جمال عبدالناصر يكتب: لماذا خرجنا فى 23 يوليو؟
- ليس صحيحًا أن ثورة ٢٣ يوليو قامت بسبب النتائج التى أسفرت عنها حرب فلسطين وليس صحيحًا أنها قامت بسبب الأسلحة الفاسدة
- كنا نحن الشبح الذى يؤرق به الطاغية أحلام الشعب وقد آن لهذا الشبح أن يتحول إلى الطاغية فيبدد أحلامه هو
- كان الموقف يتطلب أن تقوم قوة يقرب ما بين أفرادها إطار واحد وأن يكون فى يدهم من عناصر القوة المادية ما يكفل لهم عملًا سريعًا حاسمًا
لست أُريد أن أدَّعى لنفسى مقعد أستاذ التاريخ.. ذلك آخر ما يجرى به خيالى.
ومع ذلك، فلو حاولت محاولة تلميذ مبتدئ، فى دراسة قصة كفاح شعبنا فإننى سوف أقول مثلًا: إن ثورة ٢٣ يوليو هى تحقيق للأمل الذى راود شعب مصر، منذ بدأ فى العصر الحديث يفكر فى أن يكون حكمه بأيدى أبنائه، وفى أن تكون له بنفسه الكلمة العليا فى مصيره..
لقد قام بمحاولة لم تحقق له الأمل الذى تمناه، يوم تزعم السيد «عمر مكرم» حركة تنصيب «محمد على» واليًا على مصر، باسم شعبها..
وقام بمحاولة لم تحقق الأمل الذى تمناه، يوم حاول عرابى أن يطالب بالدستور..
وقام بمحاولات متعددة، لم تحقق له الأمل الذى تمناه، فى فترة الغليان الفكرى التى عاشها بين الثورة العرابية وثورة ١٩١٩م.
وكانت هذه الثورة الأخيرة- ثورة ١٩١٩م بزعامة سعد زغلول- محاولة أخرى لم تحقق الأمل الذى تمناه.
وليس صحيحًا أن ثورة ٢٣ يوليو قامت بسبب النتائج التى أسفرت عنها حرب فلسطين، وليس صحيحًا كذلك أنها قامت بسبب الأسلحة الفاسدة التى راح ضحيتها جنود وضباط، وأبعد من ذلك عن الصحة ما يقال إن السبب كان أزمة انتخابات نادى ضباط الجيش.
إنما الأمر فى رأيى كان أبعد من هذا وأعمق أغوارًا.
ولو كان ضباط الجيش حاولوا أن يثوروا لأنفسهم لأنه قد غُرِّر بهم فى فلسطين، أو لأن الأسلحة الفاسدة أرهقت أعصابهم، أو لأن اعتداءً وقع على كرامتهم فى انتخابات نادى ضباط الجيش، لما كان الأمر يستحق أن يكون ثورة، ولكان أقرب الأشياء إلى وصفه أنه مجرد تمرّد، حتى وإن كانت الأسباب التى أدت إليه منصفة عادلة فى حد ذاتها.
لقد كانت هذه كلها أسبابًا عارضة..
وربما كان أكبر تأثير لها أنها تستحثنا على الإسراع فى طريق الثورة، ولكننا كنا من غيرها نسير على هذا الطريق.
وأنا أحاول اليوم بعد كل ما مرَّ بى من أحداث، وبعد سنوات طويلة من بدء التفكير فى الثورة، أن أعود بذاكرتى وأتعقب اليوم الأول، الذى اكتشفت فيه بذورها فى نفسى.
إن هذا اليوم أبعد فى حياتى من أيام شهر نوفمبر سنة ١٩٥١م، أيام ابتداء أزمة نادى الضباط. ففى ذلك الوقت كان تنظيم الضباط الأحرار قائمًا يباشر عمله ونشاطه، بل أنا لا أغالى إذا قلت إن أزمة انتخابات النادى آثارها أكثر من أى شىء آخر فى نشاط الضباط الأحرار، فقد شئنا فى ذلك الوقت أن ندخل معركة نجرِّب فيها قوتنا على التكتل، وعلى التنظيم.
وهذا اليوم- فى حياتى أيضًا- أبعد من بدء فضيحة الأسلحة الفاسدة، فقد كان تنظيم الضباط الأحرار موجودًا قبلها، وكانت منشوراتهم أول نذير بتلك المأساة، وكان نشاطهم وراء الضجة التى قامت حول الأسلحة الفاسدة.
بل إن هذا اليوم فى حياتى أبعد من يوم ١٦ مايو سنة ١٩٤٨م، ذلك اليوم الذى كان بداية حياتى فى حرب فلسطين.
وحين أُحاول الآن أن أستعرض تفاصيل تجربتنا فى فلسطين أجد شيئًا غريبًا:
فقد كنا نحارب فى فلسطين، ولكن أحلامنا كلها فى مصر. كان رصاصنا يتجه إلى العدو الرابض أمامنا فى خنادقه، ولكن قلوبنا كانت تحوم حول وطننا البعيد الذى تركناه للذئاب ترعاه.
وفى فلسطين كانت خلايا الضباط الأحرار تدرس، وتبحث، وتجتمع فى الخنادق والمراكز.
فى فلسطين جاءنى «صلاح سالم»، و«زكريا محيى الدين»، واخترقنا الحصار إلى الفالوجة، وجلسنا فى الحصار لا نعرف له نتيجة ولا نهاية، كان حديثنا الشاغل وطننا الذى يتعيَّن علينا أن نحاول إنقاذه.
وفى فلسطين جلس بجوارى مرة كمال الدين حسين وقال لى، وهو ساهم الفكر شارد النظرات:
- هل تعلم ماذا قال لى أحمد عبدالعزيز قبل أن يموت؟..
قلت:
- ماذا قال؟..
قال كمال الدين حسين، وفى صوته نبرة عميقة وفى عينيه نظرة أعمق:
- لقد قال لى: اسمع يا كمال، إن ميدان الجهاد الأكبر هو فى مصر..
ولم ألتق فى فلسطين الأصدقاء الذين شاركونى فى العمل من أجل مصر، وإنما التقيت أيضًا الأفكار التى أنارت أمامى السبيل.
وأنا أذكر أيام كنت أجلس فى الخنادق وأسرح بذهنى إلى مشاكلنا..
كانت الفالوجة محاصرة، وكان تركيز العدو عليها ضربًا بالمدافع، والطيران تركيزًا هائلًا مروعًا.
وكثيرًا ما قلت لنفسى:
«ها نحن هنا فى هذه الجحور محاصرين، لقد غُرّر بنا، دُفعنا إلى معركة لم نُعد لها، لقد لعبت بأقدارنا مطامع ومؤامرات وشهوات، وتُركنا هنا تحت النيران بغير سلاح».
وحين كنت أصل إلى هذا الحد من تفكيرى، كنت أجد خواطرى تقفز فجأة عبر ميادين القتال، وعبر الحدود، إلى مصر، وأقول لنفسى:
هذا هو وطننا هناك، إنه فالوجة أخرى على نطاق كبير..
إن الذى يحدث لنا هنا صورة من الذى يحدث هناك.. صورة مصغرة..
وطننا هو الآخر حاصرته المشاكل والأعداء، وغُرّر به.. ودُفع إلى معركة لم يعد لها، ولعبت بأقداره مطامع ومؤامرات وشهوات، وتُرك هناك تحت النيران بغير سلاح!
ثم إن هذ اليوم- اليوم الذى اكتشفت فيه بذور الثورة فى نفسى- أبعد من حادث ٤ فبراير سنة ١٩٤٢م، الذى كتبت بعده خطابًا إلى صديق قلت له فيه: «ما العمل بعد أن وقعت الواقعة وقبلناها مستسلمين خاضعين خانعين؟».
الحقيقة أنى أعتقد أن الاستعمار يلعب بورقة واحدة فى يده بقصد التهديد فقط، ولكن لو أنه أحس أن بعض المصريين ينوون التضحية بدمائهم ويقابلون القوة بالقوة لانسحب كأى امرأة من العاهرات.
وطبعًا هذا حاله أو تلك عادته..
أما نحن، أما الجيش، فقد كان لهذا الحادث تأثير جديد على الروح المعنوية، فبعد أن كنت ترى الضباط لا يتكلمون إلا عن الفساد واللهو، أصبحوا يتكلمون عن التضحية والاستعداد لبذل النفوس فى سبيل الكرامة، وأصبحت تراهم وكلهم ندم لأنهم لم يتدخلوا- مع ضعفهم الظاهر- ويردوا للبلاد كرامتها، ويغسلونها بالدماء. ولكن غدًا لناظره قريب.
لقد حاول بعضهم بعد الحادث أن يعملوا شيئًا بغية الانتقام، ولكن الوقت كان قد فات، أما القلوب فكلها نار وأسى.
والواقع أن هذه الحركة.. أن هذه الطعنة ردّت الروح إلى بعض الأجساد، وعرَّفتهم أن هناك كرامة يجب أن يستعدوا للدفاع عنها، وكان هذا درسًا قاسيًا.
وكذلك فإن هذا اليوم أبعد فى حياتى من الفوران الذى عشت فيه أيام كنت طالبًا أمشى مع المظاهرات الهاتفة بعودة دستور سنة ١٩٢٣م.
وقد عاد الدستور بالفعل فى سنة ١٩٣٥م.. وأيام كنت أسعى مع وفود الطلبة، إلى بيوت الزعماء نطلب منهم أن يتحدوا من أجل مصر، وتألفت الجبهة الوطنية سنة ١٩٣٦م بالفعل على أثر هذه الجهود.
وأذكر أننى فى فترة الفوران هذه كتبت خطابًا إلى صديق من أصدقائى قلت فيه- وكان تاريخه ٢ سبتمبر سنة ١٩٣٥م:
«أخى.. خاطبت والدك يوم ٣٠ أغسطس فى التليفون، وقد سألته عنك فأخبرنى أنك موجود فى المدرسة..
لذلك عوّلت على أن أكتب إليك ما كنت سأكلمك فيه تليفونيًا.
قال الله تعالى: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة..)، فأين تلك القوة التى نستعد بها لهم؟
إن الموقف اليوم دقيق، ومصر فى موقف أدق.. ونحن نكاد نودع الحياة ونصافح الموت، فإن بناء اليأس عظيم الأركان، فأين من يهدم هذا البناء..؟».
ثم مضيت فى الخطاب إلى آخره..
وإذن.. فمتى كان ذلك اليوم الذى اكتشفت فيه بذور الثورة فى أعماقى؟..
إنه بعيد.
فإذا أُضيف إلى هذا كله، أن تلك البذور لم تكن كامنة فى أعماقى وحدى، وإنما وجدتها كذلك فى أعماق كثيرين غيرى، هم الآخرون بدورهم لا يستطيع الواحد منهم أن يتعقّب بداية وجودها داخل كيانه، لاتّضحَ إذن أن هذه البذور ولدت فى أعماقنا حين ولدنا، وأنها كانت أملًا مكبوتًا خلّفه فى وجداننا جيل سبقنا
لقد آمنت بالجندية طول عمرى، والجندية تجعل للجيش واجبًا واحدًا، هو أن يموت على حدود وطنه، فلماذا وجد جيشنا نفسه مضطرًا للعمل فى عاصمة الوطن، لا على حدوده؟
كنا نقول: إذا لم يقم الجيش بهذا العمل فمن يقوم به؟
وكنا نقول: كنا نحن الشبح الذى يؤرق به الطاغية أحلام الشعب، وقد آن لهذا الشبح أن يتحول إلى الطاغية فيبدد أحلامه هو..
وكنا نقول غير هذا كثيرًا، ولكن الأهم من كل ما كنا نقوله إننا كنا نشعر شعورًا يمتد إلى أعماق وجودنا بأن هذا الواجب واجبنا، وإننا إذا لم نقم به فإننا نكون كأننا تخلينا عن أمانة مقدسة نيط بنا حملها.
ولكنى أعترف أن الصورة الكاملة لم تتضح فى خيالى إلا بعد فترة طويلة من التجربة عقب ٢٣ يوليو. وكانت تفاصيل هذه التجربة هى بعينها تفاصيل الصورة.
وأنا أشهد أنه مرّت علىّ بعد يوم ٢٣ يوليو نوبات اتهمت فيها نفسى وزملائى وباقى الجيش بالحماقة والجنون الذى صنعناه فى ٢٣ يوليو..
لقد كنت أتصور قبل ٢٣ يوليو أن الأمة كلها متحفزة متأهبة، وأنها لا تنتظر إلا طليعة تقتحم أمامها السور فتندفع الأمة وراءها صفوفًا متراصة منتظمة تزحف زحفًا مقدسًا إلى الهدف الكبير...
وكنت أتصور دورنا على أنه دور طليعة الفدائيين، وكنت أظن أن دورنا هذا لا يستغرق أكثر من بضع ساعات، ويأتى بعدها الزحف المقدس للصفوف المتراصة المنتظمة إلى الهدف الكبير، بل قد كان الخيال يشط بى أحيانًا؛ فيخيل إلىّ أنى أسمع صليل الصفوف المتراصة، وأسمع هدير الوقع الرهيب لزحفها المنظم إلى الهدف الكبير... أسمع هذا كله ويبدو فى سمعى من فرط إيمانى به حقيقة مادية وليس مجرد تصورات خيال...
ثم فاجأنى الواقع بعد ٢٣ يوليو...
قامت الطليعة بمهمتها، واقتحمت سور الطغيان وخلعت الطاغية، ووقفت تنتظر وصول الزحف المقدس للصفوف المتراصة المنتظمة إلى الهدف الكبير..
وطال انتظارها...
لقد جاءتنا جموع ليس لها آخر.. ولكن ما أبعد الحقيقة عن الخيال كانت الجموع التى جاءت أشياعًا متفرقة، وفلولًا متناثرة، وتعطل الزحف المقدس إلى الهدف الكبير وبدت الصورة يومها قائمة مخيفة تنذر بالخطر..
وساعتها أحسست وقلبى يملؤه الحزن وتقطر منه المرارة أن مهمة الطليعة لم تنته فى هذه الساعة، وإنما من هذه الساعة بدأت...
كنا فى حاجة إلى النظام، فلم نجد وراءنا إلا الفوضى. وكنا فى حاجة إلى الاتحاد، فلم نجد وراءنا إلا الخلاف..
وكنا فى حاجة إلى العمل، فلم نجد وراءنا إلا الخنوع والتكاسل... ومن هنا وليس من أى شىء آخر، أخذت الثورة شعارها.
ولم نكن على استعداد... وذهبنا نلتمس الرأى من ذوى الرأى، والخبرة من أصحابها.
ومن سوء حظنا لم نعثر على شىء كثير... كل رجل قابلناه لم يكن يهدف إلا إلى قتل رجل آخر..
وكل فكرة سمعناها لم تكن تهدف إلا إلى هدم فكرة أخرى!
ولو أننا أطعنا كل ما سمعناه، لقتلنا جميع الرجال وهدمنا جميع الأفكار، ولما كان لنا بعدها ما نعمله إلا أن نجلس بين الأشلاء والأنقاض نندب الحظ البائس ونلوم القدر التعس!
وانهالت علينا الشكاوى والعرائض بالألوف ومئات الألوف، ولو أن هذه الشكاوى والعرائض كانت تروى لنا حالات تستحق الإنصاف، أو مظالم يجب أن يعود إليها العدل، لكان الأمر منطقيًا ومفهومًا، ولكن معظم ما كان يرد إلينا لم يزد أو ينقص عن أن يكون طلبات انتقام... كأن الثورة قامت لتكون سلاحًا فى يد الحاقدين والمبغضين!
ولو أن أحدًا سألنى فى تلك الأيام ما أعزّ أمانيك؟ لقلت له على الفور:
- أن أسمع مصريًا يقول كلمة إنصاف فى حق مصرى آخر، وأن أحس أن مصريًا قد فتح قلبه للصفح والغفران والحب لإخوانه المصريين، وأن لا أرى هناك بعد ذلك كله أنانية فردية مستحكمة...
كانت كلمة «أنا» على كل لسان..
كانت هى الحل لكل مشكلة، وهى الدواء لكل داء... وكثيرًا ما كنت أقابل كبراء- أو هكذا تسميهم الصحف- من كل الاتجاهات والألوان، وكنت أسأل الواحد منهم عن مشكلة ألتمس عنده حلًا لها، فلم أكن أسمع إلا «أنا»..
مشاكل الاقتصاد هو وحده يفهمها، أما الباقون جميعًا فهم فى العلم بها أطفال يحبون. ومشاكل السياسة هو وحده الخبير بها، أما الباقون جميعًا فما زالوا فى «ألف باء» لم يتقدموا بعدها حرفًا واحدًا.
وكنت أقابل الواحد من هؤلاء، ثم أعود إلى زملائى فأقول لهم فى حسرة:
- لا فائدة.. هذا رجل لو سألناه عن مشكلة صيد السمك فى جزر هواى، لما وجدنا عنده جوابًا إلا كلمة «أنا»!
وأعترف أن هذا الحال كله سبب لى أزمة نفسية كئيبة.
ولكن التجارب فيما بعد، وتأمل هذه التجارب واستخلاص معانيها الحقيقية خفف من وقع الأزمة فى نفسى، وجعلنى ألتمس لهذا كله أعذارًا من الواقع عثرت عليها حين اتضحت أمامى - إلى حد ما- الصورة الكاملة لحالة الوطن، وأكثر من هذا أعطتنى الجواب عن السؤال الذى قلت إنه طالما راودنى، وهو:
هل كان يجب أن نقوم نحن الجيش بالذى قمنا به فى ٢٣ يوليو؟
الجواب: نعم! ولم يكن هناك مهرب أو مفر! وأنا الآن أستطيع أن أقول: إننا نعيش فى ثورتين، وليس فى ثورة واحدة.
ولكل شعب من شعوب الأرض ثورتان: ثورة سياسية يسترد بها حقه فى حكم نفسه بنفسه من يد طاغية فرض عليه، أو من جيش معتدٍ أقام فى أرضه دون رضاه.
وثورة اجتماعية تتصارع فيها طبقاته ثم يستقر الأمر فيها على ما يحقق العدالة لأبناء الوطن الواحد.
لقد سبقتنا على طريق التقدم البشرى شعوب مرت بالثورتين؛ ولكنها لم تعشهما معًا.. وإنما فصلت بين الواحدة والثانية مئات من السنين، أما نحن فإن التجربة الهائلة التى امتحن بها شعبنا هى أن تعيش الثورتان معًا فى وقت واحد.
وهذه التجربة الهائلة مبعثها أن لكل من الثورتين ظروفًا مختلفة تتنافر تنافرًا عجيبًا، وتتصادم تصادمًا مروعًا.
إن الثورة السياسية تتطلب لنجاحها وحدة جميع عناصر الأمة، وترابطها، وتساندها، ونكرانها لذاتها فى سبيل الوطن كله.
والثورة الاجتماعية من أول مظاهرها، تزلزل القيم، وتخلخل العقائد وتصارع المواطنين مع أنفسهم، أفرادًا وطبقات، وتحكم الفساد والشك والكراهية والأنانية..
وبين شقى الرحى هذين قدر لنا أن نعيش اليوم فى ثورتين:
ثورة تحتم علينا أن نتحد، ونتحاب، ونتفانى فى الهدف. وثورة تفرض علينا برغم إرادتنا أن نتفرق وتسودنا البغضاء ولا يفكر كل منا إلا فى نفسه.
وبين شقى الرحى هذين- مثلًا- ضاعت ثورة ١٩١٩م ولم تستطع أن تحقق النتائج التى كان يجب أن تحققها.
الصفوف التى تراصت فى سنة ١٩١٩م تواجه الطغيان، لم تلبث إلا قليلًا حتى شغلها الصراع فيما بينها، أفرادًا وطبقات.
وكانت النتيجة فشلًا كبيرًا، فقد زاد الطغيان بعدها تحكمًا فينا، سواء بواسطة قوات الاحتلال السافرة، أو بصنائع الاحتلال المقنعة التى كان يتزعمها فى ذلك الوقت السلطان فؤاد، وبعده ابنه فاروق، ولم يحصد الشعب إلا الشكوك فى نفسه والكراهية والبغضاء والأحقاد فيما بين أفراده وطبقاته.
وشحب الأمل الذى كان ينتظر أن تحققه ثورة ١٩١٩م.
ولقد قلت: شحب الأمل، ولم أقل: تلاشى؛ ذلك لأن قوى المقاومة الطبيعية التى تدفعها الآمال الكبيرة التى تراود شعبنا كانت لا تزال تعمل وتستعد لمحاولة جديدة.
وكان ذلك هو الحال الذى ساد بعد ثورة ١٩١٩م. والذى فرض على الجيش أن يكون وحده القوة القادرة على العمل.
كان الموقف يتطلب أن تقوم قوة يقرب ما بين أفرادها إطار واحد يبعد عنهم إلى حد ما صراع الأفراد والطبقات، وأن تكون هذه القوة من صميم الشعب، وأن يكون فى استطاعة أفرادها أن يثق بعضهم ببعض، وأن يكون فى يدهم من عناصر القوة المادية ما يكفل لهم عملًا سريعًا حاسمًا، ولم تكن هذه الشروط تنطبق إلا على الجيش.
وهكذا لم يكن الجيش- كما قلت- هو الذى حدد دوره فى الحوادث وإنما العكس كان أقرب إلى الصحة وكانت الحوادث وتطوراتها هى التى حددت للجيش دوره فى الصراع الكبير لتحرير الوطن.
من كتاب «فلسفة الثورة»