حرب غزة وكواليس الهدنة
لا حديث فى كواليس حرب غزة هذه الأيام يعلو على أصداء مفاوضات الهدنة، وخطط "اليوم التالى"، وتشكيل حكومة فلسطينية جديدة تتولى إدارة القطاع شريطة أن تحظى بقبول دولى.
منذ اجتماعات باريس الأخيرة للتوصل إلى صيغة توافقية لوقف إطلاق النار والسماح بوصول المساعدات الإنسانية، تغيرت شروط الطرفين أكثر من مرة.
المسودة النهائية لاتفاق الهدنة تشمل عدة نقاط أساسية لإنهاء التصعيد الحالى بين إسرائيل وحركة حماس، أولها إيقاف العمليات العسكرية، وثانيها مبادلة المعتقلين الفلسطينيين فى سجون الاحتلال بمحتجزين إسرائيليين لدى حركة حماس.
التوقيت يلعب دورًا رئيسيًا في الدفع نحو التوصل لاتفاق يقضى بوقف إطلاق النار، خصوصًا مع اقتراب حلول شهر رمضان، فى ظل ضغوط دولية مكثفة على إسرائيل لوقف الهجمات التى تستهدف المدنيين الفلسطينيين.
بحسب الرئيس الأمريكي جو بايدن، فإن إسرائيل وافقت مبدئيًا على وقف العمليات العسكرية فى غزة لمدة 40 يومًا قابلة لتمديد، بما يعنى تخطى شهر رمضان.
هذه النقطة تشير بوضوح لإدراك الغربيين أهمية وقف العمليات العسكرية خلال الشهر الفضيل، لما يمكن أن يمثله من استفزاز لمشاعر العالم الإسلامي.
ووفقًا لما يتسرب من كواليس المفاوضات، تستمر المرحلة الأولى من الاتفاق المقترح لمدة 40 يومًا، يتم خلالها إطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين مقابل الإفراج عن عدد معتبر من المعتقلين الفلسطينيين.
مسودة الاتفاق التي تتضمن تعليق العمليات العسكرية بشكل كامل فى القطاع، ووقف عمليات الاستطلاع الجوى فوق غزة، تشمل أيضًا عودة المدنيين النازحين تدريجيًا إلى منازلهم، وإعادة تأهيل المستشفيات والمخابز في غزة، مع التزام إسرائيل بضمان دخول المساعدات الإنسانية بشكل يومى، وتقديم الدعم اللازم لإعادة إعمار المنطقة المنكوبة، مقابل تعهد حماس بعدم استخدام الآلات والمعدات المقدمة لعمليات إعادة الإعمار في تهديد إسرائيل.
هذه المسودة التي حظيت بقبول عربى وغربى على حد سواء، لن تدخل حيز النفاذ دون انخراط حماس وإسرائيل في مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة، للتوافق على الصيغة التنفيذية للاتفاق ومراحل تطبيقه.
مسودة الاتفاق المقترح وإن كانت تمثل خطوة مهمة نحو التهدئة في قطاع غزة، إلا أنها تتطلب التزامًا جادًا من الأطراف المعنية لتنفيذها بشكل كامل وفعال، مع تعهد كل طرف بعدم البدء من جانبه بأعمال القتال.
اتفاق الهدنة بين حماس وإسرائيل وإن كان هو المقترح الوحيد للتهدئة فى الوقت الراهن، لا ينفى وجود تصورات أخرى لدى بعض الأطراف الدولية والإقليمية حول "اليوم التالى" لانتهاء الحرب، وكيفية إدارة القطاع الذى تنفرد حماس بحكمه منذ 2005.
أهم هذه التصورات يتمثل فى رؤية الإدارة الأمريكية الرامية إلى ضرورة تشكيل حكومة فلسطينية جديدة تحظى بقبول كل الفصائل والفرقاء السياسيين، إلى جانب إعلان الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية على حدود الرابع من يونيو 1967.
قبل 3 أيام، وضع رئيس الوزراء الفلسطيني الحالى، محمد أشتية، استقالته تحت تصرف رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس.
الاستقالة المفاجئة جاءت مسببة بـ"ما تحتاجه المرحلة المقبلة وتحدياتها من ترتيبات حكومية وسياسية جديدة تأخذ بعين الاعتبار الواقع المستجد فى قطاع غزة"، وفق ما قاله الرجل نفسه فى آخر اجتماعات حكومته.
لا يمكن فصل استقالة "أشتية" عن التصورات الأمريكية حول ضرورة تشكيل حكومة جديدة تحظى بإجماع الفسطينيين، وقبول الشركاء العرب والغربيين فى الوقت ذاته.
رئيس دائرة الشرق الأوسط في مكتب الأمن القومي بريت ماكجورك Brett H. McGurk كشف، فى تصريحات صحفية، عن تكليفه من الرئيس بايدن بإعداد خطة لمعالجة الحرب الدائرة فى المنطقة وأسبابها، والذهاب نحو حل طويل الأمد للقضية الفلسطينية.
قبل نحو أسبوع، أفادت تقارير إعلامية بتوافق الإدارة الأمريكية مع 6 دول عربية هى، مصر والأردن وقطر والسعودية والإمارات والسلطة الفلسطينية، حول الخطة المقترحة الرامية لاستعادة الاستقرار في المنطقة، على أن تبدأ بصفقة تبادل الأسرى خلال فترة الهدنة الإنسانية، مرورًا بتشكيل حكومة فلسطينية جديدة، انتهاءً بالاعتراف بدولة فلسطينية، وذلك وفق جدول زمني محدد.
يتوقف نجاح الخطة الأمريكية المقترحة على إتمام صفقة تبادل الأسرى الأولية، والتوصل إلى وقف عاجل لإطلاق النار فى غزة دون تسويف أو تأخير ربما يفرز معطيات جديدة للصراع.
بحسب مراقبين، تتضمن المرحلة الأولى للخطة المقترحة، انسحاب الجيش الإسرائيلي إلى خارج المناطق السكنية، ووقف عمليات الاستطلاع الجوي لمدة 8 ساعات يوميًا، مع تعليق القتال بين الجانبين، والتراجع عن الاجتياح الإسرائيلي المزمع لمدينة رفح الفلسطينية لمدة 6 أسابيع قابلة للتمديد، على أن يشمل ذلك عودة النازحين إلى شمال القطاع.
في مسألة عودة النازحين إلى شمال غزة، يظهر الخلاف الحدي بين حماس وإسرائيل، فالأولى تصر على عودة جميع النازحين إلى مناطقهم السكنية فورًا، بينما ترفض دولة الاحتلال عودتهم لحين انتهاء الحرب تمامًا، وهو ما يعمل الوسطاء الدوليون حاليًا على معالجته للوصول إلى حل وسط يقبله الطرفان، يتمثل فى أن تكون العودة على مراحل تتوالى بمدى التقدم فى تنفيذ الاتفاق.
بعض المحللين يرجحون رضوخ تل أبيب في نهاية المطاف للضغوط الدولية فيما يخص عودة النازحين من النساء والأطفال والرجال غير المؤهلين للقتال والخدمة العسكرية إلى ديارهم بشمال القطاع.
خلال عملية التفاوض بشأن تبادل الأسرى، تعهدت حماس بالإفراج عن 40 محتجزًا إسرائيليًا من النساء والأطفال وكبار سن، مقابل تحرير 1500 أسير فلسطيني، منهم "أسرى بارزون" وعناصر من قيادات المقاومة وقعوا فى الأسر بعد عملية طوفان الأقصى.
قوبل مطلب حماس برفض إسرائيلي، لتتدخل واشنطن على الفور عبر الوسيطين المصرى والقطرى، متعهدة بالضغط على إسرائيل للقبول بالإفراج عن مئات الأسرى مع تأجيل الحديث عن تحرير قيادات المقاومة مؤقتًا، مع زيادة تدفق المساعدات الإنسانية من غذاء ودواء إلى شمال القطاع وجنوبه، وإعادة تأهيل المنشآت الصحية كى تستطيع تقديم خدماتها الطبية مرة أخرى لسكان القطاع.
وفقًا للخطة الأمريكية المقترحة، فإن الانتهاء من تنفيذ كل بنود المرحلة الأولى يضمن الانتقال إلى المرحلة الثانية، التى تقوم على استئناف المفاوضات بين حماس وإسرائيل لإتمام صفقة تبادل الأسرى العسكريين. هذه المرحلة تشترط أيضًا تمديد الهدنة وصولًا لوقف كامل ونهائى لإطلاق النار.
في حال نجاح تطبيق أول مرحلتين من الخطة، تطمح واشنطن إلى إطلاق عملية سياسية واسعة النطاق داخل الأراضى المحتلة، تضمن توافق فصائل المقاومة حول قيادة موحدة بعد تحقيق المصالحة الفلسطينية وانضمام حماس لمنظمة التحرير- الممثل الرسمى للشعب الفلسطينى- وذلك تمهيدًا للانتقال إلى تنفيذ المرحلة الثالثة.
هذه المرحلة تتضمن تقديم ضمانات أمنية من الحكومة الفلسطينية الجديدة والولايات المتحدة إلى إسرائيل، بشأن عدم تنفيذ أي هجمات من غزة نحو المستوطنات الإسرائيلية أو الأراضي الإسرائيلية، بالتزامن مع اعتراف الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وعدد من الدول الغربية الأخرى بدولة فلسطينية مستقلة، إلى جانب ضغط واشنطن على إسرائيل لتفكيك عدد من المستوطنات في الضفة الغربية.
تبقى العقبة الكئود أمام تنفيذ تلك الخطة الطموحة هى إقناع حكومة اليمين الإسرائيلى المتطرف بهذا التصور الخطوة، لا سيما فى ظل تنامى الرغبات الإسرائيلية التوسعية لضم الضفة الغربية وغور الأردن.
يبقى الشىء المؤكد سواء نجحت الخطة الأمريكية أم لم تنجح، أن الأيام المقبلة حبلى بكثير من الديناميات السياسية التى سيتوقف عليها تحديد اتجاه مسار الصراع العربى الصهيونى بكامله.