هل تجاوزت "إسرائيل" عتبة "الغموض النووى"؟ (2)
أشرنا في المقال السابق إلى كتاب البروفيسور اليهودي "أفنر كوهين"، والمعنون بـ"إسرائيل والقنبلة"، الذي يتناول بالفحص والتمحيص قضية "الغموض النووي" الذي ألقى الكيان الصهيوني بأستاره على حقيقة امتلاكه للسلاح النووي، بتواطؤ وتدليس من أغلب الدول الغربية والولايات المتحدة، بل وحتى الهيئات الرقابية الدولية المعنية برقابة مساعي الدول في هذا الاتجاه!
ويرصد "كوهين" في مدخل كتابه المُهم، الصادر بالإنجليزية عام 1997، تأريخًا مُوجَزًا لقصة الكيان الصهيوني مع القنبلة النووية: "لقد بدأت "إسرائيل" في تطوير برامجها النووية بصورة جدّية قبل أربعين سنة (من صدور الكتاب، أي نحو عام 1957) عندما أنشأت بنيتها النووية في "ديمونة"، وخلال عامي 66 - 1967 استكملت تطوير سلاحها النووي الأول، وعشية نشوب حرب 1967 كان بحوزتها مقدرة نووية مبدئية كاملة، مثلما يقول وزير العلوم السابق "يوفال نئمان" في كتابه "إسرائيل في عهد الأسلحة النووية: تهديدات وردع"، وفي عام 1970 كانت مكانة "إسرائيل" كدولة تمتلك أسلحة نووية قد باتت مُسَلَّمة مقبولة".
والمعلوم أن "إسرائيل" كانت الدولة السادسة في العالم، والأولى في منطقة "الشرق الأوسط" التي امتلكت سلاحًا نوويًا، وعلى العكس من موقف الدول الخمس التي سبقتها إلى إعلان تصنيعها للقنبلة: الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد السوفيتي، والمملكة المتحدة، وفرنسا، والصين، فإن "إسرائيل" لم تُقر رسميًا ـ حتى اليوم ـ حيازتها للسلاح النووي، منذ أن أعلن "ليفي أشكول"، (ثالث رئيس وزراء، من 1963 إلى 1969)، عن أن "دولته": "لن تكون أول من يُدخل الأسلحة النووية إلى الشرق الأوسط"، وهو المبدأ الذي التزم به جميع رؤساء الحكومات الصهيونية المُتعاقبة، وكل مسئوليها، حتى الآن، وإن أضاف له البعض جُملةً كاشفةً: "ولن تكون الثانية!"، وقد أُطلق على هذا الوضع وصف: "الغموض النووي"، فهو يجعل الآخرين، "والمعنيين منهم بالذات" في حيرةٍ من أمرهم: أتملك "إسرائيل" هذا السلاح الفتّاك، أم لا تملكه؟!
ولخطورة هذا الأمر قامت الإدارة الصهيونية بفرض سرية قاطعة؛ وحظرًا كاملًا للنشر، حول كل عناصر ومقومات مشروعها النووى، واقتصر أمر العارفين بتفاصيله على ثلاثة أشخاص: "ديفيد بن جوريون"، أول رئيس وزراء للكيان، و"شمعون بيريز"، السياسي الموثوق لدى "بن جوريون"، بوصفه المدير الرئيسي للمشروع، و"أرنست برجمان" العالِم المُتخصص عن التخطيط والتنفيذ التقني.
وتبعًا للأوضاع والظروف الداخلية، والإقليمية، والدولية صاغت "إسرائيل" سياستها النووية من مُنتصف الخمسينيات وحتى عام 1970، وفق ركائز أربع أساسية: "السريّة، والنفي، والضبابية، والغموض"، بهدف تضليل "الآخرين"، و"العرب" بشكل أساسي، ومصر بصورة أخص، عن حقيقة نواياها في هذا السياق، درءًا لمخاطر إطلاق سباق نووي شرس يُهدد انفرادها بهذا الوضع المتميز، ولإثارة ما أُطلق عليه "الردع بالشك" لترويع كل الأطراف المُعادية من جهة، ولعدم إثارة قلق الجهات المُتحفظة في الوطن العربي أو العالم.
وفي نشوة انتصار 1967 العسكري، تقدمت "إسرائيل" خطوة للأمام في مشروعها دون أن تتخلى عن موقف "الغموض النووي" الدائم، بالانتقال إلى وضع وصفه المختصون بـ "قنبلة في القبو": (Bomb in the Basement)، وهو مصطلح يُستخدم في الأدبيات النووية للإشارة إلى سيناريو مُحتمل، يتمثل في امتلاك دولة ذات معرفة نووية وإمكانات تقنية لتصنيع أسلحة نووية بشكل سري، داخل مُجمعات محميّة (كالأنفاق أو الأقبية)، وبعيدًا عن الرصد الدولي والمراقبة الإشعاعية الدقيقة، أو محاولات الاستهداف.
وشاع في أعقاب حرب أكتوبر 1973 أن رئيسة وزراء الكيان الصهيوني آنذاك، "جولدا مائير"، بعد أن أفزعتها نتائج عملية العبور الناجح لعائق قناة السويس وموانعه، والاجتياح المُفاجئ لخط "بارليف" واستحكاماته، أمرت بتجهيز مُقَوِمات الرد النووي، لإيقاف الزحف العسكري المصري الذي أثار الهلع والخشية على مصير "الدولة"، تنفيذًا لمبدأ "الخيار شمشون"، أي هدم "المعبد" على رءوس الجميع، حال تهديد مصير "دولتهم" تهديدًا وجوديًا لا راد له!
ثم، وأخيرًا فقد رأينا "وزير التراث اليهودي"، المدعو "عميحاي إلياهو"، يدعو لضرب أهل غزة بالقنبلة النووية، لكي يلهو بأرواح ملايين البشر، دون أن يُعتريه أدنى إحساس بالذنب، وكأنه مجنون أرعن!
وكما ذكرنا في المقال السابق، فقد اعتمد المجهود النووي الصهيوني في تكوينه التأسيسي على الدعم الفرنسي السخي، وكان جانب من هذا الموقف الفرنسي العدائي ردًا على تأييد مصر الحاسم لثورة الشعب الجزائري على الاحتلال الفرنسي الغاشم.
كما أشار الأستاذ "محمد سلماوي"، في مقاله المُهم المُعنون: "من قتل كينيدي؟"، (الأهرام ـ 19 يونيو 2024)، إلى كتاب أصدره الكاتب الأمريكي "مارتن ساندلر" مؤخرًا، ضمَّ الرسائل المُتبادلة بين الرئيس الأمريكي "جون كينيدي" والرئيس "جمال عبدالناصر" حول مُلابسات الصراع العربي - الصهيوني، والرسائل المُتباَدلة بين الرئيس "كينيدي" ورئيس الوزراء الصهيوني "بن جوريون"، والتي أبرزت التناقض ونشوب أزمة حادة بينهما، على خلفية محاولة "كينيدي" إقرار معاهدة دولية للحد من الانتشار النووي، تخضع لشروطها "الدولة" الصهيونية ومؤسساتها النووية وخاصةً مفاعل "ديمونة"، ويوجه المؤلف الاتهام الصريح لجهاز "الموساد" الصهيوني بقتل "كينيدي"، حتى يُزيح أية مخاطر مُحتملة قد تنال من فرص امتلاكهم لـ"سلاح يوم القيامة"!
وللأسف الشديد فقد نجحت سياسة "الغموض النووي" الصهيوني نجاحًا ملحوظًا حتى الآن، وآية ذلك التقريرالذي أصدره "معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام" ـ (سيبري)، (الأهرام ـ 19 يونيو 2024)، حول "ترسانة إسرائيل النووية"، والذي أكد فيه امتلاك الكيان الصهيوني 90 رأسًا نوويًا، وأشار التقرير إلى أن إسرائيل تعمل حاليًا على تفعيل "البلوتونيوم" في مفاعل "ديمونة" النووي، وهي تحتل الآن الموقع الثامن في عِداد أعضاء "النادي النووي" الدولي، بما تملكه من قنابل نووية مُتعددة القدرات والأغراض، ووسائل توصيلها: طائرات استراتيجية، وصواريخ حاملة... إلخ. (يتبع).