رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حركة عدم الانحياز

مَن منا يتذكر الآن هذا الاسم: حركة عدم الانحياز؟ لا أعتقد أن الأجيال الشابة تعرف جيدًا هذا المصطلح «عدم الانحياز» ولا حتى معناه، ولا الجدوى منه. ولا أزايد إذا قلت إنه حتى أغلب أبناء جيلى، الذى عاش بعض أيام طفولته، والقليل من أيام شبابه فى عز مجد هذه الحركة، يعرف أن هذه الحركة لا تزال على قيد الحياة.

نعم، لا تزال هذه الحركة على قيد الحياة، وتضم أكثر من مائة دولة، فضلًا عن الدول التى تتمتع بصفة «مراقب»، لكن الدور الحيوى لهذه الحركة تراجع كثيرًا فى العقود الأخيرة حتى كدنا ننسى ماهية هذه الحركة، بل إنها لا تزال على قيد الحياة، فما قصة هذه الحركة؟ وما الانحياز؟ وما عدمه؟.

تداعت كل هذه الخواطر إلى ذهنى بمناسبة المائدة المستديرة التى عقدها المجلس الأعلى للثقافة صباح الأربعاء الماضى، عن «حركة عدم الانحياز» ضمن الاحتفال بأيام الثقافة المصرية-الصربية. وربما لا تعرف الأجيال الجديدة أن دولة صربيا الحالية هى الوريثة الشرعية لدولة يوغوسلافيا التى يعرفها جيلى، ويعرف زعيمها «تيتو»، أحد أهم مؤسسى حركة عدم الانحياز، مع نخبة من زعماء الدول المستقلة عن الاستعمار آنذاك، وعلى رأسهم جمال عبدالناصر وسوكارنو ونهرو.

يرجع السياق التاريخى لحركة عدم الانحياز إلى الحالة الاستثنائية التى وجد العالم نفسه فيها فى النصف الأول من القرن العشرين؛ إذ انزلق العالم فى عام ١٩١٤ إلى الدخول فى حرب لم يشهدها من قبل، بالقطع عرف تاريخ البشرية العديد والعديد من الحروب على مر التاريخ، لكنها محدودة إلى حد كبير، لكنه لأول مرة، ونتيجة ثورة وسائل المواصلات، والطفرة الكبرى فى وسائل التسليح، هذا فضلًا عن حركة الاستعمار، وانتقال الحرب بالتبعية إلى المستعمرات، وجد العالم نفسه فى أتون حرب لم يعرفها من قبل، لذلك أطلق عليها مصطلح «الحرب العظمى». وحاول العالم تجنب السقوط فى حرب عظمى جديدة، لذلك تم تأسيس «عصبة الأمم» وهى الأم التاريخية لما نعرفه الآن بالأمم المتحدة. ولكن فشلت عصبة الأمم فى تأدية الدور المخوَّل لها، وانزلق العالم من جديد فى أتون حرب عظمى جديدة، من هنا غيَّر العالم المصطلح القديم «الحرب العظمى» إلى الحرب العالمية الأولى، لكى يطلق على الحرب الجديدة مصطلح «الحرب العالمية الثانية».

ومن جديد، وأملًا فى تجنب الانزلاق إلى «حرب عالمية ثالثة»، أسس العالم ما يعرف بمنظمة الأمم المتحدة، لكن الفشل كان مصير هذه المنظمة منذ تأسيسها، وربما حتى الآن؛ إذ انقسم العالم إلى كتلتين: حلف وارسو، بزعامة الاتحاد السوفيتى، ممثلًا للمعسكر الشرقى الشيوعى، وحلف الأطلنطى، بزعامة أمريكا، ممثلًا للعالم الرأسمالى، والمعسكر الغربى، وتوالت الأزمات الدولية التى كادت أن تسقط العالم من جديد فى أتون الحرب العالمية، التى لو حدثت هذه المرة ستكون نتيجة تطور أسلحة الدمار الشامل، بمثابة يوم القيامة بالنسبة للعالم.

فى هذا السياق التاريخى المرعب، وفى ظل موجة التحرر الوطنى من الاستعمار القديم، وُلدت حركة عدم الانحياز، فى محاولة لإيجاد الطريق الثالث، لا شرقية ولا غربية، من أجل البحث عن السلام.

بالقطع تحتاج حركة عدم الانحياز وتاريخها إلى مراجعة دقيقة، ولكن من المؤكد أنها نجحت إلى حد كبير فى المساهمة فى تجنيب العالم خطر الانزلاق إلى حرب عالمية ثالثة، فى زمانها أثبتت الحركة خطر وفشل العيش فى عالم ثنائى الأقطاب، بل كسرت ذلك إلى حد ما، من خلال عالم ثلاثى الأقطاب.

ما أحوجنا فى لحظتنا الراهنة والعالم ينزلق من جديد، للأسف الشديد، إلى أجواء الحرب الباردة، بل الأكثر من ذلك إلى خطر اندلاع حرب عالمية ثالثة، أو يوم القيامة. ما أحوجنا إلى تفعيل دور حركة عدم الانحياز، وعودة الروح إليها من جديد، أعلم أن الحركة لا تزال على قيد الحياة، ولكنها تحتاج إلى قُبلة الحياة، لعلها تستطيع أن تستعيد دورها المشرِّف القديم فى الحيلولة دون الانزلاق إلى عالم ثنائى الأقطاب، أو إلى سيناريو يوم القيامة.