رجعوا التلامذة!
مشهورةٌ الأغنية المصرية "رجعوا التلامذة ياعم حمزة"، التي ذاع صيتها وامتد، بأصولها التي شاعت منذ ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، وبتصاعد حضورها طوال عقد السبعينيات الفائت مع بروز دور وتأثير الحركة الطلابية الوطنية، التي تفجَّرت طلبًا للحرب ضد العدو الصهيوني، وطرده من أرض مصر المُقدسة التي كان يُدنسها باحتلاله، بعد أن أعاد صياغة نصها القديم وتحديثه الشاعر الكبير "أحمد فؤاد نجم"، ولحنها وغناها الملحن والمُغني العظيم الشيخ "إمام عيسى": "رجعوا التلامذة ياعم حمزة للجد تاني، يا مصر دا انتى اللى باقية، وانتى.. قطف الأمانى، لا كوره نفعت، ولا أونطة، ولا المناقشة وجدل بيزنطة، ولا الصحافة والصحفجية، شاغلين شبابنا عن القضية، قيموا لنا صهبة يا صهبجية، وسمّعونا طعم الأغانى.. رجعوا التلامذة".
أسترجع رجع صدى هذه الأغنية المؤثرة، وما كانت تبثه في جموع الطلاب الحاشدة من حماسة وروح وطنية مُستعدة لفداء الوطن بالغالي والنفيس، وأنا أُتابع باهتمام وقائع "طوفان التضامن" الشعبي والطلابي الهادر، مع فلسطين وقضيتها العادلة، الذي يغمر ساحات الشوارع وباحات الجامعات الأمريكية والأوروبية الآن: عشرات التجمُّعات والجامعات تنضم كل يوم لحملة غير مسبوقة في أمريكا وأوروبا، شعارها الأساسي: "الحرية لفلسطين"، "أوقفوا حرب الإبادة في غزة"، ومنها على سبيل المثال جامعات: "ميرلاند، نورث كارولينا، معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، جامعة بوليتكنيك، جامعة تكساس، جامعة بنسلفانيا، جامعة كولومبيا، جامعة بيل، جامعة بيركلي، جامعة نيويورك، جامعة، جامعة ميشيجان، جامعة تافتس، جامعة مينيسوتا، جامعة ستانفورد، جامعة هيوستن، جامعة رايس، وغيرها، مُتحدية في ذلك المُجَمَّعات السياسية والصناعية والمالية المرتبطة بالنفوذ الصهيوني البالغ التأثير في أمريكا والغرب، وفي تحدٍ شُجاع وسافر للجماعات والتنظيمات الصهيونية النافذة وعلى رأسها تنظيم "الأيباك" النافذ، وسائر الإدارات الرسمية للولايات المتحدة والغرب، المتواطئ أغلبها مع المشروع الصهيوني الإرهابي، الذين هم صُنَّاعه بالأساس؛ ورُعاته على امتداد قرن وربع القرن، منذ "المؤتمر الصهيوني الأول" بزعامة "تيودور هرتزل" عام 1897، إلى مؤامرة "سايكس ـ بيكو" عام 1916، ثم "وعد بلفور" عام 1917، واغتصاب فلسطين عام 1948، وحتى الآن.
وبالطبع لم يصمت رمز، ورأس جريمة حرب الإبادة الخسيسة المُستمرة منذ أكثر من سبعة أشهر، الصهيوني القاتل "بنيامين نتنياهو"، فيما يسمع رجع الهتافات العفيّة للشباب والطلاب في أرجاء العالم، وهم يرفعون أعلام فلسطين، ويلتحفون بكوفيتها الشهيرة، ويُعلنون انتصارهم للقضية الفلسطينية العادلة، وإدانتهم لجرائم الإبادة المُرَوَّعة لأبناء الشعب الفلسطيني، فراح يهاجمهم مُستخدمًا أسلحته (التاريخية) الفاسدة، التي طالما وجَّهها إلى صدور كل من انتقد مُمارساته ومُمارسات كيانه الإجرامية الوضيعة، بترويج الأكاذيب المُختلقة، وأولها الاتهام بـ"معاداة السامية": "ما يحدث في الجامعات الأمريكية فظيع، العصابات المُعادية للسامية استولت على الجامعات الرائدة. إنهم يدعون إلى إبادة إسرائيل، ويُهاجمون الطلاب اليهود! هذا يُذَكِّرُ بما حدث في الجامعات الألمانية في الثلاثينيات (يقصد عهد هتلر!)، هذا غير معقول ويجب أن يتوقف. يجب أن يُدان، ويُدان بشكلٍ لا لبس فيه. يجب أن يحدث ذلك، ليس فقط لأنهم يُهاجمون إسرائيل. هذا سيئ بما يكفي، ليس فقط لأنهم يحرضون على قتل اليهود أينما كانوا، ولكن لأنهم حين نسمعهم فإنهم لا يقولون وحسب: "الموت لإسرائيل"، "الموت لليهود"،.. ولكن "الموت لأمريكا"، وهذا يُخبرنا أن هناك تصاعدًا لمشاعر مُعاداة السامية، والتي لها نتائج مُريعة"!
وكان أبلغ رد على هذه الأكاذيب والتُرَّهات، وعلى التحريض ضد الطُلَّاب الأبرياء، بصوت وصورة الطُلَّاب أنفسهم:
ـ "أنا "زاك".. الطالب اليهودي بجامعة "ميشيجان": "نحن نعتصم هنا حتى تنأى الجامعة بنفسها عن إسرائيل، لا أحدٌ منا حر.. وحتى نُصبح جميعًا أحرارًا".
ـ "أنا "جوي"، العضو في جماعة "يهود من أجل وقف النار الآن". نُطالب إدارة الجامعة بوضع حد لقمعهم المُستمر للطُلَّاب المُحتجين، المُدافعين عن حرية فلسطين"!
ـ "أنا "سارة"، الطالبة اليهودية، لم أشعر قط بالفخر لكوني يهودية، وأعظم انسجامًا مع قيمي الدينية، أكثر مما شعرت به عندما أخرجوني من أرض جامعة "كولومبيا"، ويداي مُكبلتان خلف ظهري، مع 107 من الطُلَّاب الآخرين، يُخاطرون بالسلامة والمنع من الحضور للجامعة من أجل دفع جامعتنا للابتعاد عن الإبادة الجماعية والفصل العنصري واحتلال فلسطين"!
لقد حرَّكت حرب "غزة"، بوحشية وانحطاط "نتنياهو" وشراذمه وعصابته، وفي المُقابل بصمود وتضحيات الشعب الفلسطيني، وبالدماء الطاهرة للشهداء الأبرار، الركود الذي كاد يخنق القضية برمتها، ويدفع بها إلى مهاوي النسيان، وغيرت "المزاج العام" لشعوب العالم، بعد أن اتضحت أمام أعينهم، في لحظة "تنوير" نادرة، حقيقة المشروع الاستعماري الصهيوني، التى تم إخفاؤها ببراعة على امتداد أكثر من 125 عامًا!
وفي ضوء هذه اللحظة الكاشفة، أدرك الناس العاديون أصحاب الضمائر الحيّة، وفي مُقدمتهم الشباب والطُلاَّب والمواطنون البُسطاء، طبيعة الكيان الصهيوني الهمجية، التي لا تُقيم اعتبارًا لحق، ولا تحترم قانونًا، أو شرعًا، أو مبدأ!
لكن الأهم أنهم اكتشفوا كذلك الحقيقة المُذهلة لكذبة اسمها: "الديمقراطية الأمريكية"! فقد رُبوا وتثقفوا، وكذلك الأمر في بلادنا وفي أغلب بلاد العالم، على ما أُشيع وروّج له، من أن أمريكا هى رمز الحرية وتاج الديمقراطية وراعية حقوق الإنسان في الكرة الأرضية، فإذا بهاـ قيادةً ومؤسساتـ لا تُطيق من شبابها أن يُعبروا عن آرائهم، فتدوس على "الضمانات "الدستورية" المزعومة، وتقمعهم بوحشية بعد أن تم غزو حرم جامعاتهم بقوة الأمن وبطشه، وتعتقل الشباب الغض الذي تجرأ على أن يهتف: "تحيا فلسطين.. فلسطين حرة"!
ولكن الأمر الأخطر الذي انزاحت عنه ستائر الوعي الزائف، وتَكَشَّفت حقيقته البائسة أمام الأجيال الجديدة، أن المُجرم الحقيقي والأخطر هو الولايات المتحدة نفسها، ورئيسها المتواطئ الأكبر، الذي دلَّل الكيان الصهيوني، حتى وهو يَلُغُ في دماء شعب أعزل يُطالب بحقه في الوجود وفي الحياة، فكان أن كافأ القاتل بعشرات المليارات من الدولارات، فضلًا عن مئات الأطنان من أحدث الأسلحة الفتّاكة الحديثة، وكفل له الحماية بأساطيل الولايات المتحدة وصواريخها وطائراتها من الهجمات المُضادة، تشجيعًا له على جرائمه التي ستلحق به وبها العار الأبدي!