تجاوزت إسرائيل عتبة «الغموض النووى» «4»
مفاجأة من العيار الثقيل، تلك التى فجّرها، منذ أيام، الجنرال «أيجور دراجانوف»، المسئول السابق فى المخابرات الروسية، لا يجب، بأى حال من الأحوال، أن تمر علينا، خاصة فى مصر، والآن بالذات، دون تدبر وبحث عميقين، ذلك أنها تحوى من الإيماءات والإشارات والتوضيحات الكثير الذى ينبغى الوقوف عنده وفهم أبعاده!
فقد أكد الجنرال «دراجانوف»، لصحيفة «أزفستنايا» الروسية «بتاريخ ٤ يوليو ٢٠٢٤»، ما كان قد سبق وصرَّح به فى أعقاب وقوع كارثة تفجير مرفأ بيروت، التى دمّرت هذا المرفق اللبنانى المهم، وأطاحت بكل مقوماته وبنيته التحتية، وخلَّفت كمًا هائلًا من الضحايا والمصابين والدمار والأثر النفسى، ما هزَّ لبنان هزًا!
ومن المُذهل أن نرى وصف موسوعة «ويكيبيديا» لشكل هذا الانفجار الخطير: «هو انفجار ضخم حدث على مرحلتين فى العنبر رقم ١٢ فى مرفأ بيروت عصر يوم الثلاثاء ٤ أغسطس ٢٠٢٠، نتجت عنه سحابة دخانية ضخمة على شاكلة (سحابة الفطر).. وقد أعلن محافظ بيروت (مروان عبود) العاصمة (مدينة منكوبة)، ووصف الانفجار بأنه (أشبه بالقصف الذرى على هيروشيما وناجازاكى)، وامتدت الأضرار إلى آلاف المنازل على بعد كيلومترات من موقع الانفجار، فيما سجّلت وزارة الصحة اللبنانية تباعًا مقتل أكثر من مائتى شخص من بينهم المفقودون الذين لم يُعثر لهم على أثر، وإصابة أكثر من ٧٠٠٠ آخرين، وأُعلن عن تضرر مباشر لنحو ٥٠ ألف وحدة سكنية، وبات نحو ٣٠٠ ألف شخص بلا مأوى، وقَدَّر محافظ بيروت الخسائر المادية الناجمة عن الانفجار ما بين ١٠ و١٥ مليار دولار أمريكى»!
ورغم أن حجم الانفجار المروِّع، والنتائج الكارثية المترتبة عليه بالنسبة للبشر والحجر والبيئة والاقتصاد فى لبنان، بل والوقائع المباشرة الناجمة عن هذا الحدث، والتى استدعت إلى الأذهان، فورًا، شكل الانفجار وحجم الدمار فى مدينتى «هيروشيما» و«ناجازاكى» اليابانيتين عقب قصفهما بالقنابل النووية الأمريكية، فى ٦ و٩ أغسطس ١٩٤٥- إلا أن العالم كله، وفى المقدمة المحيط العربى، تغافل تمامًا عن البحث الجدى فى طبيعة هذا الانفجار ومن أين أتى، وآثر الجميع السلامة، و«الغطرشة» على الكارثة، و«يا دار مادخلك شر»!!
واحد فقط شذ عن السرب، وربما يكون بإيحاء روسى رسمى، حين صَدَمَ يومها الجنرال «دراجانوف» العالم بتأكيده خطأ كل التفسيرات القاصرة أو المراوغة التى حاولت استكشاف حقيقة ما حدث، أو التعمية المقصودة على حقيقته، مؤكدًا أن مرفأ بيروت «انفجر بصاروخ نووى تكتيكى إسرائيلى»، شارحًا، وهو الخبير العارف بأبعاد سلوك الولايات المتحدة ودول الغرب التآمرى بهدف التغطية على كُنه هذا الحدث الجلل والجريمة الكارثية الكبرى، فأوضح: «ثم جاءت قوى الغرب البحرية تحت غطاء المساعدة الإنسانية (فرنسا وإنجلترا وأمريكا) لطمس الحقائق العلمية، كون الانفجار شكَّل كارثة إنسانية عالمية يمكن أن تهز الكيان الإسرائيلى وتمنع تحقيق معاهدة السلام مع الخليج، وتركت كل البوارج الحربية الأجنبية لبنان بعد أن وصل فريق خبراء أمريكى، سمح لهم لبنان رسميًا بدخول أراضيه السيادية للتأكد علميًا من النجاح بطمس الحقيقة»!
كان لبنان، فى تلك الفترة البعيدة- القريبة، التى لم تُمْحَ تفاصيلها من الذاكرة، يعيش ظروفًا حرجة، بلا مسئولين ولا جهاز حكم، ويحيا لحظات أزمة مستحكمة اقتصادية وسياسية سمحت بتمرير هذه المؤامرة بنجاح، وساعدت على التستر على أسرارها مقابل «تعويض» مادى غربى هزيل، قيل إنه مبلغ ٥٠٠ مليون يورو، مقابل السكوت عن البحث بجدية عن السبب الحقيقى للانفجار، لكن «آية مجذوب»، نائبة مديرة المكتب الإقليمى للشرق الأوسط وشمال إفريقيا فى «منظمة العفو الدولية»، ذكرت، قبل حلول الذكرى السنوية الثالثة للانفجار الكارثى الذى هز المرفأ، وأودى بحياة ما لا يقل عن ٢٣٥ شخصًا، ودمّر أكثر من نصف المدينة، أنه قد «أُتيحت للسلطات اللبنانية ثلاث سنوات للتحقيق فى أسباب الانفجار المُدمر الذى وقع فى مرفأ بيروت، ولإخضاع المشتبه فى مسئوليتهم الجنائية للمحاسبة. ومع ذلك، فإنه لغاية اليوم، لم يُحَمَّل أحد بتاتًا المسئولية عن المأساة التى وقعت فى ٤ أغسطس ٢٠٢٠، وبدلًا من ذلك، استخدمت السلطات كل السبل التى فى متناولها لتقويض التحقيق المحلى، وعرقلته بوقاحة، لحماية نفسها من المسئولية، وترسيخ ثقافة الإفلات من العقاب فى البلاد»، «لبنان: غياب غير مقبول للعدالة والحقيقة والتعويض بعد مرور ثلاث سنوات على انفجار مرفأ بيروت، منظمة العفو الدولية، ٠٣-٠٨-٢٠٢٣»!
أمّا الهدف الرئيسى لهذه الطعنة الغادرة، فقد كان، كما يوضح الجنرال «دراجانوف»: «ضرب أكبر مرفأ شرقىّ المتوسط، وإزالته من منافسة مرفأ حيفا نهائيًا، بعد أن تمّت بنجاح مهمة ضرب القطاع المصرفى اللبنانى وإزالته أيضًا من المنافسة»، وهو تصرف لم يعد مستغربًا- على أى مستوى- بعدما شاهدنا بأم أعيننا ما يرتكبه الكيان الصهيونى فى غزة، من مذابح عِرقية وإبادات بشرية، تحت سمع وبصر العالم «الديمقراطى!»، الذى يُكافئه بمده بالمال والسلاح الفتّاك، والأموال، والخبرات التقنية الحربية العالية، بل وبالبوارج والمقاتلين لو احتاج، ويتغاضى عن كل جرائمه، ويتدخل- سياسيًا- وبوقاحة، لمنع تنفيذ القرارات الدولية العقابية لقادة الكيان المجرم، دون أن يهتز له جفن!
ومن اللافت للنظر أن الولايات المتحدة والغرب و«إسرائيل» نجحوا طوال العقود الماضية فى توجيه الأنظار بعيدًا عن خطر امتلاك الكيان الصهيونى، وحده بلا شريك فى المنطقة، السلاح النووى، وأدوات توصيله كالصواريخ والطائرات الاستراتيجية وغيرها، فأقاموا الدنيا ولم يقعدوها ضد إيران، وبالغوا فى نشر مزاعم مختلقة عن قرب امتلاك إيران السلاح النووى، على نحو ما جرى مع العراق، وأدى لتدميره واحتلاله بذرائع بائسة، ثَبُتَ كذبها واصطناعها!
وقد أدارت «إسرائيل» قضية «سلاح الملاذ الأخير» بحرفية عالية، عبر اتباع سياسة مشتركة بينها وبين أمريكا، تم إقرارها فى اجتماع عُقد فى واشنطن جمع الرئيس الأمريكى «ريتشارد نيكسون»، ورئيسة وزراء الكيان الصهيونى «جولدا مائير» أواخر عام ١٩٦٩، كشف عنه البروفيسور «أفنر كوهن»، فى كتابه «إسرائيل والقنبلة»، وفحواها ألّا تُجبر الولايات المتحدة «إسرائيل» على الانضمام إلى «معاهدة الحد من الانتشار النووى»، مع إلغاء زيارات المفتشين الأمريكيين لمفاعل «ديمونا»، فى مقابل، «ويا للعجب!»، أن تتعهد «إسرائيل» بالتزام سياسة «الغموض النووى»، «حتى لا يستيقظ الغافلون!»، فلا تُعلن عن امتلاكها «السلاح النووى»، ومنذ ذاك النهار وُلدت سياسة «الغموض» أو «الإعتام» التى كانت لا تزال قائمة حتى ما قبل «طوفان الأقصى». «يتبع».