المرآة.. قصاصات مربكة من إبداعات تاركوفيسكى
نشأت السينما الروسية في أواخر القرن التاسع عشر إبان العهد القيصري وانطلاق أول عروضها بفيلم مدته عشر دقائق بعنوان ستينكا رازين لاليكسندر درانكوف والذى يعد انجازا كبيرا في هذا الوقت حيث تم مزج بين الصوت والصورة عن طريق تشغيل اسطوانة موسيقية توازي احداث الفيلم.
ربما لم تحصل الأفلام الروسية على مساحة العرض السينمائي التي تليق بتاريخها ومدارسها المختلفة في مصر والدول العربية، فينتظر عشاق السينما الروسية والشرق أوروبية عروض المهرجانات وبذلك لابد من البحث عن هذه الكنوز السينمائية التي صنعها أشهر مخرجي العالم من قلب روسيا، خاصة قبل فترة التسعينات المرتبكة والتي عانت فيها من انقطاع دعم الدولة للأعمال السينمائية مما فتح مجالا واسعا لانتشار الأفلام سيئة الجودة وسيطرة السينما الأجنبية على دور العرض الروسية.
مرآة اندري تاركوفيسكي السحرية.
لا أجد أفضل من فيلم "المرآة" للمخرج لكي أقدمه كاحد الأفلام التي لم يشاهدها كل من هو مهتم بالسينما غير التجارية، ان تاركوفيسكي تميز باستخدامه للنمط الفلسفي المستند على المثيولوجيا أو علم الاساطير والحكايات الشعبية المرتبطة بالمكان حيث يغوص فى أعماق الحكايا المعروفة سلفا وترجمتها بأسلوب شعري راق باستخدامه الرمزية والدلالات المعبرة.
صنع تاركوفيسكي سيرة ذاتية غير مرتبة الأحداث الزمنية بل تبدو أن الراوي يسرد تفاصيلها طبقا للأحداث التي يرغب في الحديث عنها أو تلك التي تقفز إلى ذاكرته فيخبرنا بها، حيث يدور الفيلم من خلال ثلاثة أجيال هم الراوي الذى لا يظهر وجهه طوال وقت الفيلم منذ بدأت الأحداث بمشهد له كمراهق صغير مصاب بتأخر في الكلام ويحاول التحدث، وعندما تحدث يظل يتذكر طفولته مرورا بفترة المراهقة تلك وعلاقته بوالدته وتشبيهها بزوجته، المرآة كانت العامل الأساسي الذي يستعين به أبطال الفيلم لاستحضار الماضي ودفعه في قفزه تاريخية إلى حاضرهم، عند النظر إلي المرآة نتعرف على أي وقت تدور الدقائق التالية وأي جيل من الثلاثة أجيال الذي انقسم إلي جيل الطفل وجيل الراوي وجيل الأب، يبرز الفيلم حقبا تاريخية ما بين الحروب المختلفة في عدة مشاهد وثائقية متتالية تبرز معاناة الأطفال لأهوال الحرب وفي محاولة من تاركوفيسكي للتجرد من الزمان تظهر مشاهد أخري لأبطال الفيلم في مراحل عمرية مختلفة يقوم بها الممثلون أنفسهم.
يتميز الفيلم بعدم توافر سيناريو وحوار طبيعيين أو كما هو المتعارف عليه من البناء الدرامي للأعمال السينمائية من أشخاص وحدث أساسي وذروة ونهاية، ولكنه فيلم يجمع عده نماذج من البشر ويرصد تغيرات تاريخية من حولهم، فإن مثلا يبدأ الفيلم بحريق في أحد المنازل الريفية وشرود امرأة يتضح انها أم لطفلين ينامان بجانبها تحت شجرة ومشهد الحريق كالحلم وبعدها بسنوات تتلقي الأم مكالمة هاتفية من ابنها، لا نراهما من خلال الصورة ولكن نسمع حديثهما بين جحود ابن ولهفة أم مع تجول الكاميرا في أنحاء المنزل المرتب والنظيف الذى يحمل دلالة أن الحرائق تخمد مثلما تندمل الجراح، لكن النظر إلي المرآة يفضح ما يدور في داخل نفوس البشر ويعرفهم أعمارهم الحقيقية، ربما أراد تاركوفيسكي أن يقول إن التاريخ يتكرر والأحداث تدور في المسارات نفسها، خاصة في تكرار التاريخ والحروب، نري ايروسا عاملة المطبعة بيد أنها نسيت بعض الأوراق المهمة المحظور الاطلاع عليها شأن سياسات حقبة السبعينات، تتجه ايروسا إلى دورة المياه في ظل توتر أعصابها العارم للاستحمام وكأنها تطرد ما علق بها في اللحظات الماضية من مسارات متضاربة ووقت عصيب في البحث عن الأوراق وربما من توترات حياتها كاملة. يمكننا القول إن الفيلم يحمل أكثر من معني رمزي مواز مع الأحداث التاريخية والاجتماعية برمزية ناقصة لا تكتمل سوى ببث الراوي لبعض أشعار ارسيني تاركوفيسكي والد المخرج.
وأحيانا لا تري أن القصائد قد اضافت الوضوح للمشهد ولكنك تشعر بلمحة صوفية بالحديث عن الوجود فكأن القصائد عالم شعري مستقل لا علاقة له بالمشهد بشكل مباشر مثلما جاء في القصيدة الأولي التي لا تشير إلى المشهد التي قرأها الراوي.
من الإثم للنفس البقاء معزولة عن الجسم كأنها جسم بدون قميص..
ليست لها فكرة ولا عمل ولا منهج ولا سطر لا يوجد حل لهذا اللغز.. من سيعود للوراء بعد أن أرقص في ذلك الميدان حيث لا أحد ليؤدي الرقصة؟
إنني أحلم بالنفس الأخرى وهي بالثوب الآخر تحترق أثناء هروبها من وجل إلى أمل نار كالكحول بدون شبح تسير على الأرض تاركة للذكرى على الطاولة عنقودًا من عطر زهرة الليلك.
صورت كاميرا تاركوفيسكي الطبيعة الجذابة بجميع حالاتها من المطر والغيوم إلي سطوع الشمس مع التركيز على إلقاء الضوء على عناصر الطبيعة الأربعة من الماء والنار والتراب في أرجاء المساحات الخضراء الشاسعة مما أضاف لمسة شاعرية للصورة السينمائية المصحوبة بموسيقي اوارد ارتيموفا وموسيقى لاس باخ وبيرغوليزي وبيرسل والتي تعد إحدى التجارب الروحانية التي يمر بها المشاهد والتي تجذب انتباهه للتركيز والخوض في جمالات صورة المشهد أمامه.
لا تتوقع مشاهدة فيلم يتكون من شخصيات ثابتة وأحداث تتطور بمرور الوقت ولكنه فيلم يشمل أبعد من ذلك إذ يشمل منحني تصويريا روحانيا يعتمد علىى الذكريات والأحلام والرؤى بالإضافة إلى الأشعار الصوفية حتى يبدو الفيلم أشبه بحلم طويل يشوبه الحنين إلي استقرار الوطن بعد خوض حروب شتى.