما اقتضت الضرورة. لكن السؤال الذى يطرح نفسه: إلى أى مدى يمكن أن تستمر الولايات المتحدة فى دعم إسرائيل فى ظل هذه التوترات، خاصة إذا ما اتسع نطاق المواجهة ليشمل أطرافًا أخرى فى المنطقة؟
على الأرض، تتصاعد حدة الضربات المتبادلة بين إسرائيل وحزب الله فى لبنان، حيث شهدنا خلال الأيام الماضية هجمات متبادلة أدت إلى سقوط ضحايا وإصابات. حزب الله، بدوره، لم يتوانَ عن توسيع نطاق نيرانه ليشمل مناطق قريبة من عكا. ورغم أن الحزب أكد أن هذه العمليات ليست ردًا مباشرًا على اغتيال القيادى البارز فؤاد شكر، إلا أنها تأتى كرد فعل على الغارات الإسرائيلية الأخيرة فى جنوب لبنان.
فى سوريا، أجرت الفصائل الموالية لإيران تدريبات عسكرية فى مدينة دير الزور شرقى البلاد، حيث استخدمت الذخيرة الحية فى هذه التدريبات. ويُعتقد أن هذه التدريبات تأتى فى إطار التحضير لأى مواجهة محتملة مع القوات الإسرائيلية أو حلفائها. بالإضافة إلى ذلك، دخلت شاحنات عسكرية ولوجستية من العراق إلى سوريا عبر معبر السكك، مما يعزز القدرات العسكرية لهذه الفصائل فى المنطقة.
أما فى اليمن، فقد أعلنت جماعة الحوثى عن إسقاط طائرة أمريكية فى محافظة صعدة الشمالية، بالإضافة إلى استهداف سفينة فى خليج عدن. هذه التطورات تشير إلى أن الحوثيين، الذين يُعتبرون جزءًا من محور المقاومة الذى تقوده إيران، مستعدون لتوسيع دائرة المواجهة مع الولايات المتحدة وحلفائها فى المنطقة.
فى العراق، تشتعل التوترات أيضًا، حيث شهدت قاعدة عين الأسد هجومًا أدى إلى إصابة خمسة جنود أمريكيين. جماعة «المقاومة الإسلامية بالعراق– الثوريون» أعلنت مسئوليتها عن الهجوم، مؤكدة أنها ستواصل عملياتها حتى خروج آخر جندى أمريكى من العراق.
هذه الجماعة، التى ظهرت بعد السابع من أكتوبر 2023، تُعتبر واحدة من الأذرع الإيرانية فى المنطقة، وتدين بالولاء لطهران، وهو ما يشير إلى خطورة تنامى صعود التنظيمات المسلحة من غير الدول على خلفية تصاعد العنف فى الأراضى المحتلة وعدم تسوية القضية الفلسطينية بشكل شامل وعادل. بدون ذلك فإن مستقبل المنطقة مرشح لمزيد من هذه التنظيمات المسلحة التى ستهدد الاستقرار بشكل كبير.
التوترات الميدانية وما يصاحبها من تصعيد سياسى وعسكري، تضع النظام الإيرانى أمام خيارات معقدة. الخيار الأول يتمثل فى ضرورة الحفاظ على السمعة داخل المحور الذى يتبلور حاليًا بشكله الجديد، حيث لا يمكن لطهران أن تظهر بموقف الضعف أو التخاذل أمام حلفائها. رد إيران على العمليات الإسرائيلية يعتبر مسألة حتمية لضمان استمرار الدعم والتأييد من القوى الإقليمية المتحالفة معها.
أما الخيار الثاني، وهو الأرجح، يتمثل فى محاولة تجنب الدخول فى حرب شاملة مع إسرائيل والولايات المتحدة، خاصة فى ظل الظروف الداخلية الصعبة التى تعيشها إيران. فالرئيس الإيرانى الجديد يسعى لفتح باب الحوار مع الغرب، وبالأخص مع الولايات المتحدة، لتخفيف الضغوط الاقتصادية والسياسية التى تواجهها بلاده.
هذا التوازن بين الحفاظ على السمعة الإقليمية ومحاولة تجنب المواجهة المباشرة مع الغرب، يضع إيران فى موقف حساس، حيث يتعين عليها إدارة الصراع بحذر شديد لتجنب الانزلاق إلى حرب قد تكون كارثية على الجميع.
ورغم هذا التصعيد، هناك فرصة تاريخية لوقف دوامة العنف فى غزة التى استمرت لعدة أشهر. إعادة ترتيب البيت الفلسطينى من الداخل أصبحت أكثر إلحاحًا من أى وقت مضى.
على الجانب الإسرائيلي، يمكن أن يكون وقف الحرب فرصة لإنهاء حكم بنيامين نتنياهو، الذى يواجه انتقادات داخلية بسبب إخفاقاته المتكررة، خاصة فى إدارة الصراع مع الفلسطينيين. التوترات الأخيرة أظهرت ضعف نتنياهو فى التعامل مع التهديدات الأمنية، وهو ما قد يدفع الشارع الإسرائيلى إلى إعادة النظر فى قيادته.
فى النهاية، يبقى السؤال الأهم: هل يبقى نتنياهو منتظرًا الرد الإيرانى القادم؟ فلا تزال الأمور غير واضحة، والتوترات المتصاعدة تشير إلى أن الجميع ينتظر الخطوة المقبلة.