الأبنودى.. أنا مش هموت دلوقتى
قبل وفاته بأيام كان فى حجرته بالمستشفى الشهير على الطريق الصحراوى.. وكان قد تعود الذهاب إليه كلما داهمته مشاكل صحية فى بيته البعيد بالإسماعيلية، استأذنت زوجته الإعلامية الكبيرة نهال كمال فى مهاتفته.. إذ كانت الزيارة ممنوعة.. فاجأنى صوته الصداح كالعادة وهو يسأل: مالك مخضوض ليه؟.. شوية تعب عادى أنا مش هموت دلوقتى.. ضحكت فى سرى أجارى ضحكته على السماعة فى الجانب الآخر، حيث لم يعطنى الفرصة لأى كلام من أى نوع مجامل فى مثل هذه الحالات وراح يحكى كعادته فى أحوال البلاد والعباد.
أربعون سنة وهو يلعب لعبته الأثيرة.. غزل الكلام بالابتسام حتى فى أحلك اللحظات.. لم أضبطه مرة واحدة مخنوقًا أو مستاءً أو فى حال غاضبة.. دومًا عنده حكاية جديدة حتى وإن ظننت أنها لا تخصه.. كان قد أكمل رباعيات جديدة.. غير تلك التى نشرها فى مواجهة الجماعة المحظورة وأملاها للزميل المبدع محمد توفيق.. واستعد لاستكمال أوبريت جديد عن مصر التى يريدها فى شكلها الجديد.. وضحك كثيرًا من مراوغات الملحن محمد رحيم الذى أخلف مواعيده أكثر من مرة وسافر إلى بيروت، لكنه يحبه ويظنه موهوبًا بلا حدود.. كل الأمور عند الخال كما هى.. هو لا يعترف بالمرض ولا الشيخوخة ولا الشيب رغم قصيدته البديعة التى تقر بذلك على لسان الخالة أو العمة يامنة التى صارت واحدة منا مثل شخصيات ألف ليلة وليلة.. التى تمشى على قدمين فى غيطان الصعيد وفى آخر الليل تنتظر عودة الغائبين.
وفجأة وجدتنى فى سيارة محمد رحيم بصحبة الموزع أحمد شحتوت على الطريق.. بعد الكارتة بقليل اكتشفت أنه لم يطلبنى كالعادة ليدلنى على المدخل الصحيح لقرية الضبعية.. حيث يقيم.. واكتشفت أن مساعده محمود أيضًا لم يتابعنى حيث أتوه فى كل مرة.. اكتشفت أن على الحجار كان قد عاد من الدفنة وأخبرنى بأن الأبنودى لن يذهب إلى زيارة يامنة مجددًا فى الصعيد.. وأنه شارك فى الدفنة بالقرب من بيته وشجراته التى زرعها بيده هناك.. وأن العزاء فى أحد ميادين الإسماعيلية الكبرى بعد قليل.. ربما يكون هناك عزاء آخر فى أبنود فيما بعد.. لكن على كل حال الخال لن يكون موجودًا.. لن تكون ضحكته الحلوة هناك كما اعتادت.
فى طريق العودة أخبرنى رحيم بأنه سيطلق أغنية جديدة للخال بصوته اسمها مش هسكن إلاكى.. وأن مسلسلًا يتم التجهيز له ربما ينتهى من ألحان الكلمات التى كتبها الخال له.. وكذلك أمير عبدالمجيد.. ثم توقفنا عند مقهى سريع التحضير للوجبات.. مقهى معلب وكارتونى.. قهوته بلا طعم فأدركت أن الأبنودى صار بعيدًا.
طيلة أيام الأسبوعين الأخيرين من رمضان.. وأنا أقترب من تتر مسلسل قلع الحجر بصوت ياسمين على وموسيقى وجيه عزيز.. ثم أبتعد.. أدرك أنه كلام الخال.. نعم هو موجود ولن يترك ساحته بسهولة لكن هناك شيئًا ناقصًا.. هو لم يتصل ليسأل.. لم يشرح أن الرباب فى لحن النهاية على غير عادته.. لم يقل إنه رباب خواجة ويضحك.. لم يقل رأيه فى وجيه عزيز ولم يتحدث عن ثنية الضهر إلى الخلف وكأنه قاعد على دكة فى جوار أمل ويحيى فى قفط وهو يدندن.
.. يا سلام لو يتوه منى مكانى
كل ما أخرج من مكان.. ما أرجعش تانى.. يا سلام..
هل تاه الخال أخيرًا وهو اللى حافظ كل حواريها عطفة عطفة وزقاق زقاق ولم يعد فعلًا؟
لو أنه الآن هنا لحدثنى عن إعلان أنغام.. وعن جودر.. لحكى لى ولغيرى من زواره ومريديه عن العيد زمان.. عن بيروت.. عن محمود درويش صديقه.. عن فلسطين.. عن العالم الأول الفاجر الكاذب وعن الذين انتموا.. والذين انتهوا.. عن رواية جديدة سمع عنها وعن سيناريو لم يكتبه بعد.. لكنه لم يفعل واستغرق فى أغنيته الجديدة لياسمين على.
إذن هو أبريل.. شهر الرحيل.. شهر الميلاد.. وأظنها سنوات غير قليلة مضت لا أريد عدها ولا معرفة عددها.. كان قد قال لى مرة.. ما تعدش الأيام.. تعاديك.. هيه الليالى كده.. ولا تعرف غير كده.. كيادة.. وهو يعرف كيف يبادل الليل كيدًا بكيد.. لكننى لا أعرف أن أفعل مثلما كان يفعل.. ولا أستطيع أن أتوعد الليل مثله.. فقط أعد النخل فى الطريق إلى الجنوب فيما القطارات القادمة من هناك تمرق بجوارى فى الاتجاه المقابل وأنا أنظر من شباك.. لا أعرف إن كان شباك القطار أم هو شبك الحنين الذى لا أعرف متى يغادرنى؟