استعادة الردع المفقود.. لماذا لجأت إسرائيل إلى «الاغتيالات الكبرى»؟
منذ ٧ أكتوبر الماضى تصاعدت الأصوات فى إسرائيل التى تنتقد السياسة الأمنية الإسرائيلية التى استمرت طوال العقد الماضى، بعد أن رأى كثيرون أنها كانت السبب وراء عملية «طوفان الأقصى»، وما تلاها من حرب طويلة على قطاع غزة، ومواجهات على الجبهة الشمالية مع «حزب الله» اللبنانى والميليشيات السورية والعراقية، التابعة لإيران، وأيضًا الحوثيين فى اليمن.
ومع تكثيف الحوثيين هجماتهم، وتصعيد الوضع مع «حزب الله» فى الآونة الأخيرة، عادت الاستراتيجية الأمنية الإسرائيلية لتوضع تحت المجهر من جديد، ولتكون محل تقييم مرة أخرى، بعدما ثبت أنها غير رادعة، الأمر الذى جعل إسرائيل تعود لسياسة الاغتيالات، بالتوازى مع العمليات العسكرية، للتأثير على قدرات أعدائها، وهو ما نستعرضه فى السطور التالية.
انتقادات واسعة لسياسة «المعركة بين الحروب»: سمحت بتقوية «حماس» و«حزب الله» ولم تنجح فى إنهاء الخطر
طوال العقد الماضى، وربما منذ انتهاء حرب لبنان الثانية فى عام ٢٠٠٦، وحتى مع اندلاع الحروب فى غزة، كانت الاستراتيجية الأمنية الإسرائيلية تقوم على سياسة «المعركة بين الحروب»، ومفادها أن تنفذ إسرائيل ضربات قصيرة ومركزة من حين لآخر لضرب قدرات أعدائها العسكرية؛ لكن دون فتح جبهة حرب واسعة أو مواجهة شاملة، وحتى إذا تدهورت الأمور إلى حرب فإنها تكون عادة حربًا خاطفة، عبر ضربات مركزة لا تستمر وقتًا طويلًا.
كانت الاستراتيجية الإسرائيلية ترى أن «المعركة بين الحروب» تردع أعداءها، وتضرب قدراتهم من حين لآخر، لتمنعهم من تطوير قدراتهم العسكرية، وبالتالى تمنع حدوث هجمات كبيرة مستقبلًا، سواء من حركة «حماس» الفلسطينية فى قطاع غزة، أو من «حزب الله» اللبنانى، وهو ما ثبت أنه لم يردع الجانبين، فى الشمال والجنوب، خصوصًا بعد أحداث ٧ أكتوبر وما تلاها.
ومع الهجوم الأخير على القرية الدرزية «مجدل شمس»، الذى نسب إلى «حزب الله»، ومن قبله هجوم الحوثيين بطائرة مُسيّرة على تل أبيب، تزايدت حدة الانتقادات لاستراتيجية الردع الإسرائيلية، بعدما ثبت فشلها مرة بعد أخرى، وظهر أن سياسة المعارك بين الحروب لم تردع أعداء إسرائيل عن الهجوم عليها.
جدير بالذكر أن تلك السياسة لم تكن السياسة الأمنية التاريخية التى انتهجتها إسرائيل فى الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، فحينها كانت العقيدة الدفاعية الإسرائيلية تقوم على مفهوم مفاده أنه لا ينبغى السماح لأعداء إسرائيل أبدًا بأن يصبحوا أقوياء، وكانت تسارع إلى الحروب بشكل أكبر مما تفعل الآن، وتنفذ حروبًا قصيرة وحاسمة، بدلًا من الاستنزاف البطىء من خلال حروب طويلة.
كانت سياسة «المعركة بين الحروب»، أيضًا، ترتبط بشكل وثيق بسياسة أخرى، تفضل بها دولة الاحتلال إدارة الصراعات على الحدود دون حروب كبيرة، مع التركيز بشكل أكبر على التهديدات من «الدائرة الثالثة»، أى إيران ذاتها.
ويرى مراقبون فى إسرائيل أن إيران من جانبها فهمت ذلك، فعملت على تطويق إسرائيل بحلفائها من كل الجهات، حتى تعطل استهدافها المباشر، وفى الخلفية كانت تلعب الولايات المتحدة دورًا فى منع تدهور الأمور بين أحد من حلفاء إيران وإسرائيل، حتى لا تتضرر مكانتها فى الشرق الأوسط، ويتم جرها إلى حرب لا تريدها.
وفى المقابل، سعت إيران إلى سياسة «توحيد الجبهات» المختلفة ضد دولة الاحتلال، وعملت على دفع الحرب إلى شمال إسرائيل، ما أجبرها على إخلاء مستوطنات الشمال، وهذا أمر غير مسبوق، ولم يحدث من قبل لهذه الفترة الطويلة.
وكما سمحت السياسة الأمنية لإسرائيل لحركة «حماس» بتقوية قدراتها، فقد سمحت على نحو مماثل لـ«حزب الله» بأن يصبح أقوى بشكل كبير مما كان عليه أثناء حرب ٢٠٠٦، الأمر الذى سمح لكليهما، وفق ما يرى المراقبون فى إسرائيل، الهجوم حتى نقطة معينة، خاصة أن تصريحات كثير من القادة فى دولة الاحتلال كانت تنادى بتجنب حرب واسعة.
القتل المباشر لقادة حركات المقاومة وسيلة الاحتلال لإضعاف الأعداء بعد الإخفاق فى «الفصل بين الجبهات»
الواقع يقول، وفقًا للرؤية الإسرائيلية، إن «مفهوم إدارة الصراع برمته أدى إلى ردع إسرائيل عن الحروب، وليس ردع أعداء إسرائيل».
ويعتبر المراقبون الإسرائيليون أن ذلك ظهر فى تصعيد «حزب الله» ردات فعله فى الآونة الأخيرة، بعدما أطلق وابلًا من الصواريخ، التى تراوح عددها بين ١٠٠ و٢٠٠ صاروخ، وأحيانًا وصلت هذه الصواريخ إلى أعماق على بُعد ٤٠ كيلومترًا عن الحدود، ردًا على العمليات الإسرائيلية، فضلًا عن القذائف وطائرات دون طيار قدرت أعدادها بـ٦ آلاف طائرة.
ويأتى الهجوم على قرية «مجدل شمس»، وفقًا لوجهة النظر الإسرائيلية، فى إطار عمليات «حزب الله» تلك، عبر إطلاق صاروخ إيرانى من طراز «فلق-١»، برأس حربى يزن ٥٠ كجم، باتجاه الجولان، وهو ما نفاه «حزب الله» من جانبه. ويقول المراقبون فى إسرائيل إن «الأعداء»، سواء «حماس» فى الجنوب أو «حزب الله» فى الشمال، شعروا بأن إسرائيل لا تريد حربًا واسعة معهم فاستهدفوها، وهو ما ينطبق أيضًا على الحوثيين فى اليمن، حتى إن «حماس» استعدت علنًا لهجوم ٧ أكتوبر، وأجرت تدريباتها أمام عيون القيادة فى تل أبيب، لكنهم لم يتعاملوا معها بجدية.
وفقدت إسرائيل فى ٧ أكتوبر قوتها الرادعة فى الشرق الأوسط، حتى إن بعض الإسرائيليين قالوا إنها أصبحت مثل «كيس الملاكمة» فى المنطقة.
ومؤخرًا بعد هجمات الحوثيين و«حزب الله»، أصبح الردع الإسرائيلى عمليًا فى أدنى مستوياته منذ عقود، الأمر الذى أعاد إسرائيل إلى تفعيل سياسة الاغتيالات، مع استهداف قيادات «حماس»، على رأسهم مروان عيسى وصالح العارورى ومحمد الضيف، ومؤخرًا إسماعيل هنية، فى عمليات لافتة، هذا فضلًا عن اغتيال قيادات فى «حزب الله»، كان آخرهم فؤاد شكر، قبل ساعات من اغتيال «هنية».
وفيما يتم حاليًا تسويق الاغتيالات التى نفذتها إسرائيل باعتبارها بديلًا استراتيجيًا ناجحًا، فإن التأثير العملياتى لهذه الاغتيالات يظل غير واضح، رغم أنها قد سببت هزة فى «حماس» و«حزب الله»، إلا أنها لم تردعهما.
ويتساءل المراقبون فى إسرائيل، حاليًا، إن كانت سياسة الاغتيالات ستفتح الباب أمام مواجهة كبيرة، يمكن عبرها دفع «حزب الله» إلى الزاوية، من خلال تصعيد أكثر كثافة لقتال يستمر عدة أيام، دون الانجرار إلى حرب شاملة بالضرورة، لكن تظل هذه الفكرة مخاطرة يصعب التنبؤ بنتائجها.
وحتى هذه اللحظة، لا يبدو أن القيادة العسكرية فى إسرائيل تريد مثل ذلك الخيار، رغم أن العديد من الوزراء فى الحكومة الإسرائيلية دعوا إلى حرب شاملة على لبنان، وكذلك فعل عدد من أعضاء المعارضة، حتى إن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، بعد تعرضه للانتقادات، قال إن «حزب الله» سيدفع ثمنًا باهظًا لم يدفعه حتى الآن، لكنه مع ذلك لم يتحدث عن حرب شاملة.
ويبدو أن «نتنياهو»، الذى قاد سياسة «المعركة بين الحروب» على مدار العقد الماضى، لا يزال كما يبدو مترددًا أمام الحرب الكبيرة، فهو من امتنع عن اتباع سياسة الضربات القوية الخاطفة خلال العقد الأخير، وربما كانت هذه واحدة من الانتقادات التى توجه له الآن فى إسرائيل، إذ يرى كثير من معارضيه أن سياسته لم تكن رادعة لأعداء دولة الاحتلال، حتى إنها منحتهم فرصة لتقوية أنفسهم وجرأتهم على الهجوم فى الداخل الإسرائيلى.
ولأن ذلك قد ثبت عمليًا منذ ٧ أكتوبر الماضى، فقد أصبح «نتنياهو»، من وجهة نظر معارضيه، وحتى عدد من أعضاء حكومته، مطالبًا باستعادة الردع الإسرائيلى بكل الطرق الممكنة، لذا فإن العودة لسياسة الاغتيالات فى الآونة الأخيرة قد تمثل طريقة أخرى لاستعادة الردع، ولو جزئيًا، دون اللجوء للحرب الشاملة، حتى الآن.