«تترات» رمضان والفاصل الإعلانى
مع اقتراب شهر رمضان من كل عام، تبدأ الصحف والمواقع الإلكترونية رحلة البحث والتنقيب فى كواليس مائدته التليفزيونية والإذاعية، وما تحتويه خرائطهما من برامج ومسلسلات، بنفس الشغف الذى تبدأ فيه الأسر فى التفكير فى موائد الإفطار والسحور، وصلاة التراويح، ودورات كرة القدم، وزينة الشوارع والحوارى، وبنفس الشغف الذى أبدأ به رحلتى الشخصية مع البحث عمن يقدمون «تترات» المسلسلات فى ليالى الشهر الكريم، تلك التى أراها المؤشر الأهم والأكثر تعبيرًا عن اتجاهات الحالة الانفعالية والعاطفية لعموم المصريين لبقية شهور السنة، وربما لسنوات أخرى مقبلة.. يدفعنى فى ذلك الظن أن ذائقتنا الموسيقية أو الغنائية، هى ما يترك آثاره فى النفوس، ويتحكم، بصورة أو بأخرى، فى انفعالاتنا، وردود أفعالنا تجاه ما يمر بنا من مواقف وصعوبات أو تحديات لفترات طويلة، وأغلب ظنى أن ما تنتجه الدراما التليفزيونية والإذاعية من موسيقى وألحان لشهر رمضان يمكنه أن يعادل، فى تأثيره وجدواه، ما ننتجه طوال العام كله من أغان وموسيقات، أيًا كانت الأصوات، وأيًا كانت جماهيرية جميع عناصر الإنتاج.
ولعله من المناسب هنا أن أذكر أنه قبل سنوات طويلة كانت مقدمة ونهاية أى مسلسل رمضانى بمثابة عمل فنى متكامل، نص موسيقى أو غنائى موازٍ للنص الدرامى ومكمل له، ولهذا كانت أغانى المقدمة والنهاية تتحول بعد انتهاء الشهر الفضيل إلى أيقونة غنائية، يرددها عموم المصريين والعرب ويحفظونها عن ظهر قلب، تستدعى مع كلماتها الجماهير جميع تفاصيل العمل، وروحه، ورسائله، جمالية كانت أم تعبوية أم اجتماعية، أم غير ذلك.. ولو كانت مجرد حالة مزاجية تبثها مقطوعة موسيقية تماهى مؤلفها مع روح الدراما، ومستوياتها، فصارت تستدعى وجوه أبطالها، ومواقفهم الفاصلة، انتصاراتهم، وهزائمهم، ولحظاتهم الحرجة كافة.. باختصار كانت «التترات» وكأنها عصارة ثلاثين حلقة كاملة من الصراعات، والمواقف المؤثرة، والحاسمة، تتشربها الروح فى دقائق، وتعيش معها ما بعد رمضان، ورمضان التالى، والتالى.. لتظل هذه «التترات» محفورة فى الذاكرة لسنوات وسنوات، فتبقى، ويبقى أثرها فى النفس، وكأنها مرادف ودال على العمل كله، سنوات ربما ينسى الناس خلالها تفاصيل المسلسل وأحداثه، وأسماء أبطاله، مؤلفه ومخرجه ومدير التصوير، لكنها لا تنسى روح العمل التى لخصتها كلمات المقدمة والنهاية، لا تنسى صوت مغنيها، ولا «صولوهات» عازفيها، وكثيرًا ما تحولت مقطوعات موسيقية، وأغانى مقدمات، إلى كلاسيكيات دالة على عصورها، وعلى زمن مبدعيها، ممثلين وكتابًا ومخرجين وموسيقيين ومطربين، أيام وأعلام يطاردنا الحنين إليها وإليهم، وتهفو النفس إليها وإليهم، وكأنهما هما بوابة الطريق إلى تلك الأيام التى لا تعود.
ربما لم يكن الشاعر الكبير عبدالرحمن الأبنودى بحاجة إلى كتابة أغانى المقدمة أو النهاية لأى عمل درامى لكى يعرفه المصريون، لكن عبارة «يالولا دقة إيديكى ما انطرق بابى»، كانت بحاجة إلى مسلسل «النديم» لكى يحفظها عموم الناطقين باللغة العربية، لا العامية المصرية وحدها.. لكن اسم سيد حجاب كان بحاجة إلى مسلسل «الأيام» لكى تنتقل المعرفة به، وبمنجزه الشعرى الفاتن من دوائر الأدباء والفنانين، المحدودة والضيقة، إلى عموم المصريين والعرب، وما كان لنا أن نحفظ عن ظهر قلب ما كتبت يداه لمقدمة ذلك المسلسل الفاتن من كلمات، وفى القلب منها تلك العبارة الساحرة «من عتمة الليل النهار راجع، ومهما طال الليل بييجى نهار»، يحملها صوت على الحجار، لتنساب فى أعماق الروح، تحملها موسيقى عمار الشريعى، وتستعيد معها ملامح وجه عميد الأدب العربى، الدكتور طه حسين، وهى تتسلل إلى هيكل وجسد الفنان الاستثنائى أحمد زكى، فتكسوه بالحكمة، والهدوء، وتقدم لنا سيرته مع الحياة، وبراعة إدارته لكل ما مر به من معارك، ومحطات فاصلة.
وربما لا أكون منحازًا إن قلت إن مسلسل «الدالى» للنجم نور الشريف، هو ما كان بحاجة إلى كلمات الشاعر الكبير إبراهيم عبدالفتاح، وموسيقى الرائع زياد الطويل، لكى يبقى كل هذه السنوات محمولًا على عدد محدود من العبارات الدالة، والنهائية، والجمل الموسيقية البسيطة، والمشحونة بالشجن اللذيذ، وفى مقدمتها تلك العبارة التى كثيرًا ما وجدتنى أرددها، ولا تأتينى إلا ومعها وجه نور الشريف فى شخصية سعد الدالى، وكأنه يقول لى: «إضحك وعديها وماله.. ولا شىء بيفضل على حاله»، أو وكأنه يجلس بجانبى وهو يشرح لى ما عاش يجاهد لكى يصل إلى فهمه، فيلخصه فى عبارة واحدة واضحة الدلالة «ده البنا عاش يبنى فى قصور، ولا عمره ليلة بات فيها».. رغم روعة أداء نور الشريف، ومن كانوا معه من نجوم بحجم صلاح عبدالله، وسوسن بدر، ورغم سيناريو وليد يوسف، وحرفية المخرج يوسف شرف الدين، لكن موسيقى الموسيقار زياد الطويل، وكلمات إبراهيم عبدالفتاح، يحملها صوت وائل جسار، تظل هى الأبقى فى الذاكرة، وتظل هى ملخص الحكاية، والدال عليها.
رحلة طويلة لعبت فيها «تترات رمضان» الدور الذى طالما أراده وسعى إليه كبار الكتاب، والمؤلفين الموسيقيين، من الوصول بمؤلفاتهم إلى أقصى نقطة فى بر مصر، من بليغ حمدى إلى عبدالوهاب، وعمار الشريعى وعمر خيرت.. ومن شادية وعبدالحليم حافظ، وحتى أحدث مطربة أو مطرب فى أرض المحروسة.. فمن يمكنه أن ينسى «ماشى فى طريق من كام سنة.. تعب الطريق ما تعبت أنا»، تحملها موسيقى بليغ حمدى وصوت عبدالحليم حافظ، لمقدمة المسلسل الإذاعى «أرجوك لا تفهمنى بسرعة»، أو شادية وهى تشدو برائعة بليغ فى مقدمة المسلسل الإذاعى «صابرين»؟! عمار الشريعى زادت مساحات شهرته مع موسيقى «رأفت الهجان» و«دموع فى عيون وقحة»، وتضاعفت جماهيريته بموسيقى «زيزينيا»، و«أرابيسك»، وألحان «بوابة الحلوانى».. الموسيقار عمر خيرت لم يكن ليعرف به عموم المصريين والعرب لولا موسيقى «غوايش»، و«ليلة القبض على فاطمة»، و«قضية عم أحمد»، ومثله الموسيقار ياسر عبدالرحمن الذى أدخلت مقدمة ونهاية «الضوء الشارد»، موسيقاه إلى جميع البيوت فى مصر، وزادت من حضورها وفتنتها ألحان «الليل وآخره».. وغيرها الكثير والكثير من المؤلفات الموسيقية والغنائية الفارقة، التى تؤكد أن العمل الدرامى الرمضانى ليس كمثل أى عمل آخر.. أيًا كان نجومه، وأبطاله، وأيًا كانت بقية عناصر إنتاجه من تأليف وإخراج وديكور وتصوير وإضاءة، فلا غنى له عن «تترات تبقى»، ولا تقبل الحذف، أو القفز عليها، لطول الفاصل الإعلانى.
وكل عام ومصر والمصريين، وكل من يحبون مصر والمصريين، بخير وأمان.. وبلا فواصل إعلانية طويلة.