عراق التاريخ
في مقالي السابق تحدثت عن (علي ابن أبي طالب) وزيارتي له وللحسين في (كربلاء) و(النجف الأشرف) ولكن.. هل ينتهي الأمر عند تلك القامات والمقامات والعتبات المقدسة فقط؟ الإجابة هي لا.. فالعراق يضم فوق ترابه وتحت التراب أسماءً يندر أن نجدها- أو بعبارة أدق- نجد هذا العدد وهذا الكم من الشخصيات التاريخية المؤثرة، التي لها وضعية خاصة وتختلف بشكل كبير وتتميز عن أي مكان دونها.
فـ(المتنبي) و(أبوتمام) و(أبونواس) لهم جميعا أضرحةً في العراق وسميت شوارع في بغداد بأسمائهم وصممت لهم التماثيل وضمت إبداعاتهم وحيواتهم في كتب التاريخ.. وشاعرةً يُشار إليها بالبنان وهي (رابعة العدوية) شهيدة العشق الإلهي والتي نسجت أشعارًا ومناجاةً للخالق ولدت وعاشت ودفنت في مدينة (البصرة) فالأمر ليس مقصورًا على الذكور أو الرجال فقط.. وليس مقصورًا أيضا على الشعراء.. فشخصيات مثل (عنترة ابن شداد) و(شهريار وشهرزاد) وهؤلاء لهم نصب تذكارية تشهد عليها شوارع بغداد.. فالعراق ولمن لا يعرف يضم حقًا بين جنباته وعلى أرضه تاريخًا عريقًا ويوجد تحت ترابه ليس فقط شهداءٌ وشعراء بل أنبياء وعلماء وأئمة!
فنبي الله (يونس) الذي ناجا ربه ومكث في بطن الحوت ودعا الله قائلًا: (لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) قبره موجود في العراق.
و(أبوالأنبياء) سيدنا إبراهيم الخليل كان في العراق عندما بدأ دعوته للتوحيد وعبادة الإله الواحد ودعا للدين الحنيف وانسلخت عنه الأديان السماوية الثلاثة؛ لذلك سميت بالأديان الإبراهيمية.. ونبي الله (إدريس) الذي تحدث النبي عن لقائه به في واقعة الإسراء والمعراج ويقال إنه لاقاه في السماء الرابعة ويقول آخرون إن اللقاء كان في السماء السادسة والتي رفع ومات فيها.. وذات الخلاف كائن حول مولده فيقال إن مولده كان في مدينة (بابل) في حين أنه دفن في (الكرادة) وهي أحد أحياء مدينة بغداد الشهيرة في حين يرى آخرون أنه ولد في مصر لكن حتمًا مرقده في بغداد ويعد من المراقد المقدسة لشيعة العراق.. وهو على كل حال نبي مبجل في اليهودية والمسيحية والإسلام والصابئة وهو أول نبي جاء بعد آدم وذكر باسمه وصفته في القرآن كذلك النبي (يوشع ابن نون) والذي أوصى الإمام (أحمد ابن حنبل) بأن يدفع إلى جواره في بغداد التي تضم على أرضها مسجدًا ومقامًا لحفيد النبي (الكاظم) و(الرضا)، ومقاما ومسجدًا للإمام (أبوحنيفة النعمان) و(بغداد) هي المدينة التي بناها (هارون الرشيد) لذلك سميت بمدينة (الرشيد) في فترة من الفترات، وفي مرحلة أخرى سميت بمدينة (المنصور) وكذلك أطلق عليها اسم مدينة (الخلفاء الراشدين) فللمدينة وللعراق كله تاريخ عريق.. ففيها من ناحية (الموصل) موقع يشار إلى أنه لسفينة (نوح) ويعد مقصدًا ومزارًا للزائرين.. أما (الحسن البصري) واسمه يدل على منشئه في مدينة (البصرة) التي تضم كما ذكرت رفات (رابعة العدوية) فالشعر والشعراء في العراق مسألة فارقة ولها خصوصيتها.. وما نسجه (الحسن البصري) استثنائيًا بكل المقاييس، فيكفيه ما قاله عن الموت إذ قال (ما رأيت يقينًا لا شك فيه أشبه بشك لا يقين فيه من الموت).
وفصاحته تلك هي ما أنقذته من الحجاج حاصد الرقاب! فدعائه الشهير والذي يقول فيه مناجيًا داعيًا ربه (يا ملاذي عند كربتي يا مؤنسي في وحشتي اللهم اجعل نقمته علي بردًا وسلامًا كما جعلت النار بردًا وسلامًا على ابراهيم) جعل الحجاج يخاف ويعدل عن قتله تمامًا كما فعل من قبل مع الحاكم الذي أراد أيضًا قتله بأمر من (يزيد ابن معاوية) وعدل عن قتله عندما قال له (إن الله يمنعك من يزيد.. لكن يزيد لا يمنعك من الله) فعدل فورًا وتراجع عن قتله، فما لاقاه (الحسن البصري) وآل بيت النبي من مآسٍ يشهد عليها العراق كله في أزمنة التطاحن والخلاف والخلافة، حيث الصراع حول السلطة والثروة وكل ما حدث من شقاق بعد رحيل النبي في (ثقيفة بني ساعدة) وما تلاها ومع نشأة الخلافة ودولتها وصراع الخلفاء والفرقاء حول السلطة حتى وصلنا لصفين والتحكيم والمكيدة التي وقعت، وأوقعت الجميع في براثن لا نستطيع النهوض منها حتى الآن بعد أن شاب المشهد الكثير من المكر والكثير من الشر الأكيد الذي جعل من الإسلام وللآسف دينًا ودولة يتنازع عليها! ويظل العراق وتاريخه شاهدًا على كل تلك المآسى والمكائد وشاهدًا أيضًا على جميع الدماء الطاهرة البريئة التي أريقت غدرًا وكراهية.. وتبقى الحياة وتبقى الحضارة أيضًا شاهدةً على التاريخ العريق بحلوه ومرّه.