وبليغ حمدى لا يأتى فى موعدٍ ولا يأتى منفردًا
بالأمس كنت على قلق، لا تستقر فى الرأس فكرة، ولا تروح حكاية أو تأتى، تتداخل الصور والأفكار والرغبات، وتتزاحم، فتضيع جميعها، ولا يبقى منها سوى احتمالات لا تستقر حتى تهدها أخرى.. هى حالة من اللا شىء الجميل، ومن الفراغ المملوء بفوضى من التصورات والأسماء والحكايات والأيام والليالى، أحبها ولا أنزعج منها، ولا أفعل شيئًا لمقاومتها أو الخروج منها.. وكان أن قررت التجول قليلًا فى شوارع وسط القاهرة بحثًا عن لا شىء آخر.. فلم تمض دقائق من التسكع بالقرب من ميدان «باب اللوق»، حتى جاءنى صوت عبدالحليم حافظ يملأ المسافة من أول شارع «منصور»، متسائلًا: «شوف خدتنا لفين يا قلبى، وشوف سابتنا فين؟!»، وأنا لا أرد سؤالًا لعبدالحليم حافظ، ولا أرفض له طلبًا، ولا أتأخر عن سماع أغنية له، خصوصًا إذا اقترنت بموسيقى بليغ حمدى، «أمل مصر فى الموسيقى»، كما رآه العندليب صغيرًا، والصائغ الأعظم لتاريخ من الشجن والمحبة وهمس الحب، كما آراه الآن، وكما يعرفه كل من أصابته فتنة الغناء والعزف على أوتار الروح.
وبليغ حمدى، مثل كوب الشاى الذى تحمله يد الحبيبة، لا يأتى بناء على موعد، أبدًا.. ولا يأتى منفردًا، أبدًا.. هو يأتى هكذا، عندما يريد، يأتى ومعه تاريخ الموسيقى فى أركان مصر، من شمالها لجنوبها، حتى أعماق الصحراوات المنسية، يأتى ومعه «قولوا لعين الشمس ما تحماشى»، تغنيها شادية، فتراها بأذنيك واحدة أخرى غير تلك التى نعرفها كـ«دلوعة»، رقيقة وناعمة كثوب الحرير، ساهية وداهية، وغاوية ومغوية، وشهية كصينية البسبوسة فى ليل رمضان. يأتى ومعه «حِمل» من الجمل الموسيقية التى تطلب الجلوس والإنصات والتحليق مع ما تفيض به من حكايات يظن الغافل أنها ذهبت طى النسيان، وهى قد تذهب بالفعل، وتضيع فى متاهات الدنيا وزحامها الذى لا يرحم أحدًا، ولا يفلت منها أحد، إلا إذا لمستها يد «النباش» الأعظم بليغ حمدى، تلك اليد التى لا تترك ذكرى دون «نبشها»، وقلقلتها، والتلويح بها قدام عينيك، وكأنها تحدث الآن.
هنا، مع بليغ حمدى، ترى شادية فى طبعة جديدة تمامًا غير شادية التى كنت تعرفها، مزيدة ومنقحة وفاخرة، شادية جديدة تمامًا، هى كل ذلك مع الكثير من الإضافات الحارقة لحبيبة تخشى على رجلها من صهد الجنوب، تؤلمها احتمالات أن يطول الغياب، وتؤرقها لوعة الفراق، وينطلق صوتها الشجى تحيط به الإيقاعات الجنائزية المؤرشفة على جدران المعابد.
حتى وإن كانت الآلات وحدها ما يحمل الأصوات التى باتت ليلتها تؤرق أصابعه، هناك دائمًا قصة وحدوتة و«ليلة كبيرة سعادتك»، هناك دموع تجاهد أن تقفز من العينين، ويد تضبط إيقاع الرقصة المنفلتة، تسبح معها، وتشاغبها، بحثًا عن لحظة السكون، والحقيقة أننى لا أعرف كيف يفعلها بليغ حمدى معى دائمًا؟! لا تفشل جملة موسيقية هو مُنشئها فى اقتيادى كالأعمى الذى يسلم يديه وعقله، ويسير معه وسط حقول الذكريات التى يختارها بعناية فائقة، ويسير بها خطوة فخطوة، دون استعجال، ودون تلكؤ أو تأخير.. يدعمها مرة بالتفاصيل الصغيرة، ومرة يتركها تسبح فى الفضاء وحيدة، لكننى فى كل مرة لا أجد قدامى من طريق سوى ما يريد هو، وما يرسمه من خطوط واتجاهات.. يقطعها بخطفة كمان جريح، أو جملة «ساكس» يبحث عن براح يملأه بالروائح والصور وقصص الأيام التى لا تعود، باستطراد ينفرد فيه الإيقاع بالقلب، فيعيثان معًا فى الأرض بهجة وفرحًا.. وتسير خطواتى إليه طائعة هينة، ودون مقاومة، فترتسم على جدران الروح حالة من الشجن والوجد والطرب والرغبة فى مراقصة الدنيا ومن فيها.
كانت ليلة عيد ميلادها، وكانت الليلة الأولى التى لا أقدر على مهاتفتها فيها، ولا الكتابة إليها، لا قبل الجميع ولا بعدهم.. ما زلت أحتفظ برقم هاتفها المحمول، ولا يزال يتصدر قائمة مفضلاتى، لكن شيئًا ما بالقلب لم يكن هنا، ولا سبيل لاستعادته إلا بالطريقة التى جعل بليغ حمدى بها عبدالحليم يتساءل مهزومًا: «شوف.. شوف.. شوف بقينا فين يا قلبى، وهى راحت فين؟!».
لم تكن قهوتى قد تم إعدادها بعد، ولم أكن على عجل من أمرى، لم أطلب القهوة أصلًا إلا لأنها المشروب الأقرب إلى لسانى، أطلبها أحيانًا لمجرد الرغبة فى الجلوس على المقهى، ورؤية وجوه الناس وتأملها، أو محاولة قراءة ما خلفته عليها الأيام، حتى إننى اعتدت تناولها باردة.. كثيرًا ما تركتها تبرد فى مكانها، وكثيرًا ما تركتها هكذا دون أن تقترب من فمى، خصوصًا فى تلك المقاهى التى لا تضع أمثالى من محبى البن الغامق، و«غير المحوج» ضمن حساباتها، لكننى أطلبها فى كل الأحوال، ولا أملك غير الاستجابة لصوت عبدالحليم حافظ وبليغ حمدى، وهما يواصلان «النبش» فى القلب المثقل بالذكريات «تانى تانى تانى.. راجعين أنا وأنت تانى»، يتبعها الجالس خلف ميكروفون إذاعة الأغانى بعفاف راضى، وهى تذيب القلب مثل قطعة السكر فى كوب من الشاى الساخن، «ردوا السلام.. ألا السلام ده غالى»، تفتح بها أبواب المحبة والسماح على اتساعهما، فتلين لها القلوب، وتأوى إلى ظلالها الأرواح، وتستكين لطلبها النفوس والألسن.. ثم يحدث أن يطيب لى الجلوس والغناء، فيروح القلق، وتتوالد الأفكار والتصورات، وتعود الحياة طيعة مبهجة، حتى وإن ظللت بين جدران «اللا شىء» الجميل، والفراغ المملوء بفوضى التصورات والأسماء والحكايات والأيام والليالى، تلك أحبها ولا أنزعج منها، ولا أفعل شيئًا لمقاومتها.