رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هل تجاوزت «إسرائيل» عتبة «الغموض النووى»؟

فى صدمة وهول عملية التدمير المنهجى الشامل لقطاع غزة: بشرًا وحجرًا، على النحو الإجرامى الذى شاهدناه بعد وقائع عملية «طوفان الأقصى»، وما زلنا نشاهده حتى الآن، فات الكثيرون، والدول العربية المعنية على وجه الخصوص، أمرًا على درجة بالغة من الأهمية، كان من الواجب إيلاؤه الحد الأقصى من الاهتمام، والاستفادة منه إلى الحدود الأقصى من الاستفادة، بالنظر إلى خطورته البالغة لا على أمن ومستقبل وطننا وحسب، وإنما على أمن ومستقبل العالم كله.. دون تهويل أو مبالغة.

والأمر المشار إليه يتعلق بالاعتراف الصريح لعدد متواتر من قادة ومسئولى الكيان الصهيونى بامتلاك القنبلة النووية فى صورها المتعددة والشاملة، وحيازة وسائل إطلاقها الاستراتيجية، ليس هذا وحسب، وإنما أيضًا بالتهديد والإلحاح فى المطالبة والتحريض على استخدامها فى مواجهة الشعب الفلسطينى الأعزل، بعد عقود طويلة من الإنكار والتهرُّب من الاعتراف بهذا الأمر الجلل، بتواطؤ بيِّن من كل الدول الاستعمارية الكبرى التى اصطنعت هذا المسخ العدوانى الشائه، ويسَّرت له الاستيلاء على الأرض الفلسطينية والعربية، وحمته من الاندحار أو التفسخ، ودعمته دعمًا لا حد له فى سبيل استكمال غاياته وأداء دوره «الوظيفى» فى المنطقة.

وقد تكررت وتواترت الدعوة لاستخدام السلاح النووى بهدف حسم الحرب بين الكيان الصهيونى ومقاومة الشعب الفلسطينى، بواسطة أعضاء فى «الكنيست»، لكن أبرز هذه التهديدات ما جاء على لسان وزير التراث الإسرائيلى، «عميحاى إلياهو»، العضو القيادى بحزب «القوة اليهودية» الإرهابى، الذى يتزعمه اليمينى المتطرف «إيتمار بن غفير»، حيث نادى «إلياهو» بوضع حد لاستنزاف القدرة العسكرية الصهيونية فى الصراع ضد الفلسطينيين، بإبادتهم دفعة واحدة «!» من خلال استخدام القنبلة النووية، حتى لو كان ثمن ذلك مقتل جميع «الأسرى» الإسرائيليين. 

كما يجب ألا ننسى دعوة الوزير الصهيونى المتطرف الأسبق «أفيجدور ليبرمان» لضرب «السد العالى» بالقنبلة النووية لإغراق مصر وإبادة أهلها، وكذا الاستعدادات العسكرية الإسرائيلية، تحت قيادة «جولدا مائير»، عام ١٩٧٣، لاستخدام السلاح النووى ضد مصر، إذا هددت نتائج الحرب وجود الكيان الصهيونى وحياة سكانه.

وقد قوبلت هذه التصريحات الخطيرة فى الأوساط الدولية والمؤسسات «الأممية»، وأجهزة الرقابة على المساعى النووية للدول، بتجاهل تام، وإعراض مفضوح عن تقييمها واتخاذ الإجراءات الواجبة تجاهها، على نحو ما تم مع محاولات أولية فى العراق وسوريا، أو حتى على نحو ما يجرى الآن مع إيران، وهى الإجراءات التى اتخذت فى مواجهة خطوات لم ترق أبدًا إلى تصنيع وامتلاك السلاح النووى ووسائط نقله وإطلاقه، كما فعل الكيان الصهيونى. 

وللبحث عن «السبب» فى هذا الموقف، فعلينا جميعًا أن نتذكر مقولة: «أنا صهيونى، ولو لم تكن إسرائيل موجودة لكان علينا اختراعها».. الجملة «الشهيرة» لـ«جو بايدن»، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، والشخص الرمز لهذه القوة العظمى الدولية: أغنى الإمبراطوريات، وأشدها جبروتًا، وأكثرها ضراوةً وبطشًا.

وهى جملة ذات دلالة عميقة، يجب ألا نغفل عن مغزاها أبدًا.. فهى تدل، بقطع لا مزيد عليه، على عمق العلاقة بين الطرفين، وعلى أهمية ودور الكيان الصهيونى فى سياق تأمين المصالح الاستراتيجية الأمريكية والغربية، وتعكس، بعيدًا عن الشعارات الرنانة كـ«الدفاع عن الحريات» والانتصار لـقيم «الديمقراطية» وما شابه، حقيقة دور أمريكا ودور دول الغرب الاستعمارى فى صناعة، وصياغة، وحماية الكيان الصهيونى، ووقايته من أى مخاطر تتهدده، أو أزمات تواجهه.. لأنه باختصار «القاعدة المتقدمة» الحامية لمصالحهم فى منطقتنا، ودورها الرئيسى الاستعداد للتدخل من أجل وأد كل محاولة للاستقلال والنهوض والتجمع، فى أهم بقاع الأرض وأغناها وأخطرها جيو سياسيًا: الوطن العربى، وهو الدور الذى حدده، بدقة، الإرهابى «أريئيل شارون»، الجنرال ورئيس وزراء الكيان الأسبق، حين وصف الكيان الصهيونى بأنه: «حاملة طائرات رخيصة التكاليف جاهزة فى أى لحظة لحماية مصالح أمريكا والغرب»، أى للعب دور «كلب الحراسة» على حد التعبير الذى كان سائدًا فى ستينيات وسبعينيات القرن الماضى، لوصف الأنظمة العميلة والتابعة لأمريكا وحلفائها، التى يطلقونها على الشعوب الطامحة للاستقلال، وعلى الخصوم، لترويعهم، وللاقتصاص منهم عقابًا على مواقفهم المتمردة.. متى شاءوا.

وعودة إلى موضوع امتلاك الكيان الصهيونى القنبلة النووية، فلا جديد فى تأكيد الدور الغربى، وبالذات الفرنسى فالأمريكى، فى دعمه بالتقنيات الذرية، التى يسرت للكيان اختصار الوقت والجهد والمال فى هذا المسار، والسبب فى سعيه لامتلاك هذا السلاح الخطير، الذى أُطلق عليه اسم سلاح «يوم القيامة» أو «الملاذ الأخير»، «وقد تأكد هذا بعد (طوفان) ٧ أكتوبر وتوابعه المستمرة حتى الآن»، هو الشعور العميق لقادته بأن اغتصابهم للأرض الفلسطينية، ومحاولاتهم الدءوبة لاجتثاث الشعب الفلسطينى من الجذور، وهو شرط ديمومة المشروع الصهيونى الأساسى، يصعب تحقيقه فى مواجهة الإرادة الفلسطينية البادية فى التشبث بالحق التاريخى مهما كانت ضراوة الفعل الصهيونى، على نحو ما نراه ماثلًا للعيان، على امتداد أكثر من تسعة أشهر كاملة من العدوان الإجرامى والتدمير المنهجى وحرب الإبادة البشرية.

وعلى الرغم من أن كل الدلائل كانت تشير إلى أن هذا الأمر، أى امتلاك الكيان الصهيونى السلاح النووى، قد أصبح أمرًا محققًا منذ عقود، فإن أيًا من القادة الصهاينة لم يرد على لسانه اعتراف صريح بهذا الوضع، اتباعًا للتكتيك الذى صاغه «ليفى أشكول»، رئيس الوزراء الأسبق، بقوله: «إن (إسرائيل) لن تكون الدولة الأولى التى ستدخل الأسلحة النووية إلى (الشرق الأوسط)»، وأضاف إليه البعض أحيانًا: «ولن تكون الثانية»، لكى يزداد الأمر غموضًا والتباسًا كانا مقصودين، لإبقاء المحيط العربى فى حالة من التخبط والارتباك وعدم اليقين والحسم، ومن ثم التشويش على وجوب التحرك الإيجابى لمجابهة الأخطار المترتبة على التأكد من هذا الوضع الخطر، والسعى للرد عليه بشتى الطرق والوسائل المتاحة، لاستعادة التوازن المصيرى مع (جار السوء) المتلمظ، إن لم يكن العدو الشرس الذى يتحرش بنا من كل اتجاه.

ولعل أهم وأعمق وأشمل ما كتب فى هذا الشأن، هو التحقيق الأكاديمى السياسى العسكرى الواسع، المتضمن فى كتاب البروفيسور الإسرائيلى «أفنر كوهن»، والمعتمد على ما سمح بالاطلاع عليه من وثائق كانت محظورة النشر، فى الأرشيفات الإسرائيلية والأمريكية والغربية، والذى صدر بالإنجليزية، عام ١٩٩٧، تحت عنوان: «Israel and The Bomb»، وترجمته إلى العربية وأصدرته «دار الجليل للنشر والدراسات والأبحاث الفلسطينى»، بعمّان، الأردن، عام ٢٠٠١ فى نحو أربعمائة صفحة من الحجم الكبير، والذى بحث باستفاضة «المعايير الداخلية السياسية والاجتماعية والثقافية والمعايير السياسية والإقليمية والعالمية للغموض النووى الإسرائيلى»، انطلاقًا من تعريف مصطلح «الغموض النووى» بوصفه: «مصطلحًا نموذجيًا لوصف تصرفات مروجى وناشرى الأسلحة النووية من الجيل الثانى»، وباعتباره «يعنى وضعًا لا يتم خلاله التأكيد رسميًا على حيازة السلاح النووى لدى دولة ما من قبل زعيمها، رغم أن الدلائل التى تشير إلى حيازة تلك الدولة الأسلحة النووية شديدة إلى الدرجة التى تؤثر على مفاهيم وأعمال دول أخرى». 

ولأهمية هذا الكتاب ومضمونه، دعونا نبحر ببعض التوسع فى صلب أفكاره، لارتباطها العضوى بأمن بلادنا ومستقبل السلم والاستقرار فى منطقتنا والعالم.