مصر تصنع إلكترونيات
في عصر يتسم بالتقدم التكنولوجي المتسارع، تبرز صناعة الرقاقات الإلكترونية كعنصر حاسم في تشغيل مجموعة واسعة من الأجهزة الذكية التي تمس كل جانب من جوانب حياتنا اليومية. من الهواتف المحمولة والأجهزة اللوحية إلى السيارات الذكية والأجهزة المنزلية، تلعب الرقاقات دورًا محوريًا في تشغيل التكنولوجيا الحديثة التي نعتمد عليها، ولأن المسألة لم تعد مقتصرة على الرفاه التكنولوجي بل امتدت لتشمل جوانب أخرى مثل حماية الأمن القومي وتعزيز الاستثمارات بمجال الذكاء الاصطناعي؛ بات من الضروري بمكان أن نفهم لماذا "مصر تصنع إلكترونيات".
ظهرت أزمة الرقاقات الإلكترونية العالمية بشكل واضح في عام 2020، نتيجة للتحديات اللوجستية والتصنيعية المرتبطة بجائحة كوفيد-19، والتي أدت إلى تباطؤ كبير في إنتاج الرقاقات الإلكترونية عالميًا. هذا التباطؤ جاء في وقت شهدت فيه الحاجة إلى الرقاقات زيادة كبيرة، مدفوعة بارتفاع الطلب على الأجهزة الإلكترونية بسبب العمل والتعلم عن بعد، بالإضافة إلى تزايد استخدام التكنولوجيا في مختلف القطاعات كالسيارات والأجهزة المنزلية الذكية. هذا الخلل بين العرض والطلب أدى إلى تأخيرات كبيرة في الإنتاج، زيادة في الأسعار، وأثر سلبي على الاقتصاد العالمي، مما جعل الدول والشركات تعيد التفكير في سلاسل التوريد وتسعى لتوطين صناعة الرقاقات لتجنب مثل هذه الأزمات في المستقبل.
وإدراكًا لأهمية هذه الصناعة، عادت مبادرة "مصر تصنع إلكترونيات (EME)"، التي أطلقتها وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات وهيئة تنمية صناعة تكنولوجيا المعلومات (إيتيدا) عام 2015 لتوطين صناعة الرقاقات الإلكترونية إلى الأضواء مجددا مع عقد رئيس مجلس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي اجتماعا لتشكيل المجلس الوطني لتوطين التكنولوجيا الخاصة بتصنيع الرقائق الإلكترونية، لكن تلك المرة بهدف تعزيز الاستثمار في الموارد الطبيعية الموجودة بمصر، إلى جانب جهود تعزيز الأمن القومي والاستعداد لمواجهة التحديات المستقبلية في الأمن السيبراني.
لمعرفة الأسس التي اعتمدت عليها مصر عند الإعلان عن نواياها في بدء الاستثمار بذلك المجال؛ يجب أن نفهم كيف تتم صناعة الرقاقات الإلكترونية؟ تعتمد صناعة الرقاقات على عملية معقدة تبدأ بقطعة صغيرة من السيليكون، يتم عليها تصميم دوائر معقدة تشبه الخرائط المصغرة. من خلال استخدام ضوء خاص لنقش هذه الدوائر وإضافة طبقات من مواد مختلفة، يتم تكوين الرقاقة التي تخضع لاحقًا للتغليف والاختبار لضمان أدائها المثالي في العديد من الأجهزة الإلكترونية، وتتصدر الولايات المتحدة ودول شرق آسيا مثل كوريا الجنوبية وتايوان قائمة الدول الرائدة في صناعة الرقاقات.
وتستند مصر في مبادرتها لدخول تلك الصناعة إلى امتلاكها موارد خام قيّمة مثل الرمال البيضاء والسوداء، والتي تزخر بالسيليكا ومعادن ضرورية كالتيتانيوم والزيركونيوم، ويمكن توظيفها في تطبيقات تكنولوجية متقدمة بما في ذلك صناعة الرقائق. لكن هناك عدة ركائز أساسية تشمل تأمين التمويل اللازم، واستقطاب خبراء في هذا المجال، وتطوير بنية تحتية تقنية متقدمة، إلى جانب الاستفادة من الموارد الطبيعية المتوفرة والحصول على دعم حكومي مؤثر.
إلى جانب ذلك؛ تحتاج مصر لتحقيق الاستقلالية في هذا المجال وتقليل الاعتماد على الواردات إلى استثمارات ضخمة، وتحسين البنية التحتية التكنولوجية، وإقامة شراكات دولية متينة. بالإضافة إلى ذلك، يساهم الطلب المحلي والإقليمي بدور كبير في ضمان استمرارية ونجاح هذه الصناعة.
إلى جانب ما سبق؛ أظهرت مصر التزامًا واضحًا بتطوير مجال الذكاء الاصطناعي، وذلك من خلال تبنيها استراتيجية وطنية تهدف إلى توسيع نطاق استخدام الذكاء الاصطناعي في قطاعات رئيسية كالصحة، الزراعة، والتعليم. هذا النهج يعتمد اعتمادًا كبيرًا على الرقاقات الإلكترونية التي تشكل العمود الفقري لعمليات معالجة البيانات وتعلم الآلة، مما يضع توطين صناعة الرقاقات في موقع استراتيجي كفرصة قيّمة لدفع عجلة النمو الاقتصادي، خلق فرص عمل جديدة، وجذب استثمارات مهمة.
كما يجب أن تأخذ مصر في الاعتبار الأمثلة الدولية في هذا المجال، مثل قانون "CHIPS and Science Act" الأمريكي لعام 2022، الذي يمثل خطوة مهمة نحو تعزيز القدرة التنافسية والأمن القومي في صناعة الرقاقات الإلكترونية بتخصيص مبلغ ضخم يصل إلى 280 مليار دولار لدعم البحث والتطوير والتصنيع في هذا المجال. هذا النموذج يعزز من أهمية الاستثمارات الضخمة والدعم الحكومي في تطوير صناعة الرقاقات.
ولتحقيق مكانة متقدمة في هذا المجال، يجب على مصر الاستفادة من تجارب الدول الرائدة في تلك الصناعات، مثل تايوان والصين وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة، وتطوير استراتيجيات مماثلة لجذب الشراكات العالمية، من خلال توفير بيئة مؤسسية وتشريعية ملائمة، تشجع على البحث والتطوير وتوفر الدعم للشركات المحلية، بالإضافة إلى جذب الشركات العالمية للعمل ضمن إطار تشريعي يعزز من نمو الصناعات التكنولوجية عالية القيمة.
تسير مصر على الطريق الصحيح نحو توطين صناعة الرقاقات الإلكترونية، مما يعد خطوة مهمة نحو تعزيز الأمن القومي وتحقيق نمو اقتصادي مستدام. بالنظر إلى النماذج الدولية وتطوير استراتيجيات فعّالة لجذب الشراكات العالمية، يمكن لمصر أن تعزز مكانتها كلاعب رئيسي في هذا المجال الحيوي.