رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

بناء الإنسان المصرى.. ومسئولية المستشار "فوزى"

  يُمكن القول بأن اختيار المستشار "محمود فوزي عبدالباري" لموقع "وزير الشئون النيابية والقانونية والتواصل"، أحد الاختيارات المُهمة في جدول وزراء الحكومة التي أقسمت اليمين بالأمس القريب. 
    وتعود هذه الأهمية لسبب موضوعي، هو أنه، بموقعه السابق كرئيس للأمانة الفنية لـ "الحوار الوطني" في المرحلة الأولى، قبل أن تُقاطعه أحزاب المُعارضة الاثنا عشرـ  أحزاب "الحركة المدنية الديمقراطية"، قد اختبر ـ بشكلٍ مُباشر ـ رؤى وأفكار وتوجهات قطاع لا غنى عنه من مكونات وركائز الحياة السياسية المصرية، وتعرَّف على رؤيته ومطالبه، واحتك برموزه وقيادييه، وهو أمر على جانب كبير من الأهمية، ما دام هدف الوزارة الرئيسي، كما حُدد لها في "خطاب التكليف" الرئاسي: "وضع ملف بناء الإنسان المصري على قائمة الأولويات"، خاصة في مجالي الصحة والتعليم، "بالإضافة إلى تطوير ملفات الثقافة والوعي والخطاب الديني المُعتدل، الذي يُرسخ مفاهيم المواطنة والسلام المجتمعي"، فضلًا عن ملف "الحفاظ على مُحددات الأمن القومي المصري في ضوء التحديات الإقليمية والدولية"، وهي كلها تحديات "وجودية"، "مصيرية"، لا مناص من إنجازها للخروج من المتاهة الراهنة، وكلها ترتبط برباط موضوعي مع قضية "بناء الإنسان المصري"، أو إعادة بناء الشخصية المصرية، التي وإن كان أساسها الأخلاقي والحضاري عميقًا ومتينًا، اكتنفها العديد من مظاهر الضعف والعوار، لأسباب عديدة لا يتسع المجال لذكرها الآن.
    وبناء الإنسان، أي تشكيل وعيه ووجدانه، عمومًا، ليس بالأمر الهين، ولا بالمسئولية السهلة، لأن هذا البناء هو السبيل الوحيد لإعداده لمواجهة ما يحيط به من تحديات، وما يواجهه من مخاطر وتهديدات، في صراعات الحياة من أجل التقدُّم والتحقق والرفاهية. 
    ومصر بالذات تُحيط بها تحديات هائلة من كل جانب، ويلزمها ـ دون أية تورية ـ إرادة من فولاذ، ورؤية نافذة، واجتماع للكلمة، من أجل الانتصار على المصاعب والخروج من مستنقع الأزمات، وهي مصاعب وأزمات جمّة يئن تحت وطأتها المواطنون، فيما يخص تدبير ضرورات الحياة، ومواجهة نتائج سياسات أدت إلى ازدياد مُعدَّلات الفقر، والبطالة، والغلاء الفاحش، ومواجهة تدهور التعليم، وتزايد مُشكلات الصحة والعلاج، وعبء الديون المُستفحل...إلخ، ويكفي أن نستشعر صرخات المواطنين، وأنّات المعذبين، في شتّى أنحاء الوطن المصري، على نحو ما حملته الصفحة الخامسة لجريدة الأهرام (القومية)، يوم الأربعاء 3 يونيو 2024، لكي ندرك جانبًا من أوجاع المجتمع الواجب علاجها.
    وعليه، وحتى لا تستمر مصر أرضًا للمتناقضات (Land Of Paradox)،  تتخلَّف عن القيام بدورها التاريخي الطبيعي رغم تملُّكها لكل مقومات النهوض والريادة، وحتى تستعيد الشخصية المصرية حضورها وتألقها، وحتى  تتحقق مُهمة "بناء الإنسان المصري" المُلِحّة، فنحن بحاجة ماسّة، كما يقول د. "جمال حمدان" في سِفره الكبير "شخصية مصر"، إلى "فهم كامل لوجهنا ووِجْهَتِنَا، لكياننا ومكانتنا، لإمكانياتنا وملكاتنا، ولكن أيضًا لنقائصنا ونقائضنا، كل أولئك بلا تحرُّج ولا تحيُّز أو هروب.. وليس هذا دفاعًا عن مصر، ولا هو محاولة شوفينية للتمجيد، وإنما هو تشريح علمي موضوعي يقرن المحاسن بالأضداد على حدٍ سواء، ويُشخص نقاط القوة والضعف سواء بسواء، وبغير هذا لا يكون النقد الذاتي، وقد لا يُرضي هذا السطحيين والدعاة، ولكننا بهذا ندعم مُناقشتنا بالمصادر والأسانيد الواضحة"،... وحتى تتحقق لمصر الشروط التي هيأتها كـ"مركز مُشترك لثلاث دوائر مُختلفة، بحيث صارت مجمعًا لعوالم شتى، فهي قلب العالم العربي، وواسطة العالم الإسلامي، وحجر الزاوية في العالم الإفريقي".
    ويخلص "د. حمدان" إلى أن مصر بالموضع Site، "فلتة جغرافية" لا تتكرر في أي ركن من أركان العالم، إذ إن "المكان ـ الجغرافيا ـ كالتاريخ ـ لا يُعيد نفسه أو تُعيد نفسها.. وتلك هي حقيقة عبقريتها الإقليمية".. لكن هذه الهبة الموضعية، أي "البيئة الطبيعية بخصائصها وحجمها ومواردها في ذاتها، والتي لا يُمكن أن يتم تفعيلها إلّا عبر موقعها Situation، أي الصفات النسبية المُحَدّدة بالنسبة إلى "توزيعات الأرض والناس والإنتاج من حول إقليمنا، وتضبطه العلائق المكانية التي تربطه بها"، أي إذا كان "المكان" هبة الطبيعة للمجتمع، فإن الفاعلية والتفوُّق والرُقي، أي "المكانة" هي جهد بشري، ينهض به الإنسان الفاهم، والمُهَيَأ لحمل الأمانة، المُعَـد للانتصار على التحديات المُحيطة، والمُشكلات المُعيقة. 
    ومن هنا ـ وعودة إلى البداية ـ تأتي الأهمية المحورية لقضية بناء الإنسان، أي إنسان، ولقضية "بناء الإنسان المصري" على وجه التحديد، أي بناء الإنسان القادر على النهوض من عثرته، والساعي إلى الوثوب من حدود "المكان" الضيق إلى آفاق "المكانة" الرحبة، وبما يليق بتاريخ وتاريخ وحضارة مصر، التي شهد ترابها المقدس فجر الإنسانية وانبلاج صباحها المُشرق الوضّاء.
    وفيما يخص "وزارة الشئون النيابية والقانونية والتواصل" التي أصبح المستشار"محمود فوزي" وزيرًا لها، فالمسئولية كبيرة ومُباشرة، لأن المطلوب كبير وثقيل، فأن تكون مسئولًا عن استنقاذ الإنسان من بؤس الحال وسوء المآل، وإعادة ترميم ما هدمته السنون وحطمته الحدثان في شخصيته وكيانه، ليس بالأمر الهيّن، لأنه يرتبط بكل المؤثرات التي تدخل في بناء شخصيته وتمتين بنيانه: المادي والنفسي والروحي والعقلي والوجداني، وهي مسئولية كبرى، سيتحمل تبعاتها كل مَن كان وسيكون على صلة بملفات عديدة: "ملف الكفاية"، أي تلبية الحاجات المادية الضرورية لحياة أهل مصر حياة إنسانية لائقة، فلا بناء لإنسان لا يأكل ويشرب ويعيش في المستوى اللائق للبشر، و"ملف التكوين"، أي تجهيز هذا الإنسان منذ نعومة أظافره لتحمل تبعات المستقبل، عبر نظام تعليمي راقٍ، يتجاوز مناهج التلقين البائسة، إلى تعليم الفكر الناقد من جهة، والانكفاء على فهم علوم ومُحددات المُستقبل للتفاعل الإيجابي معها من جهة أخرى، وملف "التأمين"، أي كفالة حالته الجسدية ورعاية بنيته الصحية،  وحمايتهما من التآكل والاضمحلال عبر منظومة صحية فعّالة من جهة ثالثة،...إلخ.
    ونأتي إلى الملف الذي يحتاج لعناية أكبر من الوزارة الجديدة، أو لعلني لا أُبالغ إذا ما قلت إنه "ملف الملفات" الذي يمثل الاختبار الأهم لجدارتها باسمها، وهو ملف الحريات العامة، وأوضاع المُمارسة الديمقراطية في بلادنا.
    فتوفر مناخ الحرية هو أهم شرط من شروط النجاح في بناء الشخصية الإنسانية عمومًا، وفي بلادنا على وجه الخصوص التي شهدت إعسارًا تاريخيًا في تحقيق هذه الغاية النبيلة.
    فلا يمكن الطموح لبناء إنسان جديد، فعّال، وإيجابي، ومتصالح مع نفسه ومجتمعه والعالم من حوله، وقادر على العمل والإنتاج، والمساهمة الحقيقية في مسيرة التطور الكوني، ومُدرك أنه ابن حضارة تاريخية هي الأقدم والأعظم في التاريخ الإنساني، وأنه مدعو لاستئناف هذه المسيرة الخالدة، بغير تلكؤ أو تراجع، دون توفر شرط الحرية الغائب، ونظرة صادقة إلى حال وأوضاع المُمارسة السياسية والأحزاب (المُعارضة) المُحَاصَرة في مقارها، بعيدًا عن الشعارات التي لا تحل مشكلة أو تؤمن مسيرة، وإلى حال السجون التي تؤوى شبابًا لم يقترف جرمًا أو تتلوث يداه بدماء أهله، لمجرد أن عَبَّرَ عن رأي لم يرق للطبقة الحاكمة، أو لترسانة القوانين المُعيقة للحريات، أو لحال "الحبس الاحتياطي" الذي تحول إلى عقاب جائر لجريمة مُلفقة أو غير مُحددة، أو للانتخابات التي تجري بالقوائم المُطلقة، وتترتب نتائجها قبل إجرائها، أو لحال وسائل "إعلام الصوت الواحد" الذي يسخر منه المواطنون، أو.. أو  مما يطول شرحه من أمثلة، لكي ندرك أن "ملف بناء الإنسان المصري"، إذا أردنا الحقيقة هو "ملف الملفات" بالفعل، وأن مسيرة المجتمع كله مرتبط ارتباطًا عظيمًا بـ"ملف الحرية"، ومسئولية عظمى، ينوء بحملها الجبال.