الشرق الأوسط ومعادلات الردع الجديدة
ثمة تحولات جديدة ظهرت خلال الفترة الأخيرة تشير إلى تغير معادلات الردع في إقليم الشرق الأوسط في مرحلة ما بعد "طوفان الأقصى"، الذي أدى لتغير قواعد الاشتباك ما بين إيران وأذرعها من ناحية، وإسرائيل ومن ورائها الكتلة الغربية على الناحية الأخرى.
القصف المتبادل مؤخرا بين إيران وإسرائيل يوضح هذا المعنى ويؤكده. الهجوم الذي شنته الجمهورية الإسلامية على دولة الاحتلال هو الأول من نوعه الذي ينطلق من الداخل الإيراني باتجاه الأراضي المحتلة.
في كل المناوشات السابقة استخدمت إيران وكلاءها في المنطقة لضرب أهداف صهيونية أو حتى أمريكية والتي غالبا ما تكون على أراض عربية حيث ساحة القتال المتواصل منذ العام 1979 الذي صعد فيه نظام الملالي المناوئ لواشنطن وربيبتها إسرائيل إلى السلطة في إيران.
كانت بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء ومناطق تركز الشيعة على الساحل الشرقي لشبه الجزيرة العربية هي ساحات الفعل ورد الفعل بين الصهاينة والإيرانيين، وكانت قاعدة الاشتباك الثابتة ألا يتمادى أحد الطرفين بالاعتداء على أراضي الآخر.
حافظت إيران على هذه القاعدة كما فعلت إسرائيل إلا في استثناءات محدودة. لم تغامر إيران باستهداف الداخل الإسرائيلي في أي مرة من مرات الاعتداء الصهيوني على الدول العربية، رغم ما تمتلكه من إمكانيات لذلك. بعبارة صريحة، كانت طهران تساوم واشنطن من وراء الكواليس في إطار الحفاظ على مبدأ توازن الرعب لا أكثر.
كل الاعتداءات الإسرائيلية على المقدسات الإسلامية داخل فلسطين وعلى الفلسطينيين أنفسهم، لم تجد ردا مباشرا من إيران كما حدث بعد قصف القنصلية الإيرانية في سوريا بالطيران الإسرائيلي ومقتل 7 من قادة الحرس الثوري الإيراني.
خبراء القانون والسياسة يفسرون قصف القنصلية الإيرانية في دمشق من زاوية الأعراف الدبلوماسية، على أنه اعتداء مباشر على أراضي الجمهورية الإسلامية وفقا لمعاهدة فيينا التي نصت على أن مساحة الأرض التي تقام عليها سفارة أي دولة هي ملك لتلك الدولة وتخضع لسيادتها وقوانينها، وليست ملكا للدولة المضيفة، ومن ثم فإن أي اعتداء عليها هو اعتداء على الدولة الأم وسيادتها، ما استلزم الرد المباشر من إيران لا عن طريق وكلائها.
إسرائيل كانت تدرك هذه النقطة جيدا ومع ذلك استهدفت القنصلية بما يعني أن أهدافها من وراء الضربة كانت أكبر من مجرد اغتيال قادة بارزين في الحرس الثوري الإيراني الداعم لفصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة.
كانت هذه رسالة ردع مباشرة أرادت تل أبيب أن ترسلها للجميع تفيد بأنها ليست على استعداد للتخلي عن صورتها النمطية المرعبة لأي من يفكر باستهدافها، غير أن إيران قرأت الرسالة بطريقة مخالفة لتوقعات الصهاينة.
الضربة الإسرائيلية لقنصلية الإيرانيين على أرض سوريا الخاضعة للتأمين الجوي الروسي كانت مقامرة من نتنياهو أراد بها القفز على فشله البائن في عدوانه المجرم على غزة أولا، وتوسيع نطاق الاشتباكات لاستدراج واشنطن مرة أخرى إلى المنطقة لحسم قيادة الإقليم مرة واحدة ونهائيا ثانيا، قبل أن تتدخل إحدى القوى الإقليمية أو الدولية الداعمة لإيران وترجح كفتها.
لم تكن إسرائيل لتجرؤ على قصف إيران ومصالحها إلا لعلمها أن الأمريكيين لن يتركوها وحدها في المواجهة، حتى لو كانت واشنطن ترغب في عدم توسيع نطاق الصراع الدائر في المنطقة حاليا.
لم تتأخر إيران في الرد حتى وإن بدا أقل من المتوقع، فالموازنة بين ضرورة الرد والضغط الأمريكي لعدم الرد لم يمنع طهران من إرسال رسالتها الخاصة إلى الصهاينة والتي تتلخص في أننا نستطيع الوصول إلى العمق الإسرائيلي دون أن تمنعنا دفاعاتكم الجوية المتطورة.
اختيار القاعدة الجوية في صحراء النقب هدفا للهجوم ليس لأنها انطلقت منها الطائرات الإسرائيلية التي استهدفت القنصلية الإيرانية فحسب، بل لأن صحراء النقب نفسها هي موقع مفاعل ديمونة النووي.
كانت هذه رسالة ردع أخرى مبطنة للصهاينة والأمريكيين على حد سواء تفيد بأن أي استهداف للمنشآت النووية الإيرانية إذا ما قررت تل أبيب الرد على الهجوم الإيراني، سيقابل بقصف مفاعل الصهاينة حتى لو خالف ذلك العرف الدولي بتجريم استهداف المفاعلات القائمة بالفعل لخطورتها الكارثية.
يتمنى الصهاينة لو حصلوا على ضوء أخضر من واشنطن لضرب مفاعلات إيران النووية بالطريقة ذاتها التي نفذوا بها عملية أوبرا المعروفة أيضًا باسم عملية بابل عام 1981، لتدمير المفاعل النووي العراقي الذي كان لا يزال قيد الإنشاء.
يشارك الأمريكيون الصهاينة نفس الرغبة لكنهم يدركون في المقابل مدى خطورة الرد الإيراني على مصالحهم في المنطقة، وعلى أمن قاعدتهم الأكبر في العالم وهي إسرائيل نفسها.
في حالات تبادل الرعب، يلجأ المتصارعون إلى حروب الاستنزاف، وهذه اللعبة تجيدها واشنطن بمهارة، حيث سبق لها أن دمرت دولا بكاملها وأسقطت قوى عالمية كانت ملء السمع والبصر آخرها كان الاتحاد السوفيتي.
قبل الرد إسرائيلي على الهجوم الإيراني، أعلنت واشنطن أنها لن تشارك في أي عملية إسرائيلية ضد طهران. هذا الإعلان وإن كان غرضه غسل أيدي أمريكا من أي هجوم على إيران إلا أنه كشف عن ضوء أخضر لرد إسرائيلي ضد طهران على أن يكون محدودا دون السماح باستهداف منشآت حيوية حتى لا تضطر إيران توسيع ردها على إسرائيل.
استهدفت إسرائيل قاعدة جوية في مدينة أصفهان الإيرانية بالطائرات المسيرة التي سرعان ما أسقطتها الدفاعات الجوية الإيرانية وليس بالصواريخ الباليستية أو المجنحة وهو ما يفسره العسكريون على أن هذا الهجوم المحدود جاء لحفظ ما تبقى من ماء وجه الصهاينة لا أكثر، والحفاظ على معادلة الردع بين الجانبين.
تبعات الاشتباكات المتبادلة بين طهران وتل أبيب سيغير معادلة توازن القوى في الإقليم بأكمله، فالمحاور والتحالفات العسكرية الآن قيد التشكل على أساس المصلحة واعتبارات الأمن القومي لدول المنطقة، وهو ما ستفصح عنه الأيام القادمة التي لن تكون أهدأ على أي حال مما سبقها مهما كثر الحديث عن مبادرات للتسوية.