إيلان بابيه: نحو تأريخ واقعى للتطهير الصهيونى العرقى فى فلسطين
قدّمنا في المقال السابق إشارات مُرَكَّزة للتعريف بالبروفيسور"إيلان بابيه"، أحد أبرز أعلام جماعة "المؤرخون الجدد" في إسرائيل، وأكثرهم وضوحًا في مواقفه، وعرضنا لبعض كتاباته ومواقفه دفاعًا عن "الحق الفلسطيني" بعد انتقاله من مرحلة اليقين الصهيوني، في صدر شبابه، إلى موقع المعرفة والعداء المُعلن للفكر والدعوة الصهيونية الراهنة، وموقف المُدين لسياساتها الاستعمارية؛ وممارساتها في الإبادة الجماعية والتطهير العنصري العرقي المُمنهج؛ الذي لم تكف عن انتهاجها يومًا ضد شعب فلسطين؛ بل والمُبشِّر بزوال (الدولة) الصهيونية اللقيطة، والدعوة لأن تحل محلها دولة فلسطين الديمقراطية، "المنزوعة الصهيونية"، الحرة لجميع مواطنيها، "من النهر إلى البحر" حسب نص كلماته!
ومن الطبيعي أن يثير هذا الموقف (المدهش)، العديد من الأسئلة وأن يطرح العديد من علامات الاستفهام حول دوافع "بابيه" وخلفيات موقفه، وهو أمر مُبرر ومنطقي، خاصةً أن رفاقًا آخرين له من جماعة "المؤرخين الجدد"، وقد استفادوا من فرص إباحة الاطلاع على السجلات العسكرية السرية للكيان الصهيوني بعد مرور ثلاثين عامًا على حرب اغتصاب فلسطين، للكتابة حول هذه القضية أيضًا، وأبرزهم "بني موريس" صاحب دراسة "مولد مُشكلة اللاجئين الفلسطينيين"، سُرعان ما انقلب على أعقابه، وأسفر عن عنصري مُتطرف، يميني التوجه، وهو ما سنحاول مناقشته بعد اكتمال التعريف بكتابات "بابيه" ومواقفه وأفكاره.
وفيما يلي استعراض مكثف لواحد من أهم كتابات "إيلان بابيه"، وأشدَّها تأثيرًا وأبرزها إثارةً للجدل، وهو الكتاب المُعنون بـ"التطهير العرقي في فلسطين"، الذي أصدره المؤرخ في طبعته الإنجليزية في عام 2006، وتمت ترجمته وإصدار الطبعة العربية الأولى له من بيروت، عام 2007، بواسطة "مؤسسة الدراسات الفلسطينية"، في نحو 400 صفحة.
وهذا السفر بالغ الأهمية يتكون من 12 فصلًا، وعناوينها كالتالي: (1) "تطهير عِرقي مزعوم"، (2) نحو دولة يهودية حصرًا، (3) التقسيم والتدمير، (4) بلورة الخطة الرئيسة، (5) مُخطط التطهير العرقي: الخطة "دَالِتْ" (د)، (6) الحرب المُزيَّفة والحرب الحقيقية على فلسطين: مايو 1948، (7) تصاعد عمليات التطهير: (يونيو/ سبتمبر) 1948، (8) إنجاز المهمة: أكتوبر ـ يناير 1948، (9) الاحتلال ووجهه القبيح، (10) محو ذكرى النكبة، (11) إنكار النكبة و"عملية السلام"، (12) إسرائيل القلعة، فضلًا عن مقدمة وخاتمة.
القيمة الأساسية لهذا البحث التاريخي المرتكز أساسًا إلى الوثائق الرسمية، المُفرج عنها، لمُخططات إنشاء الكيان الصهيوني المُغتصب، وحرب 1948، ووقائع "النكبة" التي تلت الحرب، تتبدى في إقرار حقيقة مؤكدة تناقض الرواية الصهيونية الرائجة، والمُتبناه عالميًا حتى الآن، والزاعمة بأن حرب 1948 كانت حرب "تحرير" يهودية مشروعة لوطن الأجداد، وأن الفلسطينيين تركوا الأرض "طواعية" دون إكراه، وبدعوة من الجيوش العربية التي أوهمتهم أنهم سرعان ما سيعودون إلى الأرض التي تخلوا عنها بعد القضاء على "العصابات" اليهودية، دون أن يتعرضوا لأية ضغوط أو يقعوا تحت أي نوع من أنواع الإكراه!
فما يقدمه "إيلان بابيه" في هذا السياق، وهو جديد إلى حدٍ بعيد على المستوى الإسرائيلي، مُناقض لهذا الزعم الصهيوني الرائج، والذي نجحت إدارة مشروع الاستعمار الاستيطاني الإحلالي الصهيوني الغربي في تسويقه على مستوى العالم كله، واكتساب (المشروعية)، و(المصداقية) له، بواسطة التآمر الغربي الاستراتيجي، وعمليات الخداع السياسي والتدليس الإعلامي على المستوى الدولي، رغم أنه، كما يُشير "بابيه" قد أصبح من المستحيل تقريبًا بعد "الهولوكست" إخفاء جرائم شنيعة ضد الإنسانية، في عالمنا المُعاصر، الذي يشهد ثورة في مجال الاتصالات، وبحيث لم يعد في الإمكان إنكار كوارث من صُنع البشر، "ومع ذلك فإن هناك جريمة كهذه تم محوها كليًا من الذاكرة العامة العالمية، وهي جريمة طرد الفلسطينيين من وطنهم في سنة 1948"!
وفي المُقابل فإن الفكرة الرئيسة التي ينهض عليها بناء هذا البحث التاريخي عن الوقائع الثابتة لتلك المرحلة، ومئات التفاصيل عن الممارسات الموجهة لاجتثاث الشعب الفلسطيني من جذوره الثابتة في الأرض الفلسطينية، تؤكد أن عمليات القتل والترويع العسكرية التي قامت بها الجماعات العسكرية الصهيونية، كانت ـ وبوضوحٍ قاطع ـ تستهدف "تطهير" الأرض الفلسطينية من كل مَن ينتمي إليها، وهو الأمر الذي أقره اجتماع رفيع المستوى، عُقد عصر يوم الأربعاء 10 مارس 1948، بمقر عصابة "الهاجاناه" الإرهابية بتل أبيب، وضم 14 شخصًا من القيادات الصهيونية السياسية والعسكرية الرفيعة، يتقدمهم "ديفيد بن جوريون"، لوضع اللمسات الأخيرة على خطة لتطهير فلسطين عرقيًا، "وفي مساء اليوم نفسه أُرسلت الأوامر إلى الوحدات على الأرض بالاستعداد للقيام بطرد منهجي للفلسطينيين من مناطق واسعة في البلد، وأُرفقت الأوامر بوصفٍ مُفصّل للأساليب المُمكن استخدامها لطرد الناس بالقوة: إثارة رعب واسع النطاق؛ مُحاصرة وقصف قُرى ومراكز سُكَّانية؛ حرق منازل وأملاك وبضائع؛ طرد؛ هدم (بيوت ومنشآت)؛ وأخيرًا: زرع ألغام وسط الأنقاض لمنع السُكّان المطرودين من العودة إلى منازلهم"!
وكان هذا السياق هو ما عَبَّرَ عنه "بن جوريون" في وقت سابق: "أنا أؤيد الترحيل القسري، ولا أرى فيه شيئًا غير أخلاقي"، وهو ما لخصه بعد ذلك بأكثر من ثلاثة عقود أحد كهنة الإرهاب و"الترانسفير" الصهاينة، "رحبعام زئيفي"، وزير السياحة الأسبق، الذي اغتالته المقاومة الفلسطينية، في 17 أكتوبر 2001، انتقامًا مما ألحقه من آلام وويلات بالشعب الفلسطيني، بقوله: "إن الصهيونية هي الترانسفير" من حيث الجوهر!
وقد تجسَّدت خطة الترويع و"تطهير" الأرض المُحتلة من أصحابها الأصليين: شعب فلسطين، فيما أُطلق عليه "الخطة دالِتْ" (الحرف "د" بالعبرية)، التي حددت فلسفة ومسار العمليات الحربية في فلسطين بعد قرار التقسيم، والتى أوضحت، وبشكل لا يحمل أي التباسات، أن "الفلسطينيين يجب أن يرحلوا"، "وكان هدف الخطة في الواقع، تدمير المناطق الريفية والحضرية (الفلسطينية)، على السواء"، وهي كما يقول "بابيه": "كانت النتيجة الحتمية للنزعة الأيديولوجية الصهيونية التي تطلعت لأن تكون فلسطين نقيّة عرقيًا، وقد تحولت السياسة الصهيونية في مارس 1948 إلى "مُبادرة لتطهير عرقي للبلد بأكمله"!
والخلاصة: لقد استغرق تنفيذ المُهمة ستة أشهر، ومع اكتمال التنفيذ كان أكثر من نصف سُكّان فلسطين؛ أي ما يُقارب من 800000 نسمة قد اقتلعوا من أماكن عيشهم، و531 قرية دُمرت، و11 حيًا مدنيًا أُخلي من سُكانه، وارتكبت العصابات الإرهابية الصهيونية مئات المجازر، ومارست كل أشكال العنف والتخريب والهدم والاغتصاب والتكيل بالشعب الفلسطيني الأعزل، حتى تم لها تحقيق قسم من أهدافها الإجرامية.
وكما يُوَصِّفُ "إيلان بابيه" الأمر، فإن هذه الخطة تُشكِّل مثالًا واضحًا جدًا لعملية "تطهير عرقي"، وتُعتبر اليوم في نظر القانون الدولي "جريمة ضد الإنسانية"!
والمؤكد أنه لو كان قد تمت مُعاقبة القتلة الصهاينة على جريمتهم الأولى: "النكبة" لما كنا قد عاصرنا الآن، وبعد نحو ثلاثة أرباع القرن، أهوال ومحن، ما جرى ويجري، بين عصابات القتلة الطُلقاء والأبرياء من أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة الصامد. (يتبع)