نظرية (تزفير المطواة)!
فى الأحياء الشعبية القديمة كان يحدث أن يتهاوش شخصان، يرفع كل منهما صوته بالصياح، يتهور أحدهما أحيانًا ويستل «مطواة قرن غزال» يشهرها فى الهواء لكنه لا يضرب خصمه بها، إنه لا يريد أن يُعاقب على ضرب خصمه ولا أن يدخل السجن، يكون الحل أن يستمر فى التهويش حتى يصل عدد كافٍ للفصل بينهما وإنهاء المشاجرة.. لكنه الآن فى مأزق.. ثمة اعتقاد خرافى أن المطواة ما دامت خرجت من جيب صاحبها فلا بد أن يمسها الدم، أو «تتزفر» بالدم.. إن الحل وقتها متعارف عليه.. يجرح الخصم خصمه جرحًا صغيرًا جدًا لا يتجاوز سنتيمترًا واحدًا تحت إشراف الوسطاء، جرحًا غير مؤذٍ، وغير ضار، لكنه يحفظ له كرامته، ويجعله يستطيع إعادة المطواة لجيبه بعد أن «تزفرت» بالدم!.. العلاقات الدولية لا تختلف كثيرًا عن علاقات البشر ببعضهم البعض، بل إنها نموذج مكبر منها، ما رأيناه فى الشرق الأوسط خلال الثمانى والأربعين ساعة الماضية نموذج دولى لنظرية «تزفير المطواة».. إيران تريد أن ترد على عملية ضرب سفارتها فى إيران دون أن تتعرض لعقاب أمريكى قاسٍ، لذلك هى تكرر ما فعلته من قبل، تخبر أمريكا بنيتها توجيه ضربة محدودة لإسرائيل، هذه المرة كانت الضربة تجاه قاعدة جوية فى صحراء النقب، مبرر إيران أن هذه هى القاعدة التى خرجت منها صواريخ ضرب السفارة، كون القاعدة فى الصحراء يكفل عدم وجود ضحايا خارج القاعدة فى حالة سقوط المُسيرات خارجها- نحن لا نعرف هل هناك ضحايا أو بشر داخل القاعدة أم لا؟- لكن الهجوم الإيرانى المحدود انتهى، إنه يشبه تمامًا عملية «تزفير المطواة» التى تحدث فى الأحياء الشعبية، قطرة دم واحدة بدلًا من بحر من الدماء، هذا سيناريو لا مشكلة فيه إطلاقًا لولا أثرين جانبيين، أولهما أنه يُشعر العالم بأن إسرائيل دائمًا فى خطر، وبأنها فى حاجة لمزيد من الحماية، والدعم والأسلحة، والأهم أنها يجب ألا تحاسب على جرائمها، لأنها فى حالة دفاع عن النفس، وثانيهما أنه يختصر القضية الفلسطينية من قضية أخلاقية وتاريخية عمرها مئة عام، ليجعلها حربًا بالوكالة بين فصائل مدعومة إيرانيًا ودولة صهيونية تدافع عن وجودها ضد عدوان خارجى- كما تصور إسرائيل للعالم- أما الأثر الجانبى الثانى والضار جدًا، هو استمرار حالة العداء الشعبوى والمجانى والعاطفى لإسرائيل دون فعل حقيقى على الأرض باستثناء تمثيليات من نوع ضرب قاعدة فى الصحراء، بعد إبلاغ كل الأطراف بمدة كافية، خاضت مصر ضد إسرائيل قبل كامب ديفيد «حرب وجود»، وخاضت ضدها بعد كامب ديفيد «حرب حدود» ومشكلة إيران أن حربها ضد إسرائيل لا يمكن أن تكون حرب وجود، ولا يمكن أن تكون حرب حدود.. إنها حرب على طريقة «تزفير المطواة» فى الأحياء الشعبية.. غير جادة، ولن تؤدى إلى شىء.