الوغرات الست
الموجات الحارة التى نعانى من ضرباتها فى السنوات الأخيرة، وأجهزت علينا هذا الصيف، مرتبطة بما يسمى «منخفض الهند الموسمى» الذى يؤثر على آسيا وإفريقيا وأوروبا، والذى يبدأ فى التشكل بالهند فى أبريل من كل عام، ويرتفع تأثيره خلال يونيو ويوليو، ويمتد أثره إلى شبه الجزيرة العربية وبلاد الشام وتركيا ومصر، ويضعف بداية من سبتمبر، قبل أن يتلاشى تمامًا فى أكتوبر. وقديمًا كان العرب يطلقون على تلك الفترات من الحرارة الشديدة اسم «الوغرات»، وقسموها إلى ست وغرات فى السنة وهى: الثريا والدبران والجوزاء والشعرى والعذرة وسهيل، تغطى المنطقة فى الفترة بين يونيو وأغسطس. خبراء الأرصاد غير متفائلين، ويتوقعون، سامحهم الله، الأسوأ.
دراسة من معهد ماكس بلانك لكيمياء الغلاف الجوى تحذر من عدم انخفاض درجة الحرارة الصغرى فى منطقتنا العربية، حتى نهاية القرن الحالى، فى ليالى الصيف عن ٣٠ مئوية، وستكون درجة ٥٠ مئوية رقمًا طبيعيًا!، جون نيرن، المستشار البارز لشئون الحرارة الشديدة فى المنظمة العالمية للأرصاد الجوية قال، قبل عام، إن «شدة هذه الأحداث (يقصد موجات الحر) ستستمر فى الازدياد، على العالم أن يستعد لمزيد من موجات الحر الأكثر شدة»، ويأتى تصريح الأمم المتحدة فى وقت وصلت فيه درجة الحرارة فى منطقة جنوبى إيطاليا فى العام الماضى إلى ٤٦ درجة مئوية، وهو رقم قياسى جديد فى أوروبا.
أتذكر واقعة حدثت معى قبل عشرين عامًا، كنت أيامها كنت أسكن فى العمرانية وأستقل مترو الأنفاق من محطة «أم المصريين» كل صباح للذهاب إلى عملى فى جريدة الأهرام، وعادة كنت أختار العربة الأخيرة لقربها من مدخل اتجاه المرج فى محطة «السادات»، كان يومًا شديد البرودة، كنت الراكب الوحيد فى العربة، جلست، وقبل إغلاق الباب دخل رجل ستينى فى غاية الأناقة يحمل جهاز «لاب توب»، وترك العربة كلها وجلس إلى جوارى، ولامست كتفه اليسرى كتفى اليمنى، وقبل أن أهمّ بالانصراف لغرابة ما يحدث، بدأ يوجه الحديث إلىّ بعصبية، وهو على وشك البكاء، قال إن البرد يحوله إلى شخص تافه، وإنه يكون أسعد رجل فى العالم فى شهرى يوليو وأغسطس من كل عام، الوقت الذى يشتكى فيه الآخرون من الرطوبة و«التلزيق»، وطوال الرحلة القصيرة لم يتوقف عن مدح الصيف والرطوبة، ووافقه آخرون انضموا إلينا فى المحطات التالية. تذكرت هذا الرجل وأنا أعانى مثل الجميع من الموجة الأخيرة، وكنت أتمنى أن ألتقيه لأعرف رأيه فيما يحدث، كنا ندرس ونحن تلاميذ أننا نعيش فى بلد حار جاف صيفًا دافئ ممطر شتاء، ولم نكن مشغولين بالتغير المناخى، ونلعب فى الشوارع فى «نقرة القيالة»، وإذا زادت درجة الحرارة كنا نسمع أحد العجائز يصيح بصوت عالٍ موجهًا الكلام تجاه شخص غير مرئى «هز الشيبة يا أبا بكر» لكى تأتى نسمة، فى الأيام الفائتة لم تهل أى نسمة بعد أن بح صوتنا.
سمعت قبل يومين وأنا ألتقط أنفاسى فى مقهى بلدى حوارًا طريفًا بين اثنين، أحدهما يبدو أنه يملك معلومات عن الطقس، يقول لصاحبه الذى يلبس جلبابًا ثقيلًا إن هذه الموجة قادمة من الجزيرة العربية ومستمرة معنا «شويتين»، فردّ عليه الرجل الذى يتصبب عرقًا «أهلًا وسهلًا.. بس ياريت يبعتوا معاها شوية فلوس نرفه بيهم عن نفسنا!». تزامنت هذه الموجة مع الغضب الذى نشعر به تجاه ما يحدث لأهلنا فى فلسطين على يد الاحتلال الغاشم الذى يباركه الغرب، ومع فتنة الشارع الرياضى، ومع معارك الأجيال الثقافية، ومع ارتفاع الأسعار غير المفهوم، ومع غياب الابتسامة عن ملامح المارة فى الشوارع، ومع ارتفاع نسبة المحبطين الذين لا يفعلون شيئًا فى الحياة غير تشويه الشقيانين الذين لا يتوقفون عن العمل والأمل.
أتذكر أيضًا كتاب «نظرية غايا» لجيمس لوفلوك الذى رحل قبل عامين عن ١٠٣ أعوام، وكان كتبه وهو على مشارف التسعين، عندما سمع أن اللجنة الحكومية لتغيرالمناخ «آى بى سى سى» توصلت إلى اتفاق حول المناخ فى المستقبل، صدمه ذلك، كيف يحدث اتفاق حول قضية علمية؟ واعتبر ما حدث ينتمى إلى عالم السياسة وغرف المحاكم، حيث يشكل الاتفاق طريقة ناجعة لحل الخلافات بين الناس، ولأن العلماء معنيون بالاحتمالات، وليس بالتأكيدات أو الاتفاق الجماعى، فيشك فى قدرة أى طرف على التنبؤ بمناخ ٢٠٥٠، وذكّر «علماء الاتفاق» بالتنبؤات حول المناخ الحالى التى قدمت فى الستينيات، والتى لم تلمح أى منها حتى إلى التغيرات التى جرت فعلًا، والتى تنبأ معظمها بأن العصر الجليدى أكثر احتمالًا من الاحترار العالمى، قليلون من يملكون رفاهية تجنب الطقس السيئ، وقلوبنا مع الذين يحتم عليهم عملهم تحمل هذا الجو القاسى، وأعانهم الله على تحمله، والصينيون عندهم مثل يقول: «ساعة واحدة من البرد سوف تمتص حرارة سبع سنوات».