هل تجاوزت إسرائيل عتبة «الغموض النووى»؟ «3»
ألقينا فى المقالين السابقين، نظرة طائر على قضية «الغموض النووى» كاستراتيجية صهيونية مُعتمدة، منذ عهد أول رئيس وزراء للكيان الصهيونى، «ديفيد بن جوريون» فى خمسينيات القرن الماضى، للتعمية على امتلاك إسرائيل السلاح النووى، وللتشويش والتغطية على تواطؤ الولايات المتحدة والغرب البيِّن مع الجهد التسليحى النووى الإسرائيلى المدعوم دعمًا كاملًا من هذين الطرفين، الراعيين لمشروع إسرائيل الكبرى، ولـ«طمأنة» العرب، ومصر فى المقام الأول، وعدم استثارة مخاوفهم، الأمر الذى قد يدفعهم للتحرك فى مواجهة هذا الأمر الجلل، ولأسباب أخرى عديدة!
ونتيجة لسياسة «الغموض النووى» التى اتبعتها الإدارة الصهيونية من جهة، ولتواطؤ الغرب والولايات المتحدة، خاصةً بعد إزاحة «كينيدى»، وتولى خلفائه رعاية الابن الصهيونى المُدلل رعايةً كاملة من جهة أخرى، وللمواقف العربية التى لم تواجه الموقف الصهيونى بشكل يتوافق مع خطورة القضية النووية على الأمن الوطنى والقومى لسائر الدول العربية من جهة ثالثة، أُهملت معركة كشف حقيقة الترسانة النووية الصهيونية، وفضح مخاطرها، ومُطالبة المجتمع الدولى بعدم الكيل بمكيالين فى هذا السياق الخطر، والدعوة إلى فرض رقابة «الوكالة الدولية للطاقة الذرية» على المشروع النووى الصهيونى، وخضوع مفاعل «ديمونا» للمُتابعة مثله مثل باقى مفاعلات الدنيا، والتحسُّب من التوقيع على اتفاقية منع الانتشار النووى ما دام الكيان الصهيونى متحللًا من التوقيع عليها... إلخ.
ويُقر «أفنر كوهن» فى كتابه المُهم، «إسرائيل والقنبلة النووية»، والذى أنصح المهتمين بالاطلاع عليه ومطالعته فى أصله الإنجليزى أو ترجمته العربية، بأن الوضع الذى يوصف بـ«الغموض النووى» كان «نتاجًا للجهد الأمريكى الإسرائيلى المُشترك»، حسبما يتضح من مضمون الوثائق والمُستندات الأمريكية المُتعلقة بتطور وضع إسرائيل النووى حتى عام ١٩٧٠، والتى تمت إتاحتها للمعنيين، ورفع تصنيف السرية عنها فى بدايات عقد التسعينيات المنصرم، وأيضًا رفع الحجر عن المستندات الإسرائيلية، المُتَضَمِّنة الرسائل التى تم تبادلها، بشأن الوضع النووى الصهيونى، الرئيس الأمريكى «جون ف. كينيدى» ورئيسى الحكومة الإسرائيلية «ديفيد بن جوريون» و«ليفى أشكول».
ويُمكن دون أدنى افتئات على الحقيقة التأكد، بمُتابعة هذه المصادر الرئيسية للمعلومات، من حجم «التواطؤ» الغربى الإسرائيلى، بهدف التستر على الجهود الصهيو غربية، لتيسير حيازة الكيان الصهيونى السلاح النووى، وامتلاك أدوات توصيله وتفجيره، ومنع الدول العربية السادرة فى لا مبالاتها، ليس من محاولة التحرك لإحداث التوازن مع هذا الخطر الضخم المُحيط، وإنما حتى من مجرد الشعور بالخطر والتفكير فى حماية النفس من ويلاته!
ويعترف الكاتب، وهو كما سبق وأشرنا، أكاديمى يهودى إسرائيلى، أن «فرنسا كانت هى الدولة التى تعلمت إسرائيل على يديها كيف يُمكن لدولة ديمقراطية! السير على طريق الغموض النووى، بيد أن الولايات المُتحدة كانت هى الدولة العُظمى التى أسهمت ردودها على البرامج النووية الإسرائيلية، إلى حدٍ كبير، فى بلورة طريق إسرائيل الملتوية إلى الغموض»! (ص: ١٥).
ومن المُذهل أن يصل المؤلف إلى استنتاج مرير، من واقع ردود أفعال النظم العربية تجاه ما تسرب من حقائق، لا بد أنها لم تكن غائبة عن صناع القرار فى أغلب هذه النظم، بشأن المساعى الصهيونية الحثيثة، وعلى كل الجبهات: السياسية والعلمية والاقتصادية والعسكرية، لامتلاك السلاح النووى، إذ «طالما حافظت إسرائيل على هدوئها، فضلت الدول العربية اعتبار الأمر قضية هامشية! بل واستغلت الدول العربية، حسبما يجزم المؤلف، وتسانده الوقائع سياسة «الغموض النووى» الإسرائيلية «للحفاظ على مستوى متدنٍ من الاهتمام بشأن القضية النووية.. لقد شاءت المفارقة أن يصبح العرب شركاء هامشيين فى خلق الغموض النووى الإسرائيلى»، حيث «بات مقبولًا، فى عام ١٩٧٠، القول بأن إسرائيل تمتلك أسلحة نووية»! (ص: ١٧).
وفى هذا السياق، ترسخ مبدأ «الغموض النووى» الإسرائيلى، الذى صُكَّ القسم الأول منه فى عهد «ليفى أشكول» رئيس الوزراء الأسبق: «إن (إسرائيل) لن تكون أول مَن يُدخل الأسلحة النووية إلى الشرق الأوسط»، فيما أضاف «إيجال آلون»، العسكرى والسياسى الإسرائيلى السابق، وصاحب نظرية فى الأمن القومى اعتمدت عليها المؤسسة العسكرية الإسرائيلية فى رسم توجُّهاتها، إضافة هامة: «وأسمح لنفسى بالقول إنه لا يجب أن نسمح لأعدائنا أيضًا أن يكونوا أول مَن يُدخلها»! (ص: ٣٢٥).
واستطاعت «إسرائيل»، بمساعدات غربية علمية وتقنية منقطعة النظير، أن تتيقن من فاعلية إطلاق قنابلها النووية ونجاح عملية تفجيرها، دون إجراء تجارب تفجير عملية فعلية، كما حدث لمسارات الدول التى سبقتها فى المضمار النووى، وهى تكئة أخرى استخدمت كذريعة لتجاهل خطورة هذا الأمر بالنسبة للمنطقة وعلى السلم والأمن العالميين، وفى هذا السياق، لم تتردد وكالة المخابرات الأمريكية (C.I.A) من الادعاء بأنها: «فى انتظار إجراء إسرائيل تجربة تفجير نووى كى تُحدد مكانتها كدولة نووية»، مع التأكيد بأن: «الإسرائيليين يملكون سلاحًا نوويًا، وهم لا يُفكرون فى تجربته»! (ص: ٣٣٨).
وكذلك كان الإيهام الأمريكى والغربى الزاعم بأن «إسرائيل» قاب قوسين من الانضمام إلى «مُعاهدة الحد من الانتشار النووى»، إحدى أدوات الخداع الناجحة التى منحت الكيان الفرصة لاستكمال مشروعه النووى دون ضغوط أو «شوشرة» من هذا الطرف أو ذاك، والعربى على وجه التحديد، وزعمت جريدة «هآرتس» «٦ مايو ١٩٦٨، أى منذ أكثر من نصف قرن»، على سبيل الخداع والتمويه، أن «المعاهدة تدرس لدى الجهات المسئولة فى إسرائيل، ومن المتوقع أن يصدر بصدده قرار نهائى إيجابى فى وقتٍ قريب»، بل وبالغت فى الأمر إلى حد ادعاء جريدة «هآرتس» الإسرائيلية، ٢٨ مايو ١٩٦٨، «أن الحكومة الإسرائيلية قررت الانضمام إلى الدول المؤيدة للتوقيع على المعاهدة، رغم مخاوفها من أن يصبح مدى تطورها النووى معروفًا للجميع»! (ص: ٣٤١).
وبمزاجنا، كعرب، بلعنا هذا الوعد الكاذب أيضًا!