"الدستور" تخترق شبكات "الدولار المستورد".. عصابات تجمع الملايين من المصريين بالخارج وتبيعها لرجال الأعمال
- أرقام هواتف عناصرها متداولة ومعروفة بين رجال الأعمال وأصحاب المصانع والشركات
- يطلبون مهلة للاستفسار عن «العميل» والتسليم داخل مصانع «عملاء سابقين»
- الوسيط يحصل على أمواله كاملة قبل التحويل ومستثمر: «ممكن يختفى فى أى لحظة قبل التسليم»
- المتورطون مصريون وعرب وأسهموا فى انخفاض تحويلات المصريين بالخارج 30%
فى يناير من العام الجارى، وبينما الأزمة المتعلقة بعدم توافر الدولار على أشدها، لدرجة أن الرئيس عبدالفتاح السيسى قال: «حال حل أزمة الدولار.. لن تقف أمام مصر أى أزمة أخرى»- كنت على موعد مع أحد رجال الأعمال، داخل مصنعه فى شرق القاهرة، وتحديدًا فى مدينة العاشر من رمضان الصناعية.
بدت على رجل الأعمال ملامح الحزن، والتى ازدادت حينما بدأ يشكو من فارق أسعار الدولار، بين الجهاز المصرفى الرسمى، والسوق الموازية المعروفة باسم «السوداء»، فى ظل حاجة مصنعه إلى ما لا يقل عن ٣٠٠ ألف دولار شهريًا لاستيراد مواد خام.
لكن المفاجأة فى حديث الرجل كانت كشفه- وهو ممتعض- عن اضطراره للتعامل مع شبكة من «السماسرة»، تضم عناصر داخل وخارج البلاد، لتوفير ما عرفه بـ«الدولار المستورد»، عبر جمع أموال آلاف المصريين العاملين فى الخارج، وتحديدًا فى الدول العربية والخليجية.
وأفاد مالك «مصنع العاشر» بأنه ليس وحده من اضطر لفعل ذلك، مؤكدًا وجود المئات من رجال الأعمال المصريين الذين يقدمون على الأمر ذاته لتوفير الدولار، من دون الدخول فى تعاملات مع الجهاز المصرفى الرسمى، خاصة بعدما وضع سقفًا محددًا للسحب الشهرى قيمته ٥٠ ألف دولار فقط.
رجل الأعمال- الذى طلب عدم نشر اسمه- لم يكن حالة فردية ضمن المتعاملين مع شبكات خارج مصر تستغل أزمة الدولار، وهو ما توثقه «الدستور» فى التحقيق التالى.
السماسرة يحصلون على المقابل بالجنيه وبسعر السوق السوداء إلى جانب عمولة 3%
تتبعت «الدستور» إحدى شبكات «السمسرة»، يحمل عناصرها جنسيات مصرية وأخرى عربية، وتعمل على استغلال أزمة الدولار الأخيرة التى ضربت السوق المصرية، عبر الاتفاق مع رجال أعمال مصريين فى حاجة ماسة لتدبير العملة الأجنبية لإتمام معاملاتهم التجارية فى الخارج، بعيدًا عن أعين الجهاز المصرفى المصرى، مقابل حصول أعضاء هذه الشبكة على نسبة قدرها ٢.٥٪ إلى ٣٪ من رجال الأعمال «مستوردى العملة».
ويعمل عناصر هذه الشبكة وأمثالها على جمع مئات الملايين من الدولارات، من مدخرات المصريين العاملين فى الخارج، ممن يرغبون فى تحويل أموالهم إلى أسرهم داخل مصر، وتبديلها بسعر السوق السوداء «١$ = ٧٠ جنيهًا مصريًا»، ثم يقدمونها إلى رجال الأعمال الراغبين فى تدبير «العملة الخضراء»، الذين يدفعون قيمتها بالجنيه المصرى «سعر السوق السوداء»، إلى جانب «عمولة السمسرة».
خطورة هذا الفعل انعكست بصورة كبيرة على تحويلات المصريين العاملين فى الخارج، والتى انخفضت خلال العام المالى ٢٠٢٢/ ٢٠٢٣ بنسبة تقدر بـ٣٠٪ على أساس سنوى، وفق ما أعلنه البنك المركزى المصرى، بعدما سجلت ٢٢.١ مليار دولار، مقابل ٣١.٩ مليار دولار فى ٢٠٢١/ ٢٠٢٢.
«الحاج أحمد»، صاحب مصنع محولات كهربائية، رجل أعمال ثان اضطر للتعامل مع سماسرة «الدولار المستورد»، لأنه يواجه مشكلة فى توفير الخامات، وفق ما قاله لـ«الدستور».
وأضاف «الحاج أحمد»، وهو الاسم الذى طلب ذكره به: «كنت مُطالبًا بتوفير ٩٠٪ من الخامات التى تدخل فى التصنيع ويتم استيرادها من الخارج، لذا لجأت إلى توفير الدولار عبر طريقين، أحدهما كان الاستعانة بشركة تمتلك حصيلة دولارية فى البنك، نظير ٦٪ أدفعها لها، لتجرى التحويلات اللازمة لشراء الاحتياجات اللازمة للتصنيع»، واصفًا هذه الطريقة بأنها «صعبة بعض الشىء».
أما الطريق الثانى فكان الاستعانة بأحد «السماسرة» الذين لديهم علاقات بمصريين يعملون فى الخارج، والذى «كان يوفر لى التحويلات بالدولار من الخارج، مقابل رسوم تخطت فى بعض الأحيان الـ٣٪»، وفق صاحب مصنع المحولات الكهربائية، والذى أضاف: «هذه الطريقة هى الأخطر، لأن الأموال تظل بعيدة عنى حتى يتم التحويل بشكل نهائى، ولا أعرف مصيرها حال اختفاء الشخص الوسيط، الذى بالطبع يحصل على كامل أمواله قبل التحويل».
محرر «الدستور» ينجح فى الاتفاق مع «سمسار»: «كل العملات متوافرة.. أجنبية وعربية»
«الدستور» التقطت طرف الخيط من صاحبى مصنعى «العاشر» و«المحولات الكهربائية»، وبدأت رحلت البحث عن «سماسرة» شبكة «الدولار المستورد»، ولم يكن الأمر صعبًا فى الوصول لأحدهم، خاصة أن أرقام هواتف بعضهم متداولة بين رجال الأعمال وأصحاب المصانع والشركات.
عبر تطبيق «واتس آب»، ومتقمصًا دور رجل أعمال يحتاج إلى دفع قيمة فواتير خامات مستوردة من الصين فى أقرب وقت، بدأ محرر «الدستور» رحلة التفاوض مع “م،ا” المعروف بكونه «سمسارًا» متنقلًا بين إحدى محافظات القاهرة الكبرى والمملكة العربية السعودية. احتاج محرر «الدستور» فى البداية أن يطمئنه على الطريقة التى عرفه بها، فادّعى أن أحد رجال الأعمال رشحه له لإتمام صفقة استيراد فى الخارج، إلا أنه طلب فى البداية مهلة لعدة أيام، لحين استقرار أسعار السوق السوداء للدولار، والتى وصلت حينها إلى «١$ = ٦٤ جنيهًا»... علمنا فيما بعد أن المهلة لم تكن لهذا الغرض، بل للاستعلام عن شخص محرر «الدستور»، خاصة أن هؤلاء «السماسرة» يعملون فى حالة من القلق والخوف الشديدين من أن تصطادهم الجهات الرقابية.
بعد عدة أيام، أرسل «السمسار» رسالة صوتية تحمل عدة أسئلة: «ما البلد المراد التحويل الدولارى إليه؟- ما قيمة التحويل؟ ما تفاصيل الحساب البنكى؟»، فأجبناه: «مدينة جوانزو فى الصين- ٣٥ ألف دولار»، قبل أن نمده برقم حساب وهمى فى أحد البنوك هناك. بعد يوم واحد عاد ليؤكد طريقة تسلم المبلغ المطلوب، مؤكدًا أن أحد العاملين معه سيتسلم مقابل الدولار بالجنيه المصرى، داخل أحد مصانع رجال الأعمال الذى سبق أن تعامل معهم فى صفقة سابقة، مشيرًا إلى أن المطلوب هو ٢ مليون و٣٤٥ ألف جنيه «٣٥ ألف دولار * ٦٧ جنيهًا مصريًا»، إلى جانب عمولته المقدرة بـ٢.٥٪ «نحو ٦٠ ألف جنيه مصرى». توقف محرر «الدستور» عند هذه النقطة من الاتفاق الموثق، حتى لا يقع تحت طائلة القانون، علمًا بأن «السمسار» ألمح أيضًا إلى قدرته على توفير أى عملات مطلوبة، مثل اليوان الصينى واليورو الأوروبى، إلى جانب العملات العربية، لكن بشرط «الاتفاق على العمولة أولًا».
مصرفيون: أسوأ من تجار المخدرات.. ويستغلون عدم تجريم تعامل المصريين فى النقد الأجنبى بالخارج
تكمن الأزمة، حسب خبراء مصرفيين تحدثوا لـ«الدستور»، فى اعتماد الجهاز المصرفى على ٥ مصادر لتوفير العملات الأجنبية، وعلى رأسها الدولار، فى إطار تدبير احتياجات البلاد من السلع الأساسية مثل المواد الغذائية والمصنوعات والدواء وغيرها.
وتحتل تحويلات المصريين بالخارج المرتبة الثانية فى توفير الدولار، بعد الصادرات غير البترولية، والتى سجلت نحو ٣٤.٤٢٤ مليار دولار، فى نهاية عام ٢٠٢٣، مقارنة بنحو ٣٣.٨٩٤ مليار دولار، فى العام قبل الماضى، وفق بيانات رسمية حصلت عليها المجالس التصديرية، من الهيئة العامة للرقابة على الصادرات والواردات التابعة لوزارة التجارة والصناعة.
وحسب البنك المركزى المصرى، فإن قطاع السياحة سجل نحو ١٠.٧ مليار دولار، ارتفاعًا من نحو ٥ مليارات دولار فى ٢٠٢١، ليحتل المرتبة الثالثة فى قائمة مصادر التدفقات النقدية الأجنبية. أما المرتبة الرابعة فهى للاستثمار الأجنبى المباشر، الذى سجل ١٠ مليارات دولار، فى نهاية عام ٢٠٢٣، مقابل نحو ٨.٩ مليار دولار، فى نهاية عام ٢٠٢٢.
فيما حلت إيرادات قناة السويس فى المرتبة الخامسة، بعدما بلغت إيراداتها ٩.٤ مليار دولار، خلال العام المالى ٢٠٢٢/ ٢٠٢٣، وهو الرقم الأعلى فى تاريخ القناة، بعدما بلغ عدد السفن التى مرت بها ٢٥٨٣٧ سفينة. ورأى نائب رئيس البنك العقارى، وليد ناجى، أن عمل شبكات «السمسرة» فى «الدولار المستورد»، يأتى فى ظل عدم وجود قانون يجرم تعامل المصريين فى النقد الأجنبى خارج البلاد، وبالتالى لا تقع عناصر هذه الشبكات تحت طائلة القانون، وكل ما تملكه السلطات المصرية هو ضبط الوسطاء أو «السماسرة» داخل البلاد، لكونها جريمة يعاقب عليها القانون فى الداخل وهو ما يحدث فى الأسابيع الماضية، خاصة مع رفع سعر الفائدة إلى ٢٪.
وقال «ناجى»، فى حديثه لـ«الدستور»، إن ظاهرة استغلال تحويلات العاملين المصريين فى الخارج موجودة منذ فترة طويلة، فقد كان المصرى العامل فى الخارج يلجأ إلى التحويلات البنكية، حال كان المبلغ المراد تحويله كبيرًا، ليتم استقباله فى مصر بعدها، على حسب نوع الحساب، سواء بالدولار أو بالجنيه.
وأضاف: «لكنهم فى الوقت نفسه، كانوا يلجأون إلى طريقة أخرى، وهى شركات الصرافة، والتى تلجأ لها العمالة الفنية المتوسطة بوجه خاص، فتتعاقد هذه الشركات بدورها مع موزعين من بنوك لتوزيعها على المحول إليه، وصولًا إلى ظهور البريد كموزع يستقبل فى الخارج ويسلم فى مصر، أو عبر (ويسترن يونيون)، التى تقبل التحويل بالدولار، وتحصل على الدولار فى مصر، وتبدله بسعر السوق السوداء».
وأرجع ابتعاد العاملين فى الخارج عن المؤسسات المصرفية الرسمية إلى ارتفاع سعر صرف الدولار فى السوق الموازية، ورغبة الكثير من هؤلاء العاملين فى الاستفادة من فارق السعر الكبير، خاصة أنه لا يقع تحت طائلة القانون، لكونه خارج البلاد. وحذر من الخطر الكبير لظاهرة «الدولار المستورد» على الاقتصاد القومى والجهاز المصرفى، منبهًا العاملين المصريين فى الخارج من فكرة التعاون مع هذه العصابات التى يطلقون على أنفسهم «سماسرة»، خاصة مع إمكانية وجود نصابين بينهم، يمكنهم أن يضعوا أيديهم على مدخراتهم التى تعبوا فيها و«تغربوا» من أجلها، ناصحًا إياهم بالعمل مع المؤسسات الرسمية مثل البنوك وشركات الصرافة المرخصة.
وقال طارق متولى، نائب رئيس بنك «بلوم» سابقًا، إن خروج التحويلات الخاصة بالعاملين المصريين فى الخارج عن المؤسسات المصرفية الرسمية، ساعد فى عدم توافر الدولار داخل السوق المصرية، ما أدى لارتفاع سعره فى «السوق السوداء» إلى ٧٠ جنيهًا، معتبرًا أن الدولار متوافر، لكنه يذهب إلى الجهة الخطأ، مع حدوث «مضاربات» على أموال المصريين فى الخارج. ورأى «متولى» أن «الحل الأمنى هام لكنه ليس الوحيد، لأنه فى حال توفير الدولار ستختفى هذه العصابات، التى أعتقد أن تاجر المخدرات أرحم منها، لأن تاجر المخدرات يسبب أذى لشخص ذاهب ليؤذى نفسه، لكن تاجر العملة يؤذى الناس كلها، لكون ما يفعله يتسبب فى مشكلة كبيرة للبلد واقتصادها القومى».
وتابع: «لذلك أرفض تسمية هذه العصابات بالسماسرة، لكونهم مثل أى تجارة ممنوعة، يخالفون بفعلتهم هذه القانون، لذا ينبغى تصنيفهم كمجرمين، خاصة مع الضرر الكبير الذى يتسببون فيه على الاقتصاد الوطنى، ومساهمتهم فى رفع الأسعار، بسبب ارتفاع سعر صرف الدولار أمام الجنيه، جراء كنز العملة والمضاربة عليها».