"حرف".. "الدستور" يكتب فصلًا جديدًا فى تاريخ الصحافة المصرية
فاجأتنا أسرة جريدة «الدستور» بإصدارها الجديد «حرف» لتكمل مسيرتها فى السير فى طريق مختلف ومتفرد رغم صعوباته الكثيرة. يتمثل هذا الطريق فى التعبير المعتدل عن الشخصية المصرية الحقيقية المتميزة بالثراء الشديد مع منح الكُتّاب مساحة كبيرة جدًا من الحرية فى اختيار الموضوعات أو الحرية فى التعبير عنها، وتجربتى الشخصية مع «الدستور» ومن خلال ما يقارب مائة مقال تجعلنى أوثق وأثمن وأقدر هذه المساحة غير المسبوقة من حرية الكلمة المسئولة التى كانت خلف نشر ما يقرب من 99% من مقالاتى التى أرسلتها للجريدة دون أى تدخل فى تغيير أى كلمة من أى مقال. اختارت إدارة هذه المؤسسة أن تسير فى الطريق الصعب الذى ينأى بها عن الإثارة والابتذال، ويقف فى صف الدولة المصرية الوطنية دون أن يحرم الكُتّاب من حق توجيه النقد شريطة الموضوعية والتوثيق إذا ما تعلق الأمر بوقائع معينة. هذا الطريق لا يغرى كثيرين ممن يبحثون فقط عن الإثارة المجردة مهما يكن ثمنها الذى يمكن أن تدفعه البلاد أو المجتمع فى سنوات بالغة الحساسية والخطورة من تاريخ مصر المعاصر.
هذا الطريق الموضوعى المتزن كان كافيًا جدًا لكى يضع هذا المنبر الإعلامى فى مكان متميز يستحقه بجدارة. لكن لم تكتف إدارة الجريدة بهذا وقررت أن تمنح صفحة ثابتة لمبدعى أقاليم مصر تشرف عليه الروائية والإعلامية د. صفاء النجار. وكثيرون ربما لا يقدرون هذه الخطوة حق قدرها. لكن قُرّاء الصحف المخضرمين والذين يبلغون العقد الرابع أو الخامس من العمر يدركون قيمة هذه الخطوة خاصة فى هذه السنوات التى بلغت كلفة النشر سقفًا مجنونًا. فأن تقرر إدارة جريدة أن تقوم بذلك فهذا يعنى، بشكل لا غموض فيه، أن هذه الإدارة تهدف لغايات محترمة تتخطى فكرة الربح والخسارة المادية، وتحاول أن تدفع فى طريق استنهاض الحركة الثقافية المصرية الحقيقية بعد أن كانت تلك الحركة على شفا الانهيار.
كما أفردت الجريدة مساحات كبيرة للكتابات التى تلقى الضوء على جوانب الحضارة المصرية عبر العصور، وقد كان لى شرف المساهمة فى ذلك عبر سلسلة من المقالات التى قامت الجريدة بنشرها سواء فى الأعداد الورقية أو الأعداد الإلكترونية. ولم تتحيز الجريدة إلى جانب دون جانب من شخصية مصر التاريخية وإرثها المكتظ بملايين المفردات وآلاف العناوين. فقرأنا على صفحاتها وربما لأول مرة بهذا الشكل المفصل عن رواد وأمراء بعض الفنون الشعبية التى امتدت آثارها عبر محافظات مصر، لكن كانت بعيدة تمامًا عن صحف مصر ومنابر إعلامها. ومن ذلك ما قام به د. محمد الباز مع شخصية بثقل الشيخ ياسين التهامى، الذى كان بعيدًا جدًا عن نيل ما يستحقه من ضوء، وأنا شخصيًا كنت أعجب كثيرًا لهذا التجاهل أو ربما التكاسل فى غربلة بر مصر بحثًا عن قطع اللؤلؤ المنسية.
وخصصت الجريدة قسمًا كاملًا يكتب به صحفيون مثقفون متفرغون لمتابعة الحركة الثقافية فى مصر ومتابعة ما يجد على هذه الساحة من كتب وإصدارات طوال العام، وليس فقط كما يفعل البعض فى فترات معارض الكتاب الكبرى مثل معرض القاهرة.
بادرت «الدستور» منذ أكثر من عام بإصدار ملحق بعنوان «أمان» يفتح صفحاته للكتابات التى تتصدى لمواجهة الفكر المتطرف، ولمواجهة محاولات البعض مساندة الجماعة الإرهابية عبر كتابات هنا أو هناك.
ثم أخيرًا كانت هذه الخطوة العملاقة بإصدار «حرف»، وهو إصدار متعدد الصفحات يتناول جوانب القوة المصرية الناعمة من فنون بمختلف أفرعها، وثقافة، ومبدعين. يفتش فى صفحات ماضية كانت على وشك الدخول إلى بوابة النسيان التاريخى، تشرفت بقراءة العدد الأول وأذهلنى هذا الجهد الكبير وهذا التنوع المميز، وأخيرًا فكرة فتح أبواب الإصدار لكل كتّاب ومبدعى مصر شريطة الموضوعية والابتعاد عن السطحية والشخصنة.
الذين كانوا يتابعون الساحة الثقافية المصرية منذ عقدى الثمانينيات والتسعينيات يدركون جيدًا قيمة هذا الحدث الكبير، الذى تتضاعف قيمته بما يحيط هذه الساحة الآن من عوامل مرهقة تمامًا لكل من يقرر اتخاذ هذه الخطوة.. إدارة «الدستور» تكتب فصلًا جديدًا مشرقًا ومشرفًا من تاريخ الصحافة المصرية ويضاعف من هذا الشرف أنها جريدة مستقلة، غير ممولة من مؤسسات ثقافية كبرى. فلقد انتظرت مصر سنوات طويلة قبل ذلك حتى تخرج إلى النور إصدارات مثل «أخبار الأدب» و«أخبار الرياضة» وغيرهما، وكانت هذه الإصدارات تصدر عن مؤسسات إعلامية حكومية لا تكترث بتحقيق الربح أو لا تخشى الخسارة. لكننا الآن أمام جهد مستقل تمامًا قررت مؤسسة صحفية مستقلة القيام به للمساهمة فى إعادة الروح لهذا الحراك الثقافى والفكرى والفنى المصرى، الذى يمثل جزءًا لا يتجزأ من معركة الوعى التى تخوضها مصر منذ ثورة يونيو. وأعتقد أن د. محمد الباز فى طريقه لأن يكون صاحب مدرسة صحفية خاصة به تُضاف إلى هذه المسبحة المصرية الخالصة الممتدة من بدايات القرن الماضى وحتى الآن، التى كانت أكثر حباتها قربًا زمنيًا لنا وأيضًا أكثرها بريقًا هى مدرسة «روزاليوسف»، وأعتقد أن أهم مقومات نجاح هذه المدرسة هى أنها مدرسة خالصة لمصر وللصحافة وليست لتمجيد ناظر مدرستها، وهو الفارق الذى أسقط محاولات أخرى سابقة.
بصفتى مواطنًا مصريًا قارئًا ومتابعًا لما يجرى على الساحة المصرية سياسيًا وفكريًا، وفى القلب منها الصحافة المصرية، وأيضًا بصفتى أحمل شرف استضافة قلمى على صفحات الجريدة التى تصدر عن هذه المؤسسة الإعلامية الوطنية «الدستور»، أتوجه بخالص التهنئة والتقدير لهذه الكتيبة الصحفية المتميزة على ما اتخذته لنفسها طريقًا يُدشن لهذه المدرسة الصحفية الجديدة، وعلى نجاحها فى هذه الخطوة الأخيرة التى سوف يُكتب عنها يومًا.. أنها سطرت فصلًا جديدًا فى تاريخ صاحبة الجلالة.