النقود أيضًا تموت «إكلينيكيًا»
فى عام ٢٠٠٠ ضمت قائمة «فوربس» لأثرى أثرياء العالم ٤٧٠ مليارديرًا، بإجمالى ثروات ٨٩٨ مليار دولار، وفى ٢٠٢١ تضاعف عدد هؤلاء المليارديرات ست مرات تقريبًا، ليصل إلى ٢٧٥٥ شخصًا، فيما تضاعف إجمالى الثروات بأكثر من أربعة عشرة ضعفًا، ليصل إلى ١٣.١ تريليون دولار، يتصدرهم الأمريكى إيلون ماسك بثروة ٢١٩ مليار دولار.. فماذا تعنى هذه الأرقام بالنسبة للمواطن العادى «ثريًا إلى حدٍ ما، أو متوسط الدخل، أو فقيرًا»؟! وهل لتلك القفزة المهولة فى أعداد المليارديرات، وإجمالى ثرواتهم، علاقة بما حدث معى مثلًا قبل أسابيع، عندما «اتهبشت» فى مخى مع دخول فصل الشتاء فى موجاته شديدة البرودة، وفكرت فى شراء «كلسون» جديد، ولما سألت عن الأسعار اكتشفت أن نفس القطعة التى اشتريتها منذ عشرين عامًا بحوالى ٢٥ جنيهًا، قد تجاوز سعرها ٤٠٠ جنيه فقط لا غير «كما جاء فى فاتورة الشراء»؟!
الحقيقة أننى لم أندهش من ذلك الارتفاع المجنون فى قيمة قطعة القماش القطنية التى اشتريتها، ولكن من عبارة «فقط لا غير»، «إزاى فقط لا غير؟!».. قفز السعر كل هذه المسافة، من ٢٥ جنيهًا إلى ٤٠٠، وتقول لى «فقط لا غير»؟!
أولًا.. وحتى لا تظن بى الظنون، فأنا لم أندهش من السعر، ليس لثراء مفاجئ أو طبيعى، أو أى شىء من هذا القبيل، ولكن لأننى أدرك بعضًا مما حدث، ويحدث لدورة النقود، أو السيولة النقدية فى الأسواق العالمية، وتبعات ذلك من هروب لتلك السيولة وخروجها عن مساراتها الطبيعية، وصولًا إلى تلك الحالة من «الموت الإكلينيكى»، وتحولها إلى مجرد أرقام فى خزائن مصفحة، أو حسابات مصرفية «سرية وغير سرية»، أو قصور ويخوت وجزر وطائرات خاصة، لا تسهم فى دورة النقد بين البشر لأكثر من أيام معدودة كل عام، وربما لا تشارك فى تلك الحركة مطلقًا، إلا بعد سنوات طويلة من «الموت»، فلا تعود إلى حياتها الطبيعية إلا بموت مالكها، وظهور ورثة تصيبهم «هبشة المخ» التى أصابتنى، ويفكرون فى البيع والشراء، وإنفاق بعض السيولة فى شراء «كلاسين» جديدة، أو حتى طائرات خاصة يتم ركنها إلى جانب طائرة المورث الراحل، أو حتى بعض القصور واليخوت، والمجوهرات.
ولكى يتضح الكلام أكثر، أقول لك إنه فى ٢٠٢٠ كانت قيمة النقود «الميتة إكلينيكيًا» حسب بيانات «فوربس» أقل من تريليون دولار، وفى ٢٠٢١ قفزت إلى ثلاثة عشر تريليونًا، هذه التريليونات فى معظمها لا تدفع مرتبات، ولا تشترى شيئًا من الأسواق، «يكفى تريليون واحد منها لسد احتياجات هؤلاء الأشخاص الذين لا يصل عددهم إلى ٣ آلاف شخص فى كل الكرة الأرضية»، أما البقية فتظل مجرد أصول يملكها هؤلاء الأشخاص، دون أى ترجمة حقيقية فى الأسواق العالمية.
هذه التريليونات دخلت فى مسارات بديلة، ليس من بينها دورة النقد الطبيعية «من يد إلى يد، ومن عامل إلى آخر، أو من حرفة إلى أخرى».. هناك فى مرحلة ما، تتحول إلى مجرد أرقام، موجودة، لكنها لا تتم ترجمتها إلى أفعال، ملابس، مأكولات، أو أى شىء يسهم فى دورة رأس المال العالمى.. فقط تنتهى رحلتها إلى النوم فى خزائن مصفحة لا يفتحها مالكوها، ولا يقربونها، ولا حتى نادرًا.. هى كما قلت لك نقود فى حالة «موت إكلينيكى»، قصور ومساكن لا يدخلها أحد، ولا يعمل بها أحد، أوراق لا ينفقها أحد، يخوت فاخرة لا يتم استخدامها إلا نادرًا، وطائرات خاصة، مجوهرات، وأدوات زينة، وهو ما يؤدى بطبيعة الحال إلى «شح فى السيولة»، ونقص حاد فى المعروض النقدى، والنتيجة الطبيعية لذلك النقص أن قيمة «الكلسون» إلى قيمة «النقد العالمى المطبوع» شىء، وقيمته إلى «النقد الحى» شىء مختلف تمامًا.. فإذا كانت نسبة «النقد الميت إكلينيكيًا» قد تضاعفت بنحو أربعة عشرة ضعفًا، فأغلب الظن أنه من الطبيعى أن تكون نسبة الزيادة فى سعر قطعة القماش تلك أكثر بكثير من تلك النسبة.
ولك أن تلقى معى نظرة سريعة على ماضى الكرة الأرضية القريب، قبل خمسين عامًا مثلًا، كم كان سعر المنزل المتوسط فى أوروبا أو الولايات المتحدة الأمريكية؟! وما سعر نفس المنزل الآن؟!.. كم كان سعر السيارة، قطعة الأرض، سبيكة الذهب، وما سعر أى منها الآن؟!
قبل سنوات، ربما أقل من الخمسين، كان المليون الأول رقمًا صعبًا، وكانت الكتب تؤلَّف لشرح كيفية الوصول إليه، فهل ما زال الأمر على نفس الصورة؟! هل ما زال الوصول إلى المليون الأول حدثًا فارقًا فى حياة أى شخص، مصريًا أم خليجيًا أم أمريكيًا؟! أغلب الظن أن من يملك ذلك المليون الآن يتم تصنيفه كطبقة متوسطة دنيا، ولا يمكن حسابه بين الأثرياء.
هى باختصار ظاهرة عالمية، غير محدودة بجغرافيا، أو مكان محدد على خريطة العالم، فمع توسع الخزائن الخاصة بالبنوك، والحسابات السرية، وتضخم الثروات، تراجعت القوة الشرائية لجميع العملات الدولية، فلا الدولار اليوم أقوى منه قبل خمسين عامًا، والمنزل الذى كان يمكن شراؤه بعدة آلاف، أصبحت تكلفته بالملايين.. بالطبع هناك عملات شهدت انهيارًا عنيفًا لقوتها الشرائية، وأخرى لم تشهد ذات العنف فى الانهيار، لكنها جميعًا تراجعت، وأغلب ظنى أن أحد الأسباب الرئيسية لما حدث خلال تلك السنوات هو ارتفاع الملكيات الفردية غير المنتجة، والثروات الشخصية المجمدة، مع زيادة الإنفاق على الترفيه، وغيره من الأعمال غير الإنتاجية، ولكن هذا موضوع آخر ربما نحاول معًا تفكيك عناصره، ورؤية الأسباب التى أدت إليه، وما يمكن أن يترتب عليه من نتائج.. وربما يفكر أحدهم فى البحث عن حلول.