مفاجآت شاعر عزبة المعاشات يسرى زكى.. بعد رحيله
يسرى زكى «١٩٧٠- ٢٠٢١»، دون مبالغة، هو أنقى صوت شعرى نثرَ عبيره علينا فى السنوات الأخيرة، ومن القليلين الذين يصعب تصنيف قصيدته، هو يكتب بالعامية، وقرأت أن له تجارب فى الفصحى، أنت أمام فن الشعر الإنسانى الذى يخطف القلب ببساطة وعفوية وعمق، أيضًا، ولا يلتفت إلى تصنيفات عامية وفصحى وتفعيلة وعمودى ونثر، هو لا ينتظر مجدًا من الكتابة ولا يبحث عن مكانة، هو شاعر تجلى إبداعه قبل رحيله بسنوات قليلة، ومع هذا تشعر فى قصائده بطزاجة البدايات وعنفوانها، لا أذكر أننا التقينا، ومع هذا أشعر بأنه صديق قديم، نبهنى إليه الصديق الشاعر محمود الحلوانى الذى ينشر له قصيدة كل جمعة على صفحته على فيسبوك، وعرفت أنه بعد عودته إلى كتابة الشعر كان ينشر قصيدة كل جمعة، الزميلة رشا حسنى أعدت عنه ملفًا رائعًا ضم قصائده غير المنشورة فى مجلة «أدب ونقد» هذا الشهر، تعرفنا من خلاله على جوانب من شخصية وحياة شاعر ولد فى عزبة المعاشات بمركز أشمون محافظة المنوفية، وتربى فيها، وشهد أيضًا التحولات العنيفة التى حدثت فى ريف الدلتا، عاش آخر أيام الزراعة التقليدية، أيام كان الفلاح المصرى يؤدى رسالته المقدسة، ولا يعرف غير العمل وملاطفة الطبيعة من أجل النماء، الفلاح الذى تعامل مع الكون بمنطق المتصوفة، والذى استدعى يسرى زمنه بقوله «زى قلوبنا ما كانت مفتوحة لبعض/ كانت دورنا مفتوحة على بعض»، انتقل الشاعر إلى القاهرة ليدرس الطب البيطرى فى الجامعة، وهو فى السنة النهائية، رحل الأب، ولأنه الأكبر بين أشقائه تحمل المسئولية، وعمل فى مجال الدعاية الطبية الذى أبعده عن الشعر، وتم اختطافه فى زنازين الحياة، حسب تعبيره، ولكنه عاد إلى كتابته مرة أخرى بعد عودته إلى قريته عزبة المعاشات فى ٢٠١٧، ربع قرن فى مفرمة الحياة، بالطبع كبر الشاعر الذى بداخله، وقرر أن يخرج إلى النور، لم تعد القرية التى تركها كما كانت، فحاول من خلال فطرته النقية أن يثبت صورة الزمن الذى كان الفلاحون فيه يسطرون أسطورتهم العظيمة بعيدًا عن تعقيدات الزمن الجديد بمعداته ورجال أعماله وجبروت السوق المفتوحة، الطبيب البيطرى عاد إلى بلده محملًا بشجن من نوع نادر، انحاز إلى عالم المتصوفة وانخرط فيه، وبدأ يكتب وكأنه يدافع عن العذوبة التى قل منسوبها، «الترعة بتعرف ملامحنا/ كنا بنقعد ريحها وهى بتقعد ريحنا/ كانت تضحك لما بنتسابق/ على أول واحد بيدوخ.. لما يدور على آخر واحد يوصل للبر التانى/ على أول واحد بيموت م الضحك.. على أحسن واحد يمسك بإيديه النور». فى ٢٠١٨ صدر ديوانه الأول «بيان حالة» عن دار النسيم، وفى ٢٠٢٠ صدر ديوانه الثانى «باعيش عجوز وباموت صبى» عن هيئة الكتاب، كان يكتب بغزارة، ويخطط لمشاريع، نشر بعض قصائده فى المجلات، ولكن قصيدة كل جمعة هى التى عرفت الناس عليه، لم ينتبه عشاق الشعر الجميل لمنجزه للأسف إلا بعد رحيله، وبفضل أصدقائه المحبين أمثال الحلوانى. يسرى زكى يُشبه قطاعًا كبيرًا من الشعراء الذين ولدوا فى الدلتا وخطفتهم القاهرة، ولكنه يختلف عنهم لأنه أكثر جرأة حين قرر العودة إلى مسقط رأسه بعد أن اكتشف قسوة المدينة التى لا ترحم الشعراء، احتفظ ببراءة النازح وهو عائد، واستعان بخبرات السعى والذوبان فى الناس، وأيضًا ظلل روحه بعطر المتصوفة فصنع شعرًا لا مثيل له فى هذه اللحظة التى يشعر فيها كثيرون أنهم ضحايا زمن يشعر فيه الشعراء بأن قصائدهم لا تعنى أحدًا، طريقته فى القنص تبدو سهلة، استطاع أن يجمع فيها بين طريقة أحمد فؤاد نجم وصلاح جاهين وعبدالرحمن الأبنودى، ومع هذا تميز بصوت ريفو صابح، صوت خفيض مشحون بأسى وشجن ولماحية ورقة، تشم فى قصائده طراوة قرانا التى كانت قرى، تقرأ له وكأن أحد أقاربك المحببين إلى قلبك يحكى لك عن عالم اختفى ونعيش وسط أطلاله، فى قصيدة استهلها بـ«وانتَ راجع م البلد آخر الإجازة/ هاتلى وياك حِفنِتين من شمس طازة». يقول «هاتلى ليل أصبح نهار واللمبة جاز/ هاتلى ريحة طرحة أمى وهيا راجعة من الحجاز/ هاتلى صوتى وهو بيحيى العلم ف آخر الطابور/ والحروف لازقة بتحضن بعضها والدنيا تلج/ والسنان بتعض فى كتف الحياة/ والرجول بتدب فى وش التراب/ صفا وانتباه». قصائد يسرى زكى محملة بطاقة إيجابية رغم الأسى، ولا تخلو من خفة ظل واستثمار تراث البداهة، ففى قصيدته «أنا رجل الشارع العادى» يقول «أنا حاجة اتنست فى الركن/ أنا الشهقة اللى قبل الموت/ وأنا اللوعة اللى بعد الحضن/ أنا نهاية طريق فاضى/ بلا بكرة/ بلا حاضر/ بلا ماضى/ أنا المولود كدا.. خواف/ أنا المسجون فى عيشى الحاف/ ولا مرسومة ولا تتشاف/ حدود موتى وميلادى/ أنا (رجل الشارع العادى)». ألف رحمة ونور على روحه الطيبة.